في الثلاثين من نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي فقد المغرب والعالم العربي وجهاً نسائياً من أشهر علماء الاجتماع، فاطمة المرنيسي فارقت الحياة عن سن ناهز 75 عاماً تاركةً خلفها تراثاً غزيراً في حقلي علم الاجتماع والأدب استند بشكل أساس على مقاربة قضايا المساواة وتحرير المرأة.
وعناوين كتب المرنيسي دائماً عناوين جاذبة وغاوية، إذ يختلط فيها الماضي بالحاضر والتراث بالحداثة والأدب بعلم الاجتماع بنحو بديع ومبتكر، وأتذكر أنني عندما وقعت أول مرة على كتب هذه السيدة كنت أحسبها للوهلة الأولى ترتدي معطف الأديب وتكتب بنفس الروائي ولم أكن أدرك أنها باحثة سوسيولوجية إلا بعد أن تواشجت صلتي بما كتبته في مجال علم الاجتماع العائلي، ولم يكن ما تطرحه المرنيسي في دراساتها الشيقة فقط وفية لاختصاصها السوسيولوجي؛ بل طعّمت نتاجها بمباحث وأفكار انتزعتها بأناقة وخفة وحب من حقل الأدب والتراث العربي والإسلامي القديم متقصيةً الجذور البعيدة لما يعد راسباً فاعلاً يشكل رؤية الفرد العربي المسلم لذاته وللآخر. وبغض النظر عن ما تكتبه المرنيسي، فإنها كانت دائماً «تنجح ليس فقط بتثقيف القارئ وإنما جعله يفكر كذلك».
وتنوعت إصداراتها بين بحث وسيرة ذاتية ومنها بالخصوص: (ما وراء الحجاب) و(العابرة المكسورة الجناح: شهرزاد ترحل إلى الغرب) و(هل أنتم محصنون ضد الحريم)، و(سلطانات منسيات) و(شهرزاد ليست مغربية) و(نساء على أجنحة الحلم) والأخير يعد سيرة روائية مثيرة للكاتبة، وهي في كل ذلك لا تطرح المرنيسي نفسها كواحدة من أبرز المنظّرات البارزات في علم الاجتماع العربي فحسب؛ بل كمناضلة شرسة ضد التمييز الطبقي والجندري والاستبداد الرسمي والاستئثار بالثروات والعنف المدمر للمجتمع الإنساني في إطار دعوتها المتواصلة إلى الاعتداد بالقدرات العربية الإنسانية وتبجيل ما تسميه بـ «الرقة الإنسانية ووداعة الكرامة».
من هنا فإن البسالة النضالية التي ظهرت بها المرنيسي تجاوزت عتبة التنظير الفكري؛ فقد كانت تقود كفاحاً ميدانياً متوازياً من أجل المساواة وحقوق النساء. وساهمت في قيادة أبحاث ميدانية حول أوضاع المرأة في المغرب، وتخرج على يديها مئات من الباحثات والباحثين في مجال علم الاجتماع، ومنذ نهاية ثمانينات القرن الماضي كان أسلوبها المفضل لفعل ذلك هو ورشات العمل الخاصة بالكتابة مع جماعات الكتّاب المستقلين.
ولدت فاطمة المرنيسي العام 1940 بفاس العاصمة العلمية للمغرب، وتابعت دراستها بجامعة محمد الخامس في الرباط وجامعة السوربون في باريس ثم جامعة برانديز بالولايات المتحدة الأميركية. وقد تُرجِمت كتب المرنيسي إلى أكثر من ثلاثين لغة وحصلت على جوائز متنوعة عالمية لقاء أعمالها، بما فيها جائزة إيرازموس الأوروبية وجائزة أمير أستورياس الإسبانية.
بدأت فاطمة حياتها العملية في مدرسة قرآنية تقليدية في فاس حيث تعرّفت على الإسلام. «الكتابة إغواء، والإغواء هو عكس العنف»، تقول الكاتبة في واحدة من مقابلاتها الصحفية في منزلها في العاصمة المغربية الرباط. «تعلّمت في مدرسة قرآنية. لماذا تعتقد أن كتباً مثل القرآن الكريم والإنجيل كانا من الكتب الأكثر مبيعاً في العالم منذ أكثر من ألف سنة؟ الإجابة بسيطة: لأنهما يسعيان إلى إغواء القارئ من خلال اللغة، وليس بالعنف».
ونشأت مع تيارات الإسلام الصوفية كما تمارس في المغرب. ورغم تكريسها للتقاليد، كان لأسرتها الممتدة بعد النظر الكافي لإرسالها إلى واحدة من أكثر المدارس الفرنسية العربية تقدماً في مدينة فاس.
كان ذلك في ستينات القرن الماضي، وفي خضمّ حركة الحقوق المدنية الأميركية. علّم كفاح حركة تحرر المرأة في الولايات المتحدة من أجل حقوق متساوية وحق تقرير وضع المرأة الجنسي الذاتي، علّم الشابة عالمة الاجتماع من الغرب أن ظلم المرأة لا يقتصر على العالم العربي وحده.
ترجمت رسالتها الدكتوراه وعنوانها (وراء الحجاب: الجنس كهندسة اجتماعية) والتي نشرت العام 1975 إلى ثلاثين لغة وقامت بترجمتها للعربية فاطمة الزهراء أزرويل التي عكفت على ترجمة أغلب نتاج المرنيسي من الفرنسية إلى العربية، وتعتبر هذه الأطروحة عملاً كلاسيكياً في بحوث النوع الاجتماعي بين الثقافات. ويعدّ عملاً آخر لها عنوانه (الحجاب والنخبة الذكورية) والذي نشر في فرنسا العام 1987 كذلك عملاً كلاسيكياً.
والنظرية المركزية في هذا الكتاب هي أن القرآن الكريم نفسه لا يبرر في الواقع ظلم المرأة، وأن العداء للمرأة يأتي في الواقع من فقهاء الدين عبر آلاف السنين والتأويلات التي ساهمت في تكريس نظرة دونية للمرأة.
ورغم ذلك، فإن مما يؤخذ على فكر المرنيسي إفراطه، المبرر نوعاً ما، في تزخيم واقع الاستضعاف والتهميش الذي تعاني منه المرأة العربية والمبالغة في تأثيراته بوصفه عائقاً أمام تقدم ونهضة مجتمعات العالم الثالث، وهي نفسها تدرك أن ما تعمل هي على مواجهته وإدانته موجود في الغرب المتقدم بشكل أو بآخر، ومع ذلك ظلت أوروبا تشق طريقها بثبات في معترك الحداثة والتحديث المتصاعد على عكس ما ترزح فيه المجتمعات العربية والإسلامية، ما يعني أن مشاكل الشرق أكبر بكثير من وضعية المرأة والإفرازات الناجمة عنها.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 4840 - الإثنين 07 ديسمبر 2015م الموافق 24 صفر 1437هـ
شكر
شكرا لمرورك
جميل ..
ان يقرأ وينهل الكاتب من كبار الكتاب والأدباء والروائيين مسلمين ، عربا وعالميين فهذا يثري ثقافته ويشد القارئ نحوه .. جميل كل ما تكتبه ويستحق المتابعة بوركت .