تساءلنا في موضوع سابق، ما إذا كان التاريخ يُعِيدُ نفسه في حالتنا العربية. وتوصلنا إلى إجابة معقولة ومدلل عليها. مفادها أن التاريخ في العموم كظاهرة إنسانية يعيد نفسه في الأشكال فقط كأطر بشرية عامة. أما ما بداخل هذه الأشكال كمحتويات فعادةً ما تتغير بتغير الظروف الاجتماعية الخاصة والشروط التاريخية العامة لكل أمة ومجتمع على حدة. إلا أن هذا الاستنتاج العام الذي يصل إلى مرتبة القانون التاريخي، لا ينطبق على الحالة العربية كحالة استثنائية. في حالتنا العربية تبقى المحتويات شبه ثابته وتتغير الأشكال التاريخية كأطر مرفولوجية كشكل العائلة وشكل الحكومة وشكل الاقتصاد. وللتدليل نضرب مثالاً حياً ومؤثراً في معناه هذه المرة على بقاء المحتويات وتغير الأشكال في حالتنا العربية كحالة ثقافية. والمثال هو حالة التماثل والتشابه والتطابق في الطريقة التي يتم من خلالها استحضار الخبرة التحليلية عند الأعرابي في حالتنا العربية التاريخية وعند الليبرالي العربي المعاصر في حالتنا العربية الراهنة ولكن قبل الدخول في الموضوع يجب التنويه هنا - منعاً للالتباس - إلى أن الحديث عن الظاهرة الأعرابية هنا لا يحمل دالة تفضيلية تقييمية كما هي موجودة عن الأعراب في القرآن الكريم مثلاً. وإنما هو فقط حديث يتتبع الظاهرة الأعرابية من مصادرها التاريخية كظاهرة إيكولوجية منقرضة مجترة تاريخياً في حالتنا فقط وليست ظاهرة ثقافية سائدة أو معاصرة.
أَما كيف تتوحد الخبرة تحليلياً بين الاثنين بين الأعرابي التاريخي وبين الليبرالي العربي المعاصر، رغم اختلاف المناخ الحضاري فيما بينهما كمحيط وبيئة، ورغم اختلاف الواقع النفسي والاجتماعي لكل منهما كفرد وذات؟!، فإن ذلك يَعُودُ على ما يبدو إلى طابع الخبرة المشترك بينهما بين الأعرابي والليبرالي، وهو طابع «شبه غريزي» «be-social» يَتَوَحَّدُ فيه الاثنان معاً كبشر، بصرف النظر مؤقتاً عن مظلتي عاملي الزمان والمكان. هذا الواقع الحيوي كواقع مرفولوجي، بمستوياته النفسية والغريزية كخبرة ذاتية، ولأسباب «إيكولوجية» اجتماعية وسياسية معيشية، قد أثر بدوره كقاعدة نفسية خفية، أثرعلى تصوراتهما لمفهوم الحرية في المجتمع ولطبيعة المصلحة الذاتية للفرد بداخله - داخل المجتمع. حيث أصبح التسيب عند الاثنين مُعادِلاً للحرية، وأضحت المصلحة الذاتية الفردية لا تتحقق عندهما إلا على حساب الصالح العام المتناقض عادةً كحالة نظام مع الحالة التسيبية كحالة فوضى. فالمصلحة الذاتية عند الاثنين معاً تمثل الحقيقة، والحقيقة هي المصلحة الذاتية ولا شيء غير ذلك - أنا ومن بعدي الطوفان - وإن اختلف الاثنان، من حيث الحصول على المصلحة الذاتية كغنيمة، أواختلفا من حيث طريقة اقتسامها والتصرف بها كنمط ومعايشة.
فالأول الأعرابي لا يُحقق مصالحه من داخل الحي والحِمى، فغزواته دائماً ما تكون خارج مضارب القبيلة، وهو حينما يحقق مصالحه الذاتية كغنيمة، لا يحتفظ بها لنفسه فقط، وإنما هو»نهاب وهاب» على قول أستاذنا الفاضل الدكتور علي الوردي - يوزعها على باقي أفراد الحي داخل مضارب القبيلة كمجتمع. ويتفاخر بذلك، بل قد يكون محسوداً على ذلك كنوع من أنواع التوازن الاجتماعي في مجتمع مفصلي.
إقرأ أيضا لـ "يوسف بن خليفة الكواري"العدد 4846 - الأحد 13 ديسمبر 2015م الموافق 02 ربيع الاول 1437هـ
وأنى لهما الاختلاف ؟
لا يمكن لهما الاختلاف، لأن الليبرالي والديمقراطي والعلماني والشيوعي وغيره ليس إلا ادعاء لأنه تلبس قشري بما ليس له، فاللبرالي الحقيقي لم يتكون من خلال دراسته في جامعة أوروبية أو قراءته مبادئ الليبرالية وأسسها، وإنما هو ذلك الذي عاش متغيراتها وتحولاتها ومعاناتها حتى رضع من صدرها ونشأ تحت ظلالها وشب على خيراتها.
سامحني
مقالك ممتاز. أشأارتك بالدكتور الوردي تدل علي اطلاعم علي كتاباته و استنتاجاته. بارك الله فيك. دبلوماسي من الدرجة الاولي. غيرت في الألفاظ و الكلمات. المهم احنه فهمنا.
مقاااال راااائع
مقال روعة تسلم الأيادي