العدد 4851 - الجمعة 18 ديسمبر 2015م الموافق 07 ربيع الاول 1437هـ

الساحل الغربي قبل الإسلام: بين الفرضيات السردية واللقى الأثرية

هناك العديد من الفرضيات التاريخية التي تتعلق بتاريخ البحرين في فترة ما قبل الإسلام، من تلك الفرضيات ما تحول إلى نظريات وحقائق ومسلمات. إن مثل هذه الفرضيات لا يمكن نقاشها بمعزل عن نتائج التنقيب الآثارية في البحرين؛ فلا يمكن أن نحدد تاريخ الاستيطان في منطقة ما دون مقارنة الدراسات النظرية باللقى الآثارية في المنطقة، وخصوصاً، عند الحديث عن فترة ما قبل الإسلام والتي تعتبر آثارها نادرة جداً في البحرين. وقد سبق أن أشرنا أن الاستيطان في هذه الفترة كان مقتصراً على الجزء الشمالي من البحرين وبالتحديد الشاخورة والحجر والمقشع وجبلة حبشي التي تمثل مواقع الاستيطان في الحقبة الساسانية المتأخرة والتي تمثل العصر الجاهلي أو حقبة أوال. أما الاستيطان، في الحقبة الهلنستية، على الساحل الغربي للبحرين فقد اقتصر على ثلاث مناطق فقط وهي كرزكان، والمالكية، ودار كليب، ولم يستمر الاستيطان طويلاً في هذه المناطق؛ حيث من المرجح، من خلال نتائج التنقيب الآثارية، أنه انتهى قرابة 450م.

هذا، وسبق أن وظفنا، نتائج التنقيب الآثارية في فترة ما قبل الإسلام، في تحديد مناطق الاستيطان في فترة أوال، وتحديد ساحل أوال. يذكر، إلا أن هذه النتائج تتعارض مع فرضيات يرجحها عدد من الكتاب، من مثل، استيطان فروع من قبيلة وائل، ككليب وبكر وتغلب، على الساحل الغربي للبحرين وبالتحديد في دار كليب والمالكية. ويمكن تلخيص تلك الفرضيات في نقطتين أساسيتين، وهي أن البعض يعد قريتي دار كليب والمالكية من مواطن قبيلتي كليب وائل، وبكر بن وائل، وأن إحدى تلك المناطق هي محل ولادة، أو مكان حياة، الشاعر طرفة بن العبد من قبيلة بكر بن وائل. بالطبع هذه الفرضيات لا يمكن فصلها عن فرضيات أخرى تقويها من مثل اسم البحرين القديم «أوال» الذي يرجح البعض أنه كان اسم صنم لبكر بن وائل وتغلب بن وائل. إن مثل هذه الفرضيات لا يمكن أن تحول إلى حقائق ومسلمات، فهناك عدد من التناقضات التي تضعفها. وقد تصدى فضل العماري لهذه الفرضيات وحاول تفنيدها وذلك في سلسلة من الدراسات نشرها في مجلة الواحة (الأعداد 51 و53 و54).

فرضية استيطان تغلب وبكر في أوال

يرجح عدد من الباحثين أن فروعاً من قبيلتي تغلب بن وائل وبكر بن وائل استوطنت أوال في حقبة ما قبل الإسلام اعتماداً على ما ذكر في بعض المراجع حول وجود صنم لبكر بن وائل وتغلب بن وائل اسمه أوال (انظر على سبيل المثال ياقوت الحموي في «معجم البلدان» في مادة أوال). كما، ويرجح مجموعة من الباحثين أن اسم الجزيرة اشتق من اسم هذا الصنم. هذا وقد حاول كل من Beaucamp وRobin إثبات استيطان تغلب وبكر في أوال، وذلك من خلال إدخال تعديل في رواية الطبري حول حملة سابور الثاني على القبائل في شرق الجزيرة العربية، في العام 325م، حيث جاء فيها أنه قاتل بكر بن وائل في شرق الجزيرة العربية وأنه قاتل تغلب بن وائل في الشمال، وبعد ذلك «أسكن من بنى تغلب من البحرين دارين - واسمها هيج - والخط....» (الطبري، دار الكتب العلمية، 1407هجرية: ج1 ص399).

أما التعديل الذي قاما بإدخاله فهو تعديل على نص الطبري السالف الذكر بحيث أصبح النص يقرأ «أسكن من بنى تغلب من البحرين دارين وسماهيج والخط» وذلك أن هيج غير معروفة إطلاقاً، وسماهيج هي جزيرة المحرق (Beaucamp et Robin 1983). فإن سلمنا بصحة ذلك، فبذلك تكون كلا القبيلتين، بكر وتغلب، أو فروع منهما سكنا شرق الجزيرة العربية، بما في ذلك أوال وسماهيج، في وقت مبكر قبل الإسلام. ومع ذلك، يبقى النقاش متمحوراً حول مدى أهمية هذا الصنم المسمى أوال الذي لا نعلم له وصف ولم يكن الصنم الرئيسي لقبيلتي بكر وتغلب وكذلك أن أياً من القبيلتين لم تكن لها السيادة في شرق الجزيرة العربية بل كانت السيادة في قبيلة عبد قيس.

كذلك فإن تلك الفرضية تتعارض مع روايات تاريخية ترى أن غالبية سكان أوال اعتنقوا المسيحية النسطورية، وقد سبق أن ناقشنا ذلك بالتفصيل في سلسلة سابقة. كما أن فضل العماري يشكك في ذلك، ويذكر وجود أكثر من منطقة كانت تعرف باسم أوال، فهناك أوال في الشام وأوال في المدينة، حتى أن أوال كان اسم صنعاء في سالف الدهر (العماري 2009، الواحة العدد 53)، ومما جاء، أيضاً، في رده لتلك الفرضية:

«ليس في هذا القول (أي اشتقاق اسم أوال من اسم الصنم) ما يربط بين الاسم والقبيلتين بحيث يوحي أن الجزيرة أخذت الاسم منه فإذا كان الاسم قديماً - أياً كان موقعه وزمنه - فإنه يعني أن القبيلتين سكنتا هذا الجزء من شرقي الجزيرة العربية، والمعلوم المؤكد أن تغلب بن وائل - وكذلك بكر بن وائل - لم تسكنا هذه المنطقة في فترة قديمة قبل الإسلام فتغلب كانت في وسط نجد، في أعلاه، حتى أوائل القرن السادس الميلادي، ثم زحفت شمالاً متجهة نحو شمالي العراق، وكذلك بكر، ولأن بكر قبيلة ضخمة فقد انتشرت بعض عشائرها في بادية البحرين القديمة» (العماري 2009، الواحة العدد 53).

أما عن الشاعر طرفة بن العبد الذي ينتسب لبكر بن وائل، فيرى عدد من الباحثين أنه ولد في البحرين الكبرى، ومنهم من يخصص، فيذكر أنه ولد في أوال، ومنهم من زعم أنه ولد على الساحل الغربي من أوال، في دار كليب أو المالكية. إلا أن العماري يرى أن الشاعر ليس له علاقة بالبحرين، وأن «موطن طرفة الحقيقي، فهو في نجد، وسطه وجنوبه الشرقي وجنوبه الغربي، وتنقّلاته في شمال غربي حفر الباطن، بعيداً عن الساحل لا يقربه، حتى إنه لم يذكر قطّ موضعاً من المواضع في تلك الجهات» (العماري 2009، الواحة العدد 54).

استيطان كليب وائل في أوال

إن أول من ذكر استيطان قبيلة كليب على الساحل الغربي في حقبة ما قبل الإسلام، وعدها فرضية هما الشيخ عبدالله الخليفة وعبدالملك الحمر وذلك في الجزء الأول من كتابهما «البحرين عبر التاريخ»، وقد تم تعزيز تلك الفرضية بروايات مساندة كمسمى أوال، وهو صنم لوائل، وجاء في كتابهما:

«يذكر المؤرخون سيطرة أبناء وائل على جزر البحرين، وأن أكبر تلك الجزر (وهي المنامة حالياً) استمدت اسمها أوال من اسم صنم لأبناء وائل كان مقاماً فيها. وسكان قرية (دار كليب) في البحرين يذكرون أن قريتهم قد استمدت اسمها على الأرجح من اسم كليب وائل. هذه أخبار تناقلتها الأجيال ولا ندري مداها من الصحة، ولاسيما إذا عرفنا أن منازل كليب وائل هي حمى ضربه والذنائب وواردات كلها في نجد بالقرب من حائل، ولكن لا نعرف إذا كان كليب ينتقل صيفاً إلى إقليم البحرين لما كانت له السيطرة في استيفاء رسوم فرضها إبان حكمه. وقد يكون لذلك صلة دينية حيث يوجد صنم القبيلة في أوال» (الخليفة والحمر 1982، ص 112)

الفرضية ذاتها تم تناقلها في دراسات أخرى، فذكرها عثمان عبدالرحمن آل ملا في كتابه (تاريخ هجر)؛ حيث جاء فيه عن قرية دار كليب في البحرين وزعم سكانها أنها «قد استمدت اسمها على الأرجح من اسم كليب، وهذه أخبار تناقلتها الأجيال، فلعل كليباً كان ينتقل إلى البحرين صيفاً لاستيفاء مكوس فرضها أو لأداء شعائر دينية» (العماري 2008، الواحة العدد 51). وقد رد على ذلك فضل العماري مؤكداً أن كليب وائل بنجد، وليس بالبحرين الجزيرة، وجاء في دراسته أن ذلك الزعم يعتبر «من الأساطير التي شاعت حول كليب وائل، فجزيرة البحرين آنذاك كانت تحت السيطرة الفارسية كلية، وكليب وائل كان بعيداً كل البعد عنها، في منطقة وسط نجد، وتحديداً فيما بين عفيف حتى جنوب ضرية، ودُفن مقتولاً في (الذنائب) هنالك. وذكر ياقوت (في معجم البلدان): الذنائب، وبه قبر كليب» (العماري 2008، الواحة العدد 51).

الخلاصة أن فرضية استيطان فروع من قبائل بكر وتغلب وكليب أبناء وائل لا يمكن أن نسلم بها لما فيها من تناقضات، وفي نفس الوقت لا يمكن ردها كلياً، والحال ذاته مع فرضية نشأة الشاعر طرفة بن العبد في البحرين. وعليه تبقى الفرضيات كما هي فرضيات، لكنها ليست حقائق مسلماً بها. وليست هذه الفرضيات التاريخية الوحيدة المتناقضة التي تخص الساحل الغربي من البحرين، فلازالت هناك أخرى، من مثل فرضية بناء نظام القنوات التحت أرضية، وهو ما سوف نناقشه في الحلقة القادمة.

العدد 4851 - الجمعة 18 ديسمبر 2015م الموافق 07 ربيع الاول 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً