من نافلة القول أن علمانية النظام التركي هي خلطة فريدة من نوعها في العالم بأسره إذ تجنح للغلو في كثير من الأحيان أكثر من الانظمة الشيوعية والليبرالية الغربية على حد سواء، وذلك منذ تأسيسه العام 1924 على يد الضابط كمال أتاتورك حتى وصول حزب العدالة والتنمية للحكم انتخابياً العام 2003. بيد أن هذه الخلطة- التوليفة يغلب عليها الطابع القشوري الشكلي ذو الجوهر الشمولي أكثر من الطابع العلماني ذي الجوهر الديمقراطي، وقبل وصول حزب العدالة كانت الطبقة السياسية التقليدية ممثلةً في بضعة أحزاب قومية كبرى هي التي تتداول السلطة، بينما ظلت أحزاب التيارين اليساري والاسلامي والاقليات القومية، وبخاصة الأكراد، محظورة ومعرضة على الدوام للقمع الشديد.
وحينما وصل الرمزان المتحالفان الثنائي، جلال بيار وعدنان مندريس، حاولا التخفيف من غلو التشدد العلماني فسمحا للبرامج الدينية في الاذاعة، وخففا من القيود المشددة على الحج، وأعادا الصلاة والأذان بالعربية، وادخال مناهج دينية في التعليم في مقابل طمأنة الغرب بتعزيز التحالف معه وزيادة الانفتاح على استثماراته في تركيا والانضمام إلى الأحلاف الاقليمية المرتبطة بالناتو مثل حلف بغداد «السنتو» المعادية لحركات ودول التحرر الوطني العربية. لكن سرعان ما فشل اقتصاديا هذا الحكم الثنائي في خططه الاقتصادية وواجه احتجاجات شعبية داخلية انتهت بانقلاب عسكري، ثم توالت الحكومات والانقلابات، لكن أخطرها الانقلاب الدموي القمعي الذي شهدته تركيا العام 1980 بقيادة الجنرال كنعان ايفرين بدعم مباشر من الولايات المتحدة المتخوفة حينها من تأثر تركيا من عدوى نجاح الثورة الايرانية 1979 إثر خسارة أميركا وإسرائيل نظام الشاه أقوى حليف لهما في المنطقة، واعتقل ايفرين 650 ألف شخص، وأجبر 30 ألفا على المنفى، وجرت محاكمة الآلاف وتوفي تحت التعذيب 299 تركياً، لكن على العكس من ذلك فقد أدى هذا الانقلاب الأسود إلى تنامي المد الإسلامي بما أتاح لحزب العدالة والتنمية «الاخواني» الوصول للحكم وهو الصيغة الجديدة البديلة الحرباء لحزب الرفاه الاسلامي بزعامة نجم الدين أربكان، الذي فاز في أواسط التسعينيات لكن لم يستطع الحصول على الغالبية فاضطر إلى تشكيل حكومة ائتلافية مع حزب الطريق القويم برئاسة تانسو تشيلر وعقد اتفاقيات عسكرية مع اسرائيل مقررة سلفاً، ثم تمت محاكمته وتم حل حزبه، وتم تأسيس «حزب العدالة والتنمية الاسلامي» من المنشقين من حزب الفضيلة ليصل للحكم خلال عامين بفضل قدرته على دغدغة مشاعر الجماهيير الدينية، وتمكنه من إجادة ممارسة اللعبة السياسية بقوانينها المشرّعة. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: كيف استطاع هذا الحزب الديني ان يجيد قوانين اللعبة وتفقد المؤسسة العسكرية حامية النظام العلماني من لجمه ليخترق واحدا من أشد الانظمة العلمانية في العالم تشدداً في علمانيته، فيما عجزت أعرق الأحزاب اليسارية والديمقراطية لعقود طويلة عن تحقيق هذا الاختراق؟
بادئ ذي بدء ينبغي أن نعرف جيداً أن الولايات المتحدة وحليفاتها الدول الغربية لا يهمها الهوية الإسلامية، لأي نظام في العالم الاسلامي بقدر ما يهمهم أمران أساسيان: الأول هو مدى استعداد هذا النظام في أن يكون أداة طيعة للغرب بعدم المساس بمصالحهم الاقتصادية والاستراتيجية والعسكرية، والثاني ان تكون علاقته وطيدة مع اسرائيل، او على الأقل طبيعية وغير معادية لها، ولذلك لطالما روّج الغرب لحزب العدالة التركي كنموذج جدير بالاحتذاء من قبل الحركات والأحزاب الاسلامية المعتدلة العربية، هذا رغم محاولة «العدالة» في بداية وصوله للحكم إظهار خلاف ذلك بالعداء كلامياً لإسرائيل، وتصفير المشاكل، وهو ما فعله أيضاً الرئيس المصري «الاخواني» المخلوع محمد مرسي الذي أظهر وداً في رسائله لقادة إسرائيل وداً حميمياً، ولذا جن جنون واشنطن لعزله عسكرياً في أحداث ثورة يونيو/ حزيران 2013 الشعبية. وبالمثل شن حليفها الرئيس التركي اردوغان على القاهرة غداة خلع مرسي أعنف حملة شرسة، وهو أمر غير معهود في العلاقات الدولية، ضارباً بذلك كل الأعراف والقوانين الدبلوماسية بعرض الحائط.
ولم يكن استلام حزب «العدالة» السلطة شكلياً إذ أحدث تغييرات حقيقية في بُنية النظام والدستور، وتغلغل في جهازي الاستخبارات والجيش، أعظم حصنين لحماية النظام العلماني على امتداد 80 عاماً، الأمر الذي يثير معه تساؤلا مشروعا حول مدى تأثر مستقبل هوية النظام العلماني لتركيا في ظل هذه الأسلمة المتسارعة داخل الدولة والجيش والمجتمع والمقرونة بتقليص حتى الهامش الديمقراطي الشكلي المكتسب قبل وصول حزب العدالة للحكم، ولاسيما في ظل سكوت الغرب على ذلك، على رغم تحفظ الاتحاد الأوروبي على ضم أنقرة إليه لمآخذ كثيرة عليها في هذه القضايا تحديداً.
والحال أن الدراسات المعنية بالعوامل التي مكّنت الاسلاميين الأتراك من اختراق نظام علماني حديدي ذي محتوى ديمقراطي سطحي مازالت نادرة ومحدودة، لكن الغرب بات يعنيه في واقع الحال استمرار بقاء تركيا في «الناتو» ومصالحه الاستثمارية الكبيرة فيها أكثر من اهتمامه بزوال علمانية النظام التركي أو زيادة تدهور حقوق الانسان فيها وقمع الأقليات فيها، وهو بذلك سيدفع ثمناً باهظاً من هذه اللامبالاة إن عاجلاً أو آجلاً.
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 4847 - الإثنين 14 ديسمبر 2015م الموافق 03 ربيع الاول 1437هـ