العدد 4849 - الأربعاء 16 ديسمبر 2015م الموافق 05 ربيع الاول 1437هـ

ساهوتا: لماذا ينبغي أن أنتفع من الهجرة عندما لا ينتفع منها الآخرون

صاحب رواية «عام الفرار» في سرده الأحلام الجريئة...

سانجيف ساهوتا
سانجيف ساهوتا

«أنا لا أفهم لماذا ينبغي أن أنتفع من الهجرة عندما لا ينتفع الآخرون بها. حتى لو لم يكونوا من أفراد الأسرة. إنها نزوة، إنه الحظ، وربما لأنني أدرك ذلك من امتياز الحياة التي مثَّلْتها. نسبياً، أفكِّر في ما هو مطلوب مني القيام به، وما التضحيات التي يجب أن أقدِّمها، وماذا يعني أن يكون الشخص خيِّراً في الوقت الذي يعاني فيه الناس».

تلك هي كلمات الروائي البريطاني من أصل هندي، سانجيف ساهوتا، المولود في العام 1981 في ديربي. وهو حفيد جدٍّ من المهاجرين الذين قدِموا إلى بريطانيا من البنجاب في العام 1962، يعي تماماً معنى أن تكون مهاجراً في مجتمع من الصعوبة أن تلتئم بينك وبينه الشِّقة.

صاحب رواية «عام الفرار»، التي صدرت في العام 2011، وأوصلتْه إلى القائمة القصيرة لجائزة مان بوكر في العام 2015، وذهبت في نهاية المطاف إلى مارلون جيمس، اشتغل على تلك الثيمة بعمق ودراية وحساسية لا يمكن أن يخطئها القارئ النابه.

يحتل موضوع المهاجرين والهجرات الجماعية في عالمنا اليوم، مساحة كبيرة وحسَّاسة في الوقت نفسه، استعادة لظروف نشأت، وتكاد تكون قريبة من فترة الحرب العالمية الثانية، بتدفق مئات الآلاف وملايين اللاجئين. لا تختلف ظروف الهجرات اليوم كثيراً، مع فارق أن الأولى نتاج حرب عالمية، فيما الثانية نتاج حروب أهلية، وصناعة وطنية. ثمة هجرات تحدث بفعل ندرة الفرص وشح الموارد من جهة، والتهديد الذي تمثله بعض الأنظمة والقوانين للبشر؛ ما يدفعهم إلى النجاة بأنفسهم، خوضاً لبحار ومحيطات، في هجرات غير شرعية لها استحقاقاتها بالنسبة إلى الدول التي تستقبلها، والذين هم ضحاياها في الوقت نفسه.

سوزانا روستين، كتبت تقريراً، تضمَّن جانب منه حواراً، نشر يوم السبت (12 ديسمبر/ كانون الأول 2015)، في صحيفة «الغارديان»، تنشر «الوسط» أهم ما جاء فيه.

أمارس الكثير من الفضْح

منذ أن اتخذ قراره، بعد نيله شهادة في الرياضيات، والعمل لحساب شركة للتأمين، وجد الروائي سانجيف ساهوتا نفسه أكثر اهتماماً بالأدب. كتب ساهوتا روايتين عن بعض أكثر الناس عرْضة للكراهية في بريطانيا. بدأ روايته الأولى، «الشوارع لنا»، قبل 10 أعوام. كان ذلك بعد زمن ليس بعيداً عن التفجيرات التي ضربت العاصمة البريطانية (لندن) يوم الخميس (7 يوليو/ تموز 2005)، في سلسلة عمليات انتحارية متزامنة استهدفت المواطنين أثناء ساعة الذروة؛ إذ قام أربعة إسلاميين مُتشدِّدين بالتسبُّب في أربعة تفجيرات انتحارية، ثلاثة منها حدثت في قطارات لندن تحت الأرض، والانفجار الرابع في حافلة نقل عام تتكوَّن من طابقين. أسفرت الهجمات عن مصرع 50 شخصاً، وإصابة نحو 700 آخرين. كتاب ساهوتا المذكور يتناول شاباً مسلماً بريطانياً كان على وشك التخلِّي عن صديقته البريطانية البيضاء وهو في طريقه لتفجير نفسه في أكبر عدد ممكن من المارّة، في مركز للتسوُّق بـ «ميدوويل» في شيفيلد.

استغرق ساهوتا في كتابة الرواية أكثر من ثلاث سنوات، في غرفة نومه بالطابق العلوي من منزل والديه في تشيسترفيلد في ديربيشاير، وكانت عينه ترصد الباب، بحيث يضمن ألاَّ تتم مقاطعته. فيما يشبه المونولوج يكتب: «ترعرعت في بريطانيا، انتماءً إلى طائفة السيخ؛ حيث العار والشرف يلعبان الدور الكبير، وكنت لا تبذل جهداً من أجل إزالة الأدران عن ملابسك. شعرت وقتها أنني أمارس الكثير من الفضْح، وذلك هو على الأرجح السبب الكامن وراء رغبتي في أن أكتبها بشكل سري للغاية».

تم استقبال رواية «الشوارع لنا» بشكل جيد ولافت في العام 2011، من خلال قراءة أنجزها الشاعر والناقد جون برنسايد، واصفاً إياها بأنها «عمل أخلاقي عن الفطنة الحقيقية والسلْطة». بعد ذلك بعامين كان ساهوتا على لائحة «غرانتا»، التي يحوزها شخص للمرة الأولى منذ عقد على إنشائها، ضمن فئة الشباب الروائيين البريطانيين، ليعمل بعدها متفرِّغاً للكتابة بدوام كامل.

تحية إلى الكتب التي أوقعتْني

في الحب

بحلول ذلك الوقت، كان متمكِّناً من أدواته، وحاز حضوراً، ليعمل على إنهاء كتابه الثاني. وقد تم اختيار روايته «عام الفرار» العام 2015 على القائمة القصيرة لجائزة مان بوكر. الرواية المذكورة تسْرد الأحلام الجريئة والصراع اليومي لأسرة تصارع الظروف المحيطة بها. الآن وهو في الرابعة والثلاثين، يدخل مرحلة جديدة من التجربة، على رغم إخفاقه في الحصول على الجائزة التي تُقدَّر قيمتها بـ 50 ألف جنيه إسترليني، حين ذهبت إلى الروائي مارلون جيمس.

إنها رواية جريئة ومبتكرة حول الهجرة غير الشرعية إلى بريطانيا: اثنان من الأبطال الأربعة، تزوَّجا بهدف تأمين التأشيرة. والآخر، لاجئ مُتعصِّب ينتمي إلى القومية الهندوسية، أخذ طريقه إلى بريطانيا من خلال تعلُّقه بالجزء الخلفي لإحدى الشاحنات. وآخر قُدِّر له أن يكون هنا بتأشيرة طالب، والأخير يقوم بعملية احتيال، بتخلِّيه عن الدراسة. تقدِّم الرواية سرداً لخلفياتهم - ثلاثة في الهند، وواحد في لندن - ويصف كيفية التقاء المسارات الخاصة بهم، دنوَّاً أو ابتعاداً.

وخلافاً لروايته الأولى، والتي قال إنها جاءت «بدوافع عاطفية»، فهي نوع من المِران على الصوت والشخصية؛ إذ تستخدم رواية «عام الفرار» البنية الاجتماعية الواقعية التقليدية. قال عنها ساهوتا إنها «تحيَّة إلى الكُتب التي جعلتني أقع في حب القراءة، وبشكل غامر نحو سرد القصص الكلاسيكية».

ولكن، إذا كان شكْل الرواية مألوفاً، ستكون مضامينها نضِرة بشكل مفتوح على الرؤية. يتراوح الموضوع في الرواية بين العنف السياسي في شمال الهند في المناطق الريفية، والظروف المعيشية المزْرية، ومواقع البناء العشوائي، والزوايا القذرة في الأماكن التي تنشط فيها تجارة التموين في شمال انجلترا. شخصيات ساهوتا متشبِّثة ومتعلِّقة ولكن هذه المرة بالديون، فيما الشعور بالوحدة وخيبة الأمل تهدِّد بسحْقهم. هنالك ذئاب الجوع والعوز والاستغلال والموت شنقاً بمحاذاة الباب.

دور المعابد في رعاية الوافدين

انتقل ساهوتا مع زوجته وطفليه، مؤخراً إلى منزل جديد مبنيٍّ من الطوب الأحمر، على إحدى التلال في ضواحي شيفيلد المليئة بالأشجار، مع إطلالة على المدينة. طريق إكسليسال؛ حيث الكثير من الحركة ورواج الكتاب يأخذ مكانته، هو قاب قوسين أو أدنى من ذلك المكان.

وكما يقول: «كنت أعرف أن هنالك منازلَ ممتلئة في شيفيلد بعشرة، اثني عشر، أو خمسة عشر شاباً. لم أكن أشعر أنني في حاجة إلى السعي وقراءة الكتب، كي أقف على تلك الحالات».

جَدُّ ساهوتا، الذي جاء إلى بريطانيا في العام 1962، ترعرع في نورمانتون، في ديربي، ضمن مجتمع مترابط من البريطانيين الهنود السيخ، مشيراً إلى أن المعابد، أو غوردوارا (وتعني المدخل إلى المعْلم، وهو مكان عبادة السيخ، ولكنه مفتوح لجميع الناس من جميع الديانات)، قد لعبت دوراً في رعاية الوافدين الجدد. إحدى القصص الحقيقية التي كيَّفها في روايته تحكي قصة جماعة في أحد المعابد، اعترضت على نوم الشبَّان الذين لا مأوى لهم هناك، ووعدتْ بجلب الطعام لهم والبطانيات إذا وافقوا على الانتقال إلى جسر للسكك الحديد.

وفي الهند، حيث لاتزال تعيش جدَّته، جنباً إلى جنب مع عائلته الكبيرة، ويقوم بزيارتهم بصورة منتظمة، تُصبح الهجرة غير الشرعية هي «الحوار المفتوح». في الأسواق والأماكن العامة الأخرى «يتحدَّث الناس علناً عن خطط الوصول إلى أستراليا أو بريطانيا»، وعن الزواج المُحتمل... التأشيرات والقروض.

«لم أشعر قط بأنني في حاجة إلى وضع قصص بعيداً عن الناس. أعتقد لأنني مهتم جداً، وأحد عاشقي الهند، كما إنني أتحدث اللغة بشكل اصطلاحي، وهناك طريق ما يقودك إلى حيث تريد»، موضحاً «أتذكَّر حديثي إلى بعض الشبَّان من الذين كانوا في انجلترا ولكنهم عادوا أدراجهم إلى الهند. قلت لهم بأنني أعمل على تأليف كتاب، فردُّوا: «هل ستضعنا في صورة إيجابية، يبدو أن الجميع يكرهنا؟». وأضافوا: «قل لهم نحن نعمل بجد، وسعداء للعمل كلما سنحت لنا الفرصة، ولساعات طويلة، ويمكن التنافس على الأجور التي نتقاضاها»، وكأنهم أرادوا - تقريباً - أن أنجز كتابة إعلانية عنهم».

أنماط الوحشية

يقطع ساهوتا حديثه مُطلقاً ضحكة. ولكن على رغم انه مُتعاطف مع المهاجرين الذين يكتب عنهم، بالنمط الكلاسيكي الاجتماعي الواقعي، أراد أن يقدِّم أكثر من منظور في ما يكتبه من أعمال، لا أن يكون محامياً عنهم، قائلاً: «إنها وحشية على نمط الكلب الذي يأكل الكلبَ، وخاصة في السنوات العشر الماضية، عندما اضمحلت فرص العمل. إذا كان هنالك 12 شخصاً مقابل وظيفة واحدة، سيكون هناك مجال كبير للُطف. إنها فرصة الذين يمكنهم أن يبادروا بخطوة للوصول إلى مكان ما. لا أحد بريء تماماً».

لم يقرأ ساهوتا كثيراً في فترات مبكِّرة من حياته،. وقال، إنه كان مفتوناً على الدوام بالعبارة التي تحويها الإعلانات، وصناديق التعبئة والتغليف، ولكنه كان نادراً ما استُحثَّ على قراءة الروايات، حتى عندما كان يدرس للحصول على شهادة الثانوية العامة، لأن مدرِّسه في اللغة الانجليزية اختار تدريسهم المذكرات والمسرحيات بدلاً من الروايات. قرأ أول أربع روايات ذات ربيع في الهند، من بينها رواية الروائي البريطاني الهندي سلمان رشدي «أطفال منتصف الليل»، وفيكرام سيث «الولد المناسب»، وأرونداتي روي «إله الأشياء الصغيرة»، وروينتون ميستري «التوازن الجميل»، ثم عاد إلى إنجلترا وقرأ رواية «بقايا اليوم»، لكازو إيشيغورو.

في سن السابعة، تخلَّى والد ساهوتا عن وظيفته كمهندس تلفزيوني في ديربي لشراء متجر في تشيسترفيلد. يتذكَّر حالات وألواناً من العنصرية تعرَّض لها حين كان طالباً، وخصوصاً أنه وشقيقه كانا الطالبين الآسيويين الوحيدين في المدرسة الثانوية التي التحقا بها. حقق نتائج أهَّلته للالتحاق بـ «إمبريال كوليدج»؛ حيث درس الرياضيات. لكن العنصرية تركت بصماتها في تلك البيئة.

بيئة العدوان

وكما يتذكّر «في السنة الأولى عندما كان عمري 11 سنة، كان هناك عدد قليل ممن كانوا في سن الخامسة، يتعمَّدون استهدافي. تعرَّضت إلى صِدام جسدي لمرة أو مرتين، وكان هناك الكثير من العرقلة على السلالم. الناس لا يعتقدون بأذى يتعرض له الجسد ناتج عن العرقلة، إلا أنه أمر عدواني للغاية، وأسوأ شيء في الأمر هو القدْر الذي يجعلك تدرك نفسك، والفروقات التي أنت عليها، مقارنة بالمحيط من حولك. سواء كنت تسير في شارع، أو في غرفة، تظل تفكِّر، كيف سيكون رد فعل الناس؟ ما الذي سيرونه فيك أولاً؟، وضمن جانب من تلك البيئة التي لا تخلو من عدوانية، تعرَّضت نوافذ متجر والديه إلى التهشيم.

وكشخص بالغ، ومراهق شاب يعيش مع والديه، لم يعرف أياً من الشباب ممن يحملون نزعة تطرُّف. لكنه يعتقد بأن مشاعره الخاصة بالاغتراب والانفصال ربما كانت تتضمَّن شيئاً مشتركاً مع أولئك الانتحاريين الذين قاموا بأعمالهم الإرهابية في السابع من يوليو العام 2005، والذين لم ينشئوا بعيداً عن هدرسفيلد وليدز.

يحمل ساهوتا شعوراً قوياً بعلاقاته واتصاله بأقاربه، والخلفية الاستعمارية للهند. تتحدَّر الأجيال السابقة لعائلته من لاهور، فرّوا بعدها إلى ولاية البنجاب بعد تقسيم الهند في العام 1947، وهو العام نفسه الذي نالت فيه استقلالها. كثيراً ما كانت جدَّته تتحدَّث عن الفظائع التي شهدتها الهند في تلك الفترة المضطربة.

في شيفيلد كان مُنهمكاً بعائلته الصغيرة، وبعد انتهاء إجازة الأمومة التي حظيت بها زوجته، كان عليه أن يجمع بين زيادة الواجبات المرتبطة برعاية الطفل، والأيام التي يقضيها للكتابة في الطابق السفلي الذي لا تطلُّ منه أية نافذة. عن تلك الفترة، يقول، إنه يمكن إحصاء أصدقائه على أصابع اليد الواحدة. ولكن جزءاً من الدافع في رواياته، هو وصف الشخصيات التي تم التقاطها بين عوالم الأغنياء والفقراء، بدافع من بحثهم عن حياة أفضل، يتحدَّد في الشعور بحال التضامن. وقال: «أنا لا افهم لماذا ينبغي أن أنتفع من الهجرة عندما لا ينتفع الآخرون بها. حتى لو لم يكونوا من أفراد الأسرة. إنها نزوة، إنه الحظ، وربما لأنني أدرك ذلك من امتياز الحياة التي مثَّلتها، نسبياً، أفكِّر في ما هو مطلوب مني القيام به، وما التضحيات التي يجب أن أقدِّمها، وماذا يعني أن يكون الشخص خيِّراً في الوقت الذي يعاني فيه الناس».

غلاف رواية «عام الفرار»
غلاف رواية «عام الفرار»




التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً