حقاً، إن العقل زينة تكتمل محاسنها إن رُصعت بالأخلاق والقيم الإنسانية. الكارثة في استغلال العقول من قبل بعض البشر، الذين يجردون كل العقائد الدنيونية والدينية من أجمل أهدافها، بل إن بعض تلك الأهداف تُكرس لتخدير الناس وتسييرهم كالقطيع - إلا من رحمه الله - وراء حلمٍ لن يتحقق إلا لسارقه، لكن إلى حين! فالبشر بعد كل صحوة يغطون في سُبات لتبدأ دورة أخرى، سلسلة متكررة، لكنها في كل مرة تضيق أكثر طالما تراكمت الخبرات الإنسانية وانتشرت الثقافة المُشَكِّلة لوعيٍ يمنع المستغلين من سرقه أحلام البشر بعيشٍ كريم.
مؤلف هذه الرواية إريك آرثر بلير - الاسم الحقيقي للكاتب - الذي اشتهر باسمه الصحافي المستعار جورج أورويل، هو إنسانٌ آمن بالاشتراكية الديمقراطية ونبذ غياب العدالة الاجتماعية وانتقد الحكم الشمولي من خلال كتاباته ومواقفه ورواياته، كان أشهرها رواية «1984» ورواية «مزرعة الحيوان» التي عَرَّفت إنكلترا والعالم بكاتبها. رواية مزرعة الحيوان» لا تعكس انحراف الثورة الروسية والمرحلة الستالينية القمعية من حياة الدولة السوفياتية فقط، بل هي حكاية قد تتكرر في أيٍ من بقاع الأرض. فأينما وجدت عُصبة تحكم وتزرع الأوهام لشعوبها لتمتص أكبر قدر ممكن من خيرات الأرض، وبجشع يصل لحد الهوس، بقبضة تتراوح وطأتها بين الناعمة والخشنة بشكل متناسب مع قوة حركة الجماهير، سابقةً أي فكرة أو مظهر تمرد قد تستشعر به أنوف أجهزتها الأمنية العتيدة.
تُعد رواية مزرعة الحيوان الخيالية تجسيداً حقيقياً لما قد يحصل على أرض الواقع. فالأفكار التحررية العظيمة تنتصر ليس بالمعرفة والإيمان وبضرورة العيش على أرضٍ تحقق للجميع قيم العدالة والمساواة والأمن والحرية، بل غالباً ما تكون نتيجة أوضاع اقتصادية بائسة يُخرج الجوع كل قوة في الكائن لتكون سبيله إلى الخلاص. وما إن تنتصر الثورة حتى تخرج من رحمها دولة يسيطر عليها فئة طاغية تستحوذ على كل الثروات وتخدع عقول البسطاء بالشعارات الرنانة، لتبدأ دورة جديدة من الجوع والقسوة وخيبات الأمل، إلا أن كفاح البشر مستمر من أجل غدٍ لم يروه بعد، لكنه يعيش في أحلامهم.
مات ميجر، ولم تمر فترة طويلة حتى قامت الثورة! أكثر المتفائلين لم يتوقعوا قيامها بتلك السرعة. حياة سعيدة هانئة حلم بها أبطال مزرعةٍ من عالم الحيوان، طردوا مالك المزرعة وعائلته ورجاله، سعوا لإقامة مزرعة العدالة والمساواة بين جميع الحيوانات. ثاروا على القمع والتنكيل والجوع والإهمال الذي تعرضوا له، لم يتشبعوا إلا بأفكار الخنزير العجوز الحكيم ميجر. تذكروا كل كلماته الداعية للتحرر من العبودية والخلاص من اضطهاد البشر. ذلك الإنسان هو العدو الوحيد، الذي يستهلك ولا ينتج فهو لا يُعطي الحليب ولا يضع البيض ولا يستطيع سحب المحراث ولا يركض بسرعة للإمساك بالأرانب، ومع ذلك هو سيد الحيوانات يستغلها طوال اليوم ليرمي لها الفتات في نهايته. كانت تلك كلمات آخر خطبة يلقيها ميجر الحكيم لينهيها بأغنية عن حرية حيوانات حقول إنجلترا، تلك الأغنية التي أصبحت في ما بعد نشيد الثورة، والحافر المتقاطع مع القرن باتا شعار المزرعة الذي توسط علمها الأخضر.
انكفأت المزرعة على نفسها لتبني حاضرها ومستقبل طموحاتها بجد لا يعرف الكلل بإدارة قيادة الثورة المتمثلة بمجموعة من الخنازير، حيث أنهم الأذكى بين الحيوانات، وهم من حملوا أفكار ميجر الحكيم وفسروا ووسعوا مضامين أحاديثه، جاعلين منها نظاماً فكرياً متكاملاً أطلقوا عليه «الحيوانية» هذا المبدأ صاحب السبب الرئيسي في نجاح الثورة! بعد استقرار الحال - نسبياً - بدأ الصراع يدب بين أقطاب القيادات لرغبة البعض باستئثار السلطة، يتمكن نابولين أخيراً من إمساك السلطة طارداً سنوبول ومتهماً إياه بالخيانة ومحاولة القضاء على باكورة دولة الحيوان الأولى في إنجلترا والعالم. نابولين صار القائد والمفكر والبطل وحامل كل الألقاب. يُروج له سكويلر، كل يوم عطلة تخرج مسيرات التأييد، وتُلقى قصائد الولاء والتبجيل. انبثقت طبقة جديدة حاولت تسيير أمور المزرعة تحت قيادة نابولين، ويوماً بعد يوم تغيرت العهود والشعارات فبعد أن كانت «كل الحيوانات سواسية» أضيف للشعار «كل الحيوانات سواسية، لكن بعض الحيوانات أكثر سواسية من غيرها»! وأصبحت الطبقة المتحكمة تمشي على أقدامها الخلفية وتلبس ملابس المالك القديم. وفي يوم من الأيام دعت الخنازير ملاك المزارع المجاورة من البشر لزيارتها، الأمر الذي شكل صدمة لمن في المزرعة، فكيف يلتقون بعدوهم الأول! في الحفل تشارك الجمع من البشر والخنازير الشراب والأنخاب، إلا أنهم وحينما كانوا يلعبون بالورق حدث خلاف عميق وحين تراكضت الحيوانات لمشاهدة ما يحدث من نوافذ المنزل الذي سكنته القيادة، لم تعد تميز الخنازير عن البشر فالكل صار متشابهاً.
إن استخدام شخصيات من عالم الحيوان بطريقة هزلية جنب الكاتب أي إرباك، وأطلق مخيلة القارئ لمقابلتها بشخصيات عاشت على أرض الواقع، فذلك نيكولاي الثاني آخر قياصرة روسيا وماركس ولينين وستالين وتروتسكي ومولوتوف وغوركي وهتلر وتتنوع الشخصيات من أميركا وبريطانيا، وشخصيات ذات دلالات تعكس نفسية الطبقة الكادحة الصادقة بعملها وفق شعار «سأعمل بجهد أكبر» و «الرفيق القائد دائماً على حق»!
لم يكن هدف الكاتب الاستهزار بالاتحاد السوفياتي والثورة الاشتراكية فقد كان من أوئل المناصرين لها، إلا أنه عرى بشكل هزلي صارخ الانحرافات التي تعرضت لها، وكيف يدمر الجهل والطمع وقصر النظر وحب السلطة والتسلط أي دولة، ويقودها للسقوط مهما رفعت من شعارات براقة باسم العدالة والمساواة والمحبة والتسامح والأخوة وإلى آخره من معانٍ رفيعة تم الإسفاف بها وتفريغها من بريقها الأخلاقي والإنساني.
الله وحده يعلم متى يتخلص الإنسان من صفاته الخبيثة ليُعلي الصفات الحميدة.
هل يكون الأمر بالارتقاء والتصميم واستدامة المحاولة للتغيير والانعتاق؟
أو باستخدام علم الوراثة ليستأصل جيناته الخبيثة؟ مع بقاء الخوف بأن يُأصلها!
العدد 4844 - الجمعة 11 ديسمبر 2015م الموافق 29 صفر 1437هـ