يُوغل شاعر البحرين المعاصر، قاسم حدَّاد، يوماً بعد يوم في تأثيث قصيدته بمزيد من كائنات الأحلام، وبثِّها في عالم منشغل بكوابيسه وهي في أدنى درجات رداءتها. لا يمكن أن تذهب نصوصه هباء وسط هذا اللغو المتنامي والمتغلغل في كثير من نصوص العرب اليوم.
لم تكُ إطلالته ضمن برنامج «الحالمون لا يمكن ترويضهم أبداً»، إلا تأكيداً وتعميقاً لذلك الحلم، وهو الذي استبدَّ به، أو هو فعَلَ ذلك بالنص، قرابة أربعة عقود، وهو في تأنِّيه، وذهابه بفرح غامر إلى النص، في محاولاته القبض على كل مُدهش ومُغاير.
تبدو نصوص حدَّاد، في اتجاه تقنيتها الأولى (التفعيلة)، في تناميها، وتعميق جمالياتها. طازجة أكثر من أي وقت مضى؛ جنباً إلى جنب مع تجربته المدهشة والملفتة في قصيدة النثر/ النص المفتوح، التجربة تعمَّق الاشتغال عليها في مرحلة لاحقة من تسعينات القرن الماضي، ومطلع الألفية الجديدة، صعوداً بحمولاتها ولغتها ودلالاتها إلى يومنا هذا، بتلك القدرة على التجدُّد، والقبض إلى الصورة في درجات التقاطها لليومي والعادي وإدخالها في فضاء شعري جميل وآسر، باكتنازه بالدلالات واستدراج القارئ إلى تلك المساحات من «الترويض» أيضاً. ترويض انشغاله بالمباشر والعادي، ارتفاعاً به إلى تأمل يحتاجه الكائن البشري كي يعمِّق معناه، وقدرته على الرؤية من الداخل بدل الانشغال بالقشْر/ الخارج.
القصيدة التي لا تمنحك بعضاً من «تيه» لا يُعوَّل على هداها. ذلك ما يراه. التيه الذي تكتشف فيه نفسك، وقدرتك على التماهي مع العالم.
لا يذهب حدَّاد إلى اللغة في النصوص التي قرأها، وننشر جانباً منها هنا، وهو أسير الإيقاعية التي ظل منحازاً لها، ويتفقَّدها بين نص وآخر، تجربة وأخرى. يذهب إليها منفتحاً على الحالة الشعرية، ولا يهم بعد ذلك الشكل والقالب الذي ستكون عليه وفيه؛ مادامت تستشرف رؤية، وتحيلنا إلى إضافة لا يمكن أن تغفلها عين وذائقة.
يُراوح حدَّاد في النصوص التي قرأها بين الإيقاع الخارجي للقصيدة (في نصوص التفعيلة)، تلك التي يبدو على تماس معها، على رغم الشوط الكبير الذي قطعه في تجربته مع قصيدة النثر، ووفياً لتجربته الأولى، ويجد في الغنائية تلك حاجة ليست برسم إشباع قناعة جمهور ترى الغالبية العظمى منه ضرورة تلازم الوزن والإيقاع مع الكلام كي يكون شعراً، بقدر ما هو إشباع لحالته التي هو عليها لحظة الكتابة؛ انتقالاً إلى قصيدة النثر بإيقاعها الداخلي العميق، وقدرتها على اختزال اللحظة في عالم القصيدة، أو اختزال القصيدة في العالم: عالمه. نقرأ في نص «من أنتَ»:
«تُدرّبنا على الجمر. وتمسحُ بدمنا حُمرة الخجل كلما متنا. فنتدافع إليك بالمناكب. ونتقدمُ لك بالقرابين والهدايا. وأطفالنا أضاحيك. نقدمُ الروحَ في الرايات والمواكب. ونكون لك. حين يستبسل الطغاة في محرابك. والطهاة في مرآبك. والنحاة في كتابك».
كأن حدَّاد، هكذا يبدو لي في سباق مع ما أنجز قبل أن يكون في سباق مع ما أنجز أبناء جيله. سباق يتوخَّى في كثير من توجهاته عدم الاكتفاء بالوقوف على الأسرار الجديدة من المخبوء في اللغة؛ بقدر ما هو توجُّه في تجربة لمّاحة وذكية في تقديم نماذج توظيفاتها؛ بكل ذلك التنوع والتجدُّد والفرادة على مستوى صوغ اللغة، ومستويات علاقاتها بالعالم من حوله، وتفاصيل ذلك العالم.
وللذين تابعوا مشروع حدَّاد؛ وخصوصاً مع مطلع الألفية الجديدة؛ سيقفون على توجهها الأفقي؛ ارتباطاً بتنوُّع التجربة ورصانتها، وقدرتها في الوقت نفسه على احتلال مكانة دافعة للنص الإبداعي العربي؛ ضمن مساحات ثرَّة ومضيئة حظيت باهتمام الأوساط والدوائر في حركة الإبداع خارج الدائرة العربية المصابة بالترهّل وإعادة إنتاج المشاريع.
في نص «أبي» نقرأ:
«لم يكنْ والدي وحده
كثيرون كنا
نموتُ كثيراً
ووحديَ أقرأ ما يستعان به
كلما هبّ موتٌ جديدٌ علينا».
وقوفاً على نص مليء بدرامية الحياة والأواصر. ذلك التداخل البيِّن الذي يستلهمه حدَّاد من تنوع قراءاته المفتوحة والمنفتحة على العالم. قراءة ليست بالضرورة محددة في النصوص وتنوعها، بقدر ما هي قراءة حال تلك الحياة وأواصرها، في نظر والتقاط يمس كلاً منا، ولا يقوى أن يخضعه ليكون حكْراً عليه؛ مادام على علاقة بالحياة.
العدد 4844 - الجمعة 11 ديسمبر 2015م الموافق 29 صفر 1437هـ