العدد 4850 - الخميس 17 ديسمبر 2015م الموافق 06 ربيع الاول 1437هـ

الدعوة إلى أن تكون اللغة العربية «حية»... وتعريب العلوم

في اليوم الدولي للغة العربية... مطالبة «المجاميع اللغوية» بالتحرك للحفاظ عليها

حسين سلمان - علي فرحان
حسين سلمان - علي فرحان

يحتفل العالم اليوم (18 ديسمبر / كانون الأول) باليوم الدولي للغة العربية، ويتمحور احتفال هذا العام حول «اللغة العربية والعلوم». هذا ما أعلنه رئيس الهيئة الاستشارية لتنمية الثقافة العربية (ارابيا) السفير المندوب الدائم للمملكة العربية السعودية لدى اليونسكو زياد الدريس الذي قال «إن قرار اختيار هذا المحور من شأنه إعادة لفت الانتباه الى أهمية اللغة العربية والقيمة العالية التي تحظى بها على مدى التاريخ نظرا لمكانتها في الحضارة البشرية ولإسهاماتها في التطور العلمي على مدى القرون».

وكان المجلس التنفيذي لليونسكو قرر في دورته 190 في أكتوبر / تشرين الأول 2012 تكريس يوم الثامن عشر من كانون الأول / يسمبر للاحتفال باليوم الدولي للغة العربية، وجاء اختيار هذا التاريخ لأنه اليوم الذي أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1973 اعتبار اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية لها ولكل المنظمات الدولية المنضوية تحتها.

اما خطة تنمية الثقافة العربية (أرابيا) التي أنشأتها اليونسكو عام 1999 فتهدف إلى «توفير إطار يمكن البلدان العربية فيه من تنمية تراثها الثقافي، بحيث يصان الماضي مع التركيز بوجه خاص على المستقبل، وينفتح العالم العربي على التأثيرات والتكنولوجيا الجديدة مع الحفاظ على سلامة التراث العربي».

«الوسط» التقت اختصاصي اشراف تربوي حسين سلمان، ورئيس قسم اللغة العربيّة والدّراسات العامّة في الجامعة الاهلية، علي فرحان، اللذين بدورهما طالبوا المجاميع اللغوية، بالتحرك للحفاظ على اللغة العربية، وتعريب العلوم التي تتناسب مع وقتنا الحاضر.

من جهته، قال اختصاصي اشراف تربوي حسين سلمان، بأن «اللّغة العربية تأتي في مقدّمة اللّغات التي نجحت في القيام بدورها الحضاري، وارتفعت بأهلها من مجتمع بدوي صحراوي إلى مجتمع حضاري، وصارت لغة الحضارة، والعلم والمعرفة على مستوى العالم لقرون متلاحقة».

واضاف «يكفي في هذا الصدد أن أذكر ما قام به العلماء العرب الأوائل من ترجمة علوم الفرس، والإغريق، والصين، والهنود، وأضافوا غليها كثيراً، ولاتزال الآثار ظاهرة للعيان حتى عصرنا في الكيمياء، والفيزياء، والطب، والفلك، وعلم الحساب، والميكانيكا، والبصريات، وفي المجالات العلمية كافة».

وتابع «استخلص من هذا الكلام أنّ المشكلة ليست في العَربية، بل المشكلة كانت ومازالت في العرب أنفسهم، فهناك هجمة شرسة لطمس وتدمير، وتخريب كل ما له صلة باللغة العربية من أجل إبعادها عن مجالات العلم والمعرفة، والحياة العامة، ومن هذه الدعوات الدعوة بالكتابة بالعامية، واستخدام الحرف اللاتيني في الكتابة كما هو في بعض الدول».

العربية استوعبت العلوم

وقال سلمان «فلغتنا حملت آدابنا، واستوعبت علوم حضارتنا، ولعلّ من أظهر الأدلة انتشار العلم العربي الإسلامي باللغة العربية لغة المعرفة، وما تزخر به اللّغات الأجنبية من المصطلحات العربية حتى هذه الأيام، وللأمانة هناك من المستشرقين من أنصف العرب، وأشاد بفضل العربية على العلم الحديث، وهم أفضل نجابة من أبناء اللغة، واقصد بذلك المستشرقة الألمانية» زيغريد هونكة» أبرز هؤلاء في حين هناك من أبناء اللغة والمحسوبين عليها من يدعو إلى هجر اللغة الفصيحة، واستبدالها بالعامية المحكية، أو مزجها بالعامية بدعوى التسهيل أو التسهيل مرة، او الاعتماد على اللغات الأجنبية بديلاً عنها؛ كأنّ التطوّر لا يكون إلاّ بالانسلاخ من اللغة العربية؛ علما أن هناك أمما كثيرة قد تطوّرت مع حفاظها على لغتها القومية، والاعتزاز بها كاليابان، والصين، وروسيا، وسائر الدول الأوروبية».

واردف «لا يمكننا أن نحمل اللغة العربية مسئولية الفوضى، والتقهقر الحضاري الذي تعيشه الأمّة العربية على مختلف الأصعدة. فليس صحيحا أنّ العربية عاجزة عن مواكبة التقدم التقني في عصر الانفجار المعرفي، وفي عصر العولمة، وليست القضية هي قضية اللّغة العربية، إنما هي قضية العرب افرادا وجماعات، ومؤسسات، وجامعات، وما أصاب اللغة العربية هو انعكاس لواقع الأمة الثقافي، والاجتماعي، والاقتصادي، بحسب نظرية ابن خلدون تقليد المغلوب للغالب، فالعرب والمسلمون لا ينتجون المعرفة بل هم مستهلكون ومتقبلون ، فكيف تنتج اللغة مالم تنتجه العقول فكراً، وعلما، ومخترعات».

واضاف «الواقع اللغوي مرتبط بعوامل سياسية واقتصادية فالتفرق السياسي وغياب التخطيط المشترك سبب رئيس في هذا التدهور الذي تعيشه اللغة، والاقصاء، والتشويه؛ لذلك الحديث عن أنّ العربية لغة غير علمية ؛ أي أنها عاجزة عن الوفاء بمتطلبات التعبير عن العلم الحديث يكّذبه الواق ، والتاريخ».

وقال في لقائه، عن تجربة سورية في تعريب العلوم، بأن «هناك تعريب الطب وسائر العلوم العقلية والتدريس باللغة العربية منذ عام 1919 من القرن الماضي في بداية تأسيس المعهد الطبي بدمشق حتى الآن، وقد أثبت خريجو الجامعات السورية من الأطباء، والمهندسين تفوقا ملموسا واضحا؛ لأنهم تعلموا بلغة الأم، واستوعبوا المادة استيعابا قويا، وكذلك في تجارب أخرى في فترات ماضية في مصر، والعراق، وليبيا، والأردن، ولكن لم تستمر لأسباب لاعلاقة لها باللغة بل لأسباب سياسية، واقتصادية»!

دور المجاميع اللغوية

وعن الدور التي تقوم به المجامع اللغوية، قال سلمان «هناك قصور في دور المجامع اللغوية المنتشرة في بلدان الوطن العربي، في إحلال اللغة مكانتها الحضارية، واقتصر دورها مع الأسف على بعض الأمور ، كإجازة بعض الأساليب، وكتابة بعض الكلمات بطريقة معينة، ولم يتفقوا على آلية موحّدة في توحيد المصطلح العلمي ، وجعل الأمر متروكا للافراد، والمؤسسات الجامعية، ودور النشر، والتصدي لحركة تعريب العلوم المختلفة، بل دخلت في صراعات ثقافية مع بعضها بعضا».

وتابع «حتى على صعيد نشر الأبحاث العلمية فتنشر باللغة الإنجليزية؛ لتعترف الجامعات بها، والا فلن تلقى القبول والاعتراف العلمي مهما كان مستواها العلمية؛ لماذا لان المجلات العربية غير مسجلة في فهارس المؤسسات العلمية العلمية؛ فمن يتحمل هذا؟!». مضيفا «هذا سيؤدي حتما إلى ترسيخ فكرة عدم صلاحية العربية للعلم».

العربية... فلسفية العلوم

من جهته، قال رئيس قسم اللغة العربيّة والدّراسات العامّة في الجامعة الاهلية، علي فرحان «إنّ الخوض في جدلية الأسبقيات – وإنْ كان مغريًا – إنْ لم يوظّف في توليد حقيقة علمية أو فلسفيّة فإنّه لن يفرز معرفة يطمأنُّ إليها؛ كونها معرفة حقيقيّة؛ فلقد سبقنا السفسطائيون إلى هذا النوع من البحث فما أوصلوا البشريّة إلى ساحة المعرفة. وبقينا نتندّر على جدلية أسبقية البيضة والدّجاجة».

واضاف «إنّ البحث في جدليّة أسبقية الفكر على اللغة أو اللغة على الفكر؛ لن ينتج فكرًا نبني عليه معرفة مستقرّة بقدر ما نثير من قلق معرفيّ لا يرسي إلى شاطئ آمن. لكنّ الأمر الّذي نطمئنّ إليه – علميًّا وعمليًّا – أنّ العلاقة بينهما وثيقة وثاقة الوجهين للعملة الواحدة؛ فلا لغة بغير فكر، ولا فكر بغير لغة تعبّر عنه، كما أنّ كليهما يسهم في تطوير الآخر على وجه التبادل والتكامل. من هنا نقول بأنّ اللّغة حامل للفكر؛ لا تنفكّ عنه البتّة. فهي أداة التفكير والتخيّل والتصوّر والتّعبير».

واضاف «شكّلت اللغة العربيّة بناء فكريًّا وحضاريًّا، لا يمكن أنْ يشار إليه من دون أنْ يشار إليها. ولا يعني ذلك أنّ حضارة العرب – كما يتوهم البعض – هي حضارة قول فحسب دون فعل. وإلا لما سادت هذه الحضارة العالم في أحقاب من الزّمن، وكوّنت بنية حضاريّة اتّسمت بالدوليّة وامتدّت فيه»!

وسؤالنا اليوم: هل هناك لغة يمكن أنْ توصف بأنّها لغة العلم والحضارة والفكر و... ، وأنّ غيرها ليست كذلك؟

هل هناك لغة – بطبيعتها - أقدر على استيعاب العلوم والفنون والآداب من غيرها من اللغات؟

يقول فرحان «تذهب اللسانيات الحديثة اليوم إلى أنّه « لا لغة في العالم أقدر بطبيعتها على استيعاب العلوم والآداب والفنون من أية لغة أخرى، وأنّ بوسع أيِّ لغة استيعاب هذه الحقول إذا تهيّأ لها المستوى الحضاريّ المطلوب للناطقين بها؛ فإنْ كانت قائمة مفردات اللغة الإنجليزيّة أفضل بطبيعتها من قائمة الإسكيمو، أو أنّها أقدر على استيعاب العلم والتّقنيات الحديثة، فكلّ ما يمكن قوله إنّ الناطقين بالإنجليزية أرفع حضارة وأعلى مستوى اجتماعيًّا من الناطقين بلغة الإسكيمو، وأنّ لغة الإسكيمو ستتوسّع تلقائيًّا، وتزيد مفرداتها إلى ما تضاهي به الإنجليزيّة عددًا في حالة وصول المستوى الحضاريّ للناطقين بها إلى ذات المستوى الّذي يعيشه الناطقون بالإنجليزيّة حاليًّا».

التحول التاريخي

واردف «اللغة العربيّة ليست بدعًا من اللغات؛ فحينما صعد الناطقون بها – بعد التحوّل التاريخي الّذي حدث للإنسان العربي بمجيء الإسلام، وحرّر العقول من الوهم والوهن والتّبعيّة والعصبيّة – إلى المستوى الحضاري المطلوب، نمت لغتهم وتوسّعت وازدادت قائمة مفرداتها، وكان عليها أنْ تستوعب جديد الحضارة من العلوم والآداب والفنون، فتطوّر مبناها ومعناها لتستوعب ذلك كلّه». وتابع «لكن على الإنسان العربي أنْ يؤمن أنّ لغته قادرة على أنْ تعود لتكون لغة العلم والحضارة كما كانت في أوج ازدهار الحضارة العربية الإسلاميّة».

منوها «دأب البعض أنْ ينحو باللائمة على الآخر في تخلّف اللغة العربيّة بأنْ تكون لغة العلم والمعرفة في عصرنا الحديث؛ واستحضر «نظرية المؤامرة « في كلّ مفاصل الحياة العربيّة، وأخذ ينوح على «اللبن المسكوب»، ويحنق على الاستعمار والتبشير والاستشراق في تنحية اللغة العربيّة من حياة العلم والمعرفة ( ). حتى ذهب الذّاهب إلى أنّ أحد أسباب انهيار الحضارة العربيّة هو السطو على مصطلحاتها ومفاهيمها، يقول عبد الرحمن بو درع:» لقد كانت العربيّةُ ركنًا من الأركانِ التي قامَ عليها نظامُ الحضارةِ الإسلاميّةِ بمفاهيمِه ومصطلحاتِه ودلالاتِه، قبلَ أن يتمَّ السّطو على المُصطلَحاتِ وتحريفُها عن مواضعِها لتزييفِ الحقائقِ وقطعِ التّواصلِ بين النّاطقينَ بها».

ورى فرحان «بأن اللغة العربية تبط بأمرين: أولهما غربة اللغة العربيّة بين أهلها، والآخر الانبهار بالحضارة الغربية وما يدور في فلكها، فأمّا الأوّل فأسبابه كثيرة، أبرزها حين آلت الخلافة والإمارة في الدّولة الإسلاميّة إلى غير العرب، فأهملت اللغة العربيّة وتحوّلت من المركز إلى الهامش؛ وبنظرة تاريخيّة فاحصة نجد أنّ حضارة العرب تعرضت إلى نكبات كبرى حينما استولى المغول التتار على بغداد (حاضرة العلم والحضارة العربيّة)،

السبب الآخر انهزام أبناء العروبة أمام الحضارات الإنسانية الحديثة لاسيما الحضارة الغربية انهزامًا نفسيًّا، جعلهم يشعرون بالهوّة العميقة بين واقعهم وواقع الحضارات الأخرى، فأصيب عدد كبير منهم باليأس والإحباط، واستصغر نفسه أمام الأمم الأخرى؛ حتى وصل الحدّ حدّ التّندّر على العرب والعروبة. ورغم محاولات عصر ما عرف بالنهضة العربيّة وجهدها لاستعادة الهوية المفقودة إلا أنّها لم تفلح أنْ اللغة العربيّة للواجهة من جديد؛ لتكون مركز الأمّة الّتي تريد أنْ تنهض من جديد».

أسباب غربة اللغة العربية

ومن أهم الأسباب الّتي أدت إلى غربة اللغة العربيّة، يقول فرحان «ذلك الانفصام الممضّ بين لغة الأمّ واللغة الأمّ، فبات أطفالنا في البيت يكتسبون لغة تختلف في مبناها ومعناها عن لغة المدرسة الّتي يفترض فيها أنْ يكون لغة العلم والمعرفة الّتي يستندون إليها في التحصيل العلمي؛ على أطفالنا أنْ يعانوا من جديد كي يتعلموا لغةً تقبع داخل غرف الدّراسة (إنْ كان هذا موجودًا أصلا في يوم الناس هذا على وجهه السّليم)!، ولا يسمعها الطفل في داره من أبويه ومحيطه».

ويضيف «إنّ هذا الانفصام من أعقد المشكلات الّتي تجعل اللغة العربيّة (الفصحى) غريبة عند أطفالنا؛ إنّها المعاناة المرة الّتي تجعل الطّفل وكأنّه أمام مشكلين في غرفة الدّرس وحينما يقرأ كتابه المقرّر. المشكل الأوّل كيف يحلّ طلاسم هذه اللغة الغربية ؟!، والمشكل الآخر كيف سيستوعب هذا العلم وسيعبّر عنه بتلك اللغة الغريبة عليه»؟!

وتابع «سيكون – الطفل – مشغولا بفهم اللغة أوّلا؛ عليه أنْ ( يترجم ) هذه اللغة – ولو ذهنيًّا – إلى اللغة الّتي يفهمها ويتحدّث بها مع والديه وأقرانه. إنّه مشكل عويص يحرج المعلّم كذلك؛ فتلاميذه لن يفهموا المادّة إذا خاطبهم بالفصحى! لكنّ رسالته التّربويّة والقوميّة تحتّم عليه أنْ يكون حامل اللغة إلى الأجيال، إنّه بين أمرين أحلاهما مرّ. ماذا سيفعل لأولياء الأمور والمراقبين والإداريين إذا وجدوه لا يوصل المعلومة إلى تلامذته؟، أهو أستاذ فاشل أم معقّد»؟

واردف «يقع هذا الأستاذ المسكين تحت رحمة الضّغوط؛ وكما يقال التيّار جارف؛ فيستسلم ذلك المسكين فيدرس تلامذته بلغة يفهمونها؛ إنّها لغة الأم لا اللّغة الأم, من جديد نعود فنسهم في غربة اللغة العربيّة، ونحبسها في شرنقة الماضي، وفي بطون الكتب».

واضاف «هذا الانفصام غير منحصر بين لغة الأمّ واللغة الأمّ – إنّه للأسف أضحى ظاهرة سائدة في ثقافة العرب الرّسميّة وغير الرّسميّة. فجلّ البلاد العربية – إن لم يكن كلّها – تشرّع في قوانينها ودساتيرها أنّ اللغة الرّسميّة للبلد هي اللغة العربيّة، ولا يعدو الأمر أنْ يتغنّى بها المتغنى، ويفتخر بكونها أبرز عناصر هويته العربيّة والوطنيّة والقوميّة والدّينيّة، أو هي لغة الإعلام المسموع أو المقروء أو المكتوب في أحسن الأحوال».

وتابع «أمّا في واقع الحياة العملي – والعلمي كذلك – فاللغة العربيّة تقع في الهامش، وقد تقع في الهامش البعيد، وربما تكون مغيّبة تمامًا. وبات الإنسان العربيّ – في بعض المواقع – يعيّر لعدم معرفته باللغة الأجنبيّة السّائدة، ولا يعاب عليه عدم معرفته بأبسط أسس لغته الأمّ (اللغة العربيّة)؛ صار الإنسان العربي في كثير من البلاد العربيّة يتوارى خجلا إنْ لم يحسن اللغة الإنجليزيّة أو الفرنسيّة، ويتباهى بأنّه لا يفقه من لغته الأم سوى عاميّة مهلهلة يستعملها – إن اضطرّ – في بعض الأحياء والحواري الّتي لم تغزها المدنية الحديثة. وأستذكر أحد الأصدقاء الّذي كان يدردش مع اينه الشّاب – في الواتس آب – باللغة الإنجليزيّة؛ قائلا :» إنّ ابني لا يعرف الكتابة بالعربي «، هذه حالة من حالات كثيرة متكررة في واقعنا المعاصر. والتّجارب في ذلك كثيرة لا يسع المجال لذكرها في هذه العجالة.

أسباب تخلف اللغة العربية

أصبح الإنسان العربيّ لا يهمّه إنْ أجاد اللغة العربية أم لم يجد؛ بل ليس معنيًّا أصلا بتعليم ابنه هذه اللغة الّتي باتت غريبة عن واقع الحياة. فهل بعد هذه الغربة غربة؟! وهل بعد هذا التيه تيه ؟!

أمّا الأمر الآخر المتسبب في تخلّف اللغة العربيّة عن أنْ تكون لغة العلم والمعرفة في عصرنا الحديث فيرتبط بانبهار الإنسان العربي بالحضارة الغربية وما يدور في فلكها. وهو انبهار مبرر من جهة؛ لما آلت إليه أمور العرب والمسلمين من ضعف وتخلّف في كلّ الميادين، وما صاحبه من انهيار في القيم المعرفية، وضعف وشتات في قبال أمّة جاءت – في ظاهرها – لنخرجهم من الظلمات إلى النّور؛ فأسست المدارس النظاميّة والمستشفيات والمصالح، وأنارت المدن والقرى؛ وفجّرت ينابيع النفط الّتي كانت تجري من تحتهم أنهارا، وهم عنها غافلون.

صار الناس يلهثون وراء مجد الحضارة القادمة من القارّة العجوز؛ فسادت فكرة أنّ الغربيين استشرقوا فنهضوا؛ فلم لا ( نستغرب ) لننهض بنهضتهم ؟ وصار الجدل المعتاد في الثقافة العربية وهذه المرة بين التغريب والتعريب.

إنّ هذا الانبهار أدخل العالم العربي في وهم أنّه لن يرقى ولن يتطوّر، ولن يعود إلى سابق عهده في ريادة العالم، وفي إعادة النهضة لأمّة كان لها من المجد التاريخي ما كان – إلا إذا تعلّم لغة الغرب الأوربي؛ فهي لغة العصر، ولغة العلم، ولغة الحضارة.

وظلّ أصحاب القرار حبيسي هذه الفكرة – بصورة أو بأخرى – حتى صار واقع الجامعات العربيّة ومعاهد البحث والعلوم فيها مطبقة لهذه الرؤية واقعًا عمليًّا حاضرًا في المؤسسات الحكومية والخاصّة.

منذ ما يقارب القرن ونحن نجعل لغتنا الأمّ في الهامش، ولغات غيرنا – لاسيما الإنجليزية – في المركز. فما كانت النتيجة؟ هل استطاعت اللغات البديلة أنْ نخلق حضارة عربيّة جديدة؟ هل نهضت أمتنا بعدما تخلّت عن لغتها، وأصبحت تقدّم للبشريّة المنجز من العلم نلو الآخر؟

إنّ ما يحدث في واقع الحال – وهو ما أشار إليه العلامة الأستاذ الدكتور ناصر الدّين الأسد في إحدى المقابلات التلفزيونيّة – أنّ المتعلم بلغة غير لغته القوميّة يبدو منشغلا بلغة العلم، لا العلم ذاته، فيتخرّج في مجاله وقد اكتسب بعضًا من لغة ذلك العلم، وبعضًا من معرفة في ذلك العلم. ما يقوم به ذلك المتعلّم في حقيقة الأمر أنّه يقوم بعملية ترجمة في نفسه لذلك العلم، فينشغل بما يترجمه، وسيكون في الأغلب الأعم ناقلا لذلك العلم غير مبدع فيه.

ربما يثير مثل هذا الادّعاء قلقًا عند الكثيرين؛ لكنّ واقعنا العلمي والحضاري المعاصر لا يكذّب هذا الادّعاء؛ فمازلنا مذ نهجنا هذا النهج، وجعلنا لغة غيرنا لغة علم ما استطعنا أنْ نلحق بركب الأمم المتقدّمة، فبتنا نلهث وراء السّراب ولا نجد ال ولا نجد الماء الفرات.

في الجانب الآخر أمم تعاصرنا الزمان، وتشاركنا الانبهار بالحضارة الغربيّة، وضعت لها خطّة علميّة وحضاريّة، واتّكأت على لغتها الأمّ لغة للعلم والمعرفة والحياة فنهضت وتقدّمت، وهي تخطو خطواتها الحثيثة رغم التّحدّيات الّتي تواجهها داخليًّا وخارجيًّا في المنافسة في العلم والنّهضة الحضاريّة والاقتصاديّة؛ وباتت مزاحمة للحضارة الغربيّة والنموذج الأمريكي, فها هي اليابان مثلا وجارتاها الصين وكوريا نهضت ومازالت تنهض؛ وقد اتّكأت جميعها على لغاتها القوميّة لتكون لغة العلم، ولغة الحياة، ولغة الاقتصاد، ولغة النهضة والحضارة,

غزو اللغات

وبدأت هذه اللغات – لاسيما الصينيّة – تغزو العالم وتتموقع ضمن كبرى اللغات القوميّة، وبات منّا من ينادي بدراسة هذه اللغة وتدريسها.

نرى أنّ ارتباطًا وثيقًا بين لغة قومٍ ونهضة ذلك القوم. مرّوا على الخريطة في الامتداد الأفقي والعمودي للبشرية المعاصرة، هل وجدتم أمّة نهضة بلغة غيرها؟

لاشكّ أنّ سرًّا يكمن في كلّ لغة من اللغات البشريّة، وإذا عدنا إلى الجدل الّذي صدّرنا به هذه الورقة حول صلة اللغة بالفكر؛ فإنّنا نزعم أنّ تركيبة كلّ لغة من اللغات ترتبط ببنية عقليّة وفطريّة في الأمّة الّتي أنتجتها تجعلها قادرة على جعل ( ميكينزمات ) التفكير الإبداعي يسير باتّجاهٍ توافقيٍّ مع بنية هذه اللغة، من أجل الخلق والإبداع والابتكار.

إنّ من أبرز البنى اللغوية والثّقافية – بل وحتى الدّينية والحضاريّة – البدء من اليمين، نحن نقرأ من اليمين إلى اليسار في الكتابة، ونفضل اليمين على اليسار، ( وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ )( ) واللغة الإنجليزيّة ( لغة العلم ) بنيتها من اليسار إلى اليمين، لا يمكنك أنْ تقتطع بنية ثقافيّة من أمّة ضمن نسق مخصوص وتنزله في سياق أمّة أخرى، وتريد لها أنْ تبلغ الإبداع والابتكار والتفرّد؛ وقد فكّكت البنية الأمّ وأعدت بناءها في غير سياقها.

هذا لعمري ما يحدث للأمّة الّتي تعتقد – واهمة – أنّها تستطيع أنْ تنزل لغة من غير بنيتها الثّقافيّة في سياق تخلقه منبتًّا عن سياقه الأصل,

غريب أمرنا نحن العرب، نهضنا وسدنا العالم قديمًا فكريًّا وحضاريًّا وثقافيًّا بديننا ولغتنا، واليوم نستجدي لغة غيرنا نريد أنْ ننهض بها في علومنا وآدابنا ومعارفنا وثقافتنا وتقنياتنا وحضارتنا؟ مع أنّنا نشاهد التّجارب تلو التّجارب أمامنا، والأمم تلو الأمم تصعد في سلّم الرقيّ والتطوّر، حتى باتت في مصافّ الدول الكبرى الّتي يحسب لها ألف حساب وتوزن بما لها من ذلك العلم.

تقدّر الدّراسات الاستشرافيّةـ والتنبؤات المعرفية المستقبليّة أنّ المستقبل العلمي والتقني والحضاري للمارد الصيني القادم من شرق القارّة الصّفراء، فهل سيكتب علينا من جديد قرنٌ آخر من الزّمان نعلّم أبناءنا لغة العلم والحضارة الجديدة ؟ وسنبقى نراوح مكاننا، ونتغنّى بأمجاد أمّة العرب في القرون الرابع والخامس والسادس الهجرية أم سنعيد نقد ذاتنا وإنقاذ وجودنا وهويّتنا ولغتنا ؟

ماذا دهانا في هذا العصر حتى فقدنا ثقتنا بأنفسنا، وبقدرة لغتنا الموسومة بالشّجاعة والمرونة والاتّساع في أنْ تعود هذه اللغة إلى ميدان العلم والفنّ والأدب من جديد ؟

لن ننهض إذا أضعنا البوصلة من جديد. لغتنا كسائر لغات العالم قادرة على أنْ تكون لغة علم وآداب وعلوم وتقنية وحضارة.

العدد 4850 - الخميس 17 ديسمبر 2015م الموافق 06 ربيع الاول 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 1:12 م

      والتعم بالدكتور علي الفرحان

      نعم انت من اهل اللغه ومعلم فاضل فصيح وحكم في المحافل المحلية والعربية موفق د. علي الفرحان

اقرأ ايضاً