العدد 4851 - الجمعة 18 ديسمبر 2015م الموافق 07 ربيع الاول 1437هـ

سيرةُ كتاب: رواية «ليون الإفريقي» لأمين معلوف

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

يُبحر الإنسان منذ الصغر سابراً بحاراً عميقة غنية بمخزونها، تُعيق تقدمه ضحالة وسطحية بعضها الآخر. باحثٌ عن موانئٍ مكتنزة بما حملته البحار ليروي ظمأه المادي والمعنوي والمعرفي، وليرضي فضول بحثه عن حقائق مفقودة. لكلٍّ منا توجهاته ووجهاته التي تلتقي وتتقاطع مع الآخرين، كما تفترق عنهم حيناً آخر. هناك من يرسو في ميناءٍ وينهي رحلته، أو يتحول هو نفسه إلى مرفأٍ محملٍ بما جناه من ترحاله حتى يصبح مقصد الباحثين، ويستمر البعض متنقلاً بين الموانئ في رحلة لا تنتهي فصولها، منها ما تُشبع شغفه ومنها ما تضنيه. بعض الموانئ محببة نرغب بتكرار الرسو فيها كلما سنحت الفرصة. نتشابه - نوعاً ما - وسيرة ليون الإفريقي في تلك الرحلات، منها ما يغنينا ومنها ما يفقرنا على جميع الصعد الإنسانية والمعرفية والاجتماعية والصحية والمالية.

تلتقي بعض موانئ المعرفة لتشكل منارة معرفة جميلة، ففي إحدى الليالي جالَستُ مينائي معرفة قريبين إلى قلبي. قلت لهما: تَجُولُ في فكري صورة ضبابية عن حقبة تعج بالأحداث، ترسم خريطة مرحلة جديدة من تاريخ البشرية. يا هل ترى! كيف كان زمن انهيار غرناطة آخر الممالك الأندلسية؟ كيف كان حال الشرق ونهايات ممالكه وآخرها المملوكية؟ ما حال الدولة العثمانية الوليدة الصاعدة؟ كيف كانت بدايات النهضة؟ لو يُسعفني الوقت لقرأت تاريخ تلك المرحلة بتعمق أكبر! رد أحد صديقي وأثنى عليه الآخر، عليك برواية «ليون الإفريقي» فهي ترد على أسئلتك. إنها رواية على قدرٍ عالٍ من الأهمية، فبها تتوضح بوادر تشكل المشروع الأوروبي النهضوي والتوسعي ودور المؤسسة الدينية فيه، وسر الكنز المعرفي عن «وصف إفريقيا» لكاتبه بطل هذه الرواية الحسن بن محمد الوزان الفاسي الزياتي خلال تواجده في روما محطته الأخيرة قبل عودته إلى مستقره.

تبدأ رواية أمين معلوف «ليون الإفريقي» من النهاية بما يشبه وصية يكتبها الحسن الوزان لولده يُعرِّفُ بها عن نفسه فهو «ابن السبيل، وطني هو القافلة وحياتي هي أقل الرحلات توقعاً» ذاق الحسن رغد العيش كما قاسى شظفه، فمه نطق بلغات عدة «لأن جميع اللغات وكل الصلوات ملك يدي. ولكنني لا أنتمي إلى أي منها. فأنا لله والتراب، وإليهما راجع في يوم قريب» ويتابع حديثه لولده «وستبقى بعدي يا ولدي، وستحمل ذكراي، وستقرأ كتبي. وعندها سترى هذا المشهد: أبوك في زيّ أهل نابولي على متن هذه السفينة التي تعيده إلى الشاطئ الإفريقي وهو منهمك في الكتابة وكأنه تاجرٌ يُعِدُّ لائحة حساباته في نهاية رحلة بحرية طويلة. أليس هذا ما أفعله تقريباً: ماذا ربحت، ماذا خسرت، ماذا أقول للدّيان الأعظم؟ لقد أقرضني أربعين عاماً بددتها في الأسفار، فعشتُ الحكمة في روما، والصبابة في القاهرة، والغّم في فاس، ومازلت أعيش طهري وبراءتي في غرناطة». الرواية مقسمة لأربعة أقسام، كتاب غرناطة، وكتاب فاس، وكتاب القاهرة، وكتاب روما. تَسرِدُ في أربعين فصلاً سيرة ترحاله، وكل فصلٍ يروي سنة. استخدام أمين معلوف في سرده صيغة المتكلم، الأب إلى ابنه، ومع الانغماس في الرواية تشعر بأن الحسن يُوجِّهُ خطابه لك، لتتكون علاقة حميمة بينك وبين بطل الرواية. لقد قصد أمين معلوف ذلك فالحسن شخصية لا تتكرر، لقد مُدحت من البعض كما ذمها واتهمها بالخيانة آخرون. بينما أظهر أمين معلوف إنسانية الحسن وتجاوزه الأمم والأعراق والديانات كمن يعكس شخصية أمين معلوف ذاته، الذي قال ذات مرة في ردٍّ على سبب تناوله لسيرة هذا الرجل، بأن هذه الشخصية منسية نوعاً ما، واعتبره منتمياً للتاريخ الذي ينتمي له، لذا فإن أمين معلوف كان يشعر بوجود صلة روحية بينه وبين ليون الإفريقي، واعتَقَدَ بأنه من المهم تسليط الضوء على حياة رمز تاريخي عرف الانفتاح وشكل جسوراً بين حضارات مختلفة.

تبدأ الحكاية من كتاب غرناطة، فيسرد الراوي ولادته بتفاصيل الحياة في غرناطة القلقة المُحاطة بالتهديدات الخارجية إلى سقوطها. غرناطة آخر جنان الأندلس التي تحولت لجحيم انتهى برحيل من رحل وموت وقتل أكثر من بقي فيها من مسلمين ويهود. إلا أن رحيل أبي الحسن كان لحاجة أخرى في نفس يعقوب! ومن غرناطة إلى كتاب فاس عالم الضفة الأخرى بصرعاته الفكرية والثقافية والاجتماعية والعائلية. ما أن شب الحسن حتى بدأ ترحالاً جديد مخترقاً مجاهيل صحاري وغابات إفريقيا، مسجلاً كل التفاصيل والعادات والثروات والخرائط ليصنف المعلومات في ما بعد في كتاب «وصف إفريقيا» ذلك الكنز الذي كان بوابة الغرب لإفريقيا بقصد أو عن غير قصد الحسن الوزان. يُفتح كتاب القاهرة وقد اكتسحها الطاعون، ليعيش مغامرات كالخيال دخل فيها كل الأروقة وخرج متخفياً مع امرأة جركسية وابنها آخر الأحياء في سلالته بعد سقوط السلطنة المملوكية بيد سليم الأول المتعدد الصفات فهو العابس والرهيب والقاطع الذي انقلب على والده بايزيد الثاني وقتل كل منافسيه في الحكم من إخوته وأبنائهم. وبعد انتصاره على الدولة الصفوية في بلاد فارس وأذربيجان توجه لمصر لإنهاء حكم المماليك الذي استمر 267 سنة لتتسع رقعة الدولة العثمانية في الشرق، وتصبح أقوى دولة في وقتٍ بدأت فيه نهايات قرون أوروبا الوسطى. وعودةٌ لِلَيون، فقد أُسر على أرض صقلية في طريق عودته من الحج. لتبدأ أغرب رحلاته في كتاب روما. تغيرت حياة ليون جذرياً فقد استُعبد وأُهدي لبابا روما الذي أحبه وقربه وعمّده ومنحه فرصة تعلم ثقافة ولغات جديدة. مُسحت شخصيته العربية الإسلامية رغم حنين العودة.

تنتهي الرواية والحسن يخاطب ابنه في طريق العودة «مرة جديدة يا بني يحملني هذا البحر الشاهد على جميع أحوال التيه التي قاسيت منها، وهو الذي يحملك اليوم إلى منفاك الأول. لقد كنتَ في روما «ابن الإفريقي»، وسوف تكون في إفريقيا «ابنَ الرومي». وأينما كنتَ فسيرغب بعضهم في التعقب في جلدك وصلواتك. فاحذر أن تدغدغ غريزتهم يا بنيّ، وحاذر أن ترضخ لوطأة الجمهور! فمسلماً كنت أو يهودياً أو نصرانياً عليهم أن يرتضوك كما أنت، أو أن يفقدوك. وعندما يلوح لك ضيق عقول الناس فقل لنفسك أرض الله واسعة، رحبة هي يداه وقلبه، ولا تتردد قطّ في الابتعاد إلى ما وراء جميع البحار، إلى ما وراء جميع التخوم والأوطان والمعتقدات. أما أنا فقد بلغتُ نهاية رحلتي... إلى ذلك المثوى الأخير الذي لا يُحِسُّ فيه أحدٌ قطّ بالغربة أمام وجه الخالق».

العدد 4851 - الجمعة 18 ديسمبر 2015م الموافق 07 ربيع الاول 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 10:42 ص

      ثلاثية غرناطة

      ربما من المفيد البدء ب "ثلاثية غرناطة" للكاتبة رضوى عاشور لمن يريد أن يعرف ارهاصات ما قبل سقوط الأندلس. ليون الأفريقي رواية من طراز 5 نجوم

    • زائر 1 | 12:10 ص

      ابداع

      كأني اقرى الرواية وارى فيلماً سينمائيا مكتضاً بالاحداث. ابدعت ابن امي وابي. ابدعت.

    • زائر 2 زائر 1 | 12:46 ص

      ...

      شكراً على دعمك اللامحدود.

اقرأ ايضاً