العدد 4839 - الأحد 06 ديسمبر 2015م الموافق 23 صفر 1437هـ

عندما يستنزف التضخم الوظيفي جل دخل النفط

عبدالحسن بوحسين comments [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

يعتبر أبو الحسن الماوردي المولود في البصرة في العام 974م من أول الفقهاء الذين تنبهوا إلى مخاطر التضخم الوظيفي على بيت المال. ففي كتابه «قوانين الوزارة وسياسة الملوك» ذكر ما يلي:«لا يستكثر الحاكم من العمال ولا يستخلف على الرعية منهم إلا العدد الذي لا يجد منهم بدا فإن الاستكثار منهم فوق الحاجة ضرب من الفساد، فإن كثر الأعوان والحاشية كثرت أرزاقهم ومؤنهم على بيت المال، فشغلت المال عن الأوجب الأولى، والأحق الأحرى، وأضرت ببيت المال، ان المساعدين ان كثروا كثرت مكاتبهم وكتبهم وكتب الأمناء عليهم والشكايات منهم والرجائع عليهم».

إن أضرار التضخم الوظيفي تنعكس على المجتمع بأسره. لهذا السبب اعتبره الماوردي ضرباً من الفساد. فعلاوة على استنزافه لموارد الدولة فإنه يتسبب في تعطيل طاقة بشرية ويحولها إلى عالة على مصادر الإنتاج الأخرى بالإضافة إلى تسببه في انتشار البيروقراطية ومظاهر الفساد وتعقيد إجراءات العمل.

يستعرض هذا المقال التضخم الوظيفي وأسبابه التي يمكن تقسيمها إلى عوامل سياسية وأخرى إدارية. فعلى الجانب السياسي تخلق الوظائف في القطاع العام لامتصاص الفائض في سوق العمل بسبب الركود الاقتصادي وعجز القطاع الخاص عن خلق فرص عمل جديدة وخاصة في الأنظمة الاقتصادية الموجهة. كما توجد أسباب أخرى منها كسب التأييد وشراء الولاءات دونما اعتبار لاحتياجات العمل. في هذه الحالة يلقي العامل السياسي بظلاله على النهج الإداري في الإدارة العامة فتتبنى أجهزتها المركزية سياسات وإجراءات عمل تتجاهل العامل الاقتصادي في إدارة الموارد البشرية كعامل الإنتاجية ونسبة العائد من قيمة العمل.

أما المسببات الإدارية للتضخم الوظيفي فيمكن ايجازها في ما يلي:

- تجزئة المهام المتشابهة في داخل التنظيم FRAGMENTATION وبين الجهاز الإداري والأجهزة الأخرى مما يتسبب في بروز ظاهرة الازدواجية ومضاعفة عدد الأجهزة الإدارية التي تزيد بدورها من عدد الموظفين التنفيذيين والموظفين الآخرين المساعدين. ففي مملكة البحرين مثلاً ارتفع عدد الوزارات من خمس عشرة وزارة في العام 2003 إلى اثنتين وعشرين وزارة وأكثر من ستين هيئة ومؤسسة حكومية في العام 2014 وذلك بسبب فصل بعض الوزارات واستحداث هيئات ومؤسسات جديدة، وزيادة عدد الإدارات في بعض الأجهزة الحكومية كديوان الخدمة المدنية الذي ارتفع عدد الإدارات فيه إلى أربع عشر إدارة. وقد نتج عن هذا التوجه زيادة حادة في المصروفات المتكررة التي تشكل مصروفات الباب الأول نسبة كبيرة منها حيث ارتفعت من 860 مليون دينار في العام 2004 إلى 3.156.586.000 في العام 2015 أي ما يعادل ضعف إجمالي إيرادات النفط والغاز تقريباً والبالغة 1.824.149.000 لسنة 2015 مما يعني إعاقة أي جهد لاستثمار عائدات النفط والغاز في مشاريع منتجة.

في جلسة لمجلس الشورى في العام 2006 نبه كاتب هذا المقال القائمين على الخدمة المدنية الى ضرورة ترشيد استخدام القوى العاملة في الأجهزة الحكومية وأوضح ان نسبة النمو في حجم القوى العاملة في الخدمة المدنية آنذاك قد فاقت السقوف الوظيفية المعتمدة حتى بات لدينا موظف مدني واحد لكل اثني عشر مواطن في حين تبلغ هذه النسبة موظفاً واحداً لكل 221 مواطناً في دولة مثل سنغافورة.

- من أسباب التضخم الوظيفي أيضا غياب نظام فعال لتصنيف الوظائف الذي يحدد الأجر على قدر العمل مما يتسبب في منح درجات عليا لشاغل الوظيفة بدلاً من التصنيف الصحيح لمسئوليات الوظيفة، فيتم التخلي عن مبدأ العدالة (EQUITY) في تصنيف الوظائف، وعن مبدأ الأجر على قدر العمل. في هذه الحالة تزحف الوظائف العليا الى أعلى الهرم الوظيفي في ظاهرة يطلق عليها (GRADE CREEP) مما يفاقم من مشكلة زيادة المصروفات في الباب الأول. ففي مملكة البحرين مثلاً تراوحت نسبة الزيادة في عدد الوظائف التنفيذية بين 18 و20 في المئة في العام 2006 والعام 2011. وفي خطوة غير مألوفة فقد تم تحويل بعض الأطباء من جدول رواتب الوظائف التخصصية إلى جدول الوظائف التنفيذية مما أدى الى تفاقم ظاهرة زيادة مصروفات الباب الأول. فإذا ما افترضنا وجود 1500 وظيفة تنفيذية مشغولة في أجهزة الخدمة المدنية في الوقت الحاضر حيث كان عددها 1388 في العام 2011، وان معدل التكلفة للوظيفة التنفيذية في الشهر هو 2500 دينار بحريني فإن التكلفة السنوية لهذه الوظائف فقط هي 45 مليون دينار غير شاملة لمستحقات الإجازة السنوية والعلاوات المصاحبة واشتراكات التقاعد.

- ضعف الرقابة على العمل الإضافي حيث تعتبر ساعات العمل الإضافي زيادة في حجم القوى العاملة عندما يتم تحويل عدد هذه الساعات إلى موظف بدوام كامل في السنة الواحدة. وتتضاعف هذه التكلفة عندما يتم منح شاغلي الوظائف التنفيذية مستحقات للعمل الإضافي في ظاهرة نادرة سبق ان نبهنا من مخاطرها على الميزانية العامة في مملكة البحرين.

يعتبر التضخم الوظيفي سرطاناً في جسد الإدارة العامة. وما لم تتم السيطرة عليه في وقت مبكر فإنه يفتك بالجسد وذلك لصعوبة معالجته. لقد تمكنت مملكة البحرين في مرحلة ما بعد الاستقلال من ترشيد نمو القوى العاملة في الإدارة العامة وضبط المصروفات المتكررة من خلال سياسات وإجراءات عمل نذكر منها ما يلي:

- إصدار قوانين تحدد سقوفاً وظيفية سنوية لكل وزارة ومؤسسة حكومية مبنية على دراسات متخصصة ومستمرة تتعلق بحجم وطرق العمل والتي تحدد من خلالها حجم القوى العاملة الضرورية لكل جهاز حكومي، وهكذا يتم اعتماد ميزانية القوى العاملة وفقاً لحصيلة هذه الدراسات الخاضعة للتحليل الكمي.

- استحداث نظام فعال لتصنيف الوظائف يحدد القيمة المالية الحقيقية لكل وظيفة بغرض تحقيق العدالة في الأجر والتناسق بين مختلف الوظائف في الأجهزة الحكومية.

- تبني نموذج للهيكلة والتنظيم وفقاً للمعايير والمبادئ الإدارية المتعارف عليها دولياً كمعيار نطاق الاشراف وغيره من المعايير التي تحد من تعدد المستويات الإدارية والتضخم في الوظائف التنفيذية، ومنع الازدواجية والتداخل في المهام وظاهرة الهرم المقلوب. ولكون هذه التجربة رائدة في المنطقة فقد نالت الثناء في المحافل الدولية واعتبرت نموذجاً يحتذى به في المنطقة.

تواجه دول المنطقة، ومن بينها مملكة البحرين، في الوقت الحاضر تحديات اقتصادية كبيرة بسبب تراجع أسعار النفط، مما أدى إلى تراكم العجز في ميزانية مملكة البحرين ليرتفع من 384 مليون دينار في العام 2004 إلى 1.504.257.000 في العام 2015. وقد بلغت الزيادة في المصروفات المتكررة ما يعادل ضعف العجز في الميزانية العامة للدولة لهذا العام، مما يعطي مؤشراً واضحاً لضرورة ترشيد استخدام القوى العاملة في الإدارة العامة وذلك باستحضار الآليات التي تميزت بها مملكة البحرين في فترات سابقة والتي مكنتها من السيطرة على مصروفاتها المتكررة بصورة صحيحة.

إقرأ أيضا لـ "عبدالحسن بوحسين"

العدد 4839 - الأحد 06 ديسمبر 2015م الموافق 23 صفر 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 2:35 ص

      وظائف تنفيذية بشهادة أقل

      توجد مؤسسات و هيئات يرؤس اداراتها أشخاص لديهم خبرة أقل و شهادة أقل من الموظفين. الطامة الكبرى انتاجية هؤلاء أقل لكن رواتبهم أعلى

    • زائر 2 | 9:57 م

      لا هذا و لا ذاك

      التجنيس السياسي كان قنبلة موقوتة و انفجرت بعد انخفاض اسعار النفط، خلق التجنيس ضغطا هائلا على خدمات الدولة و زاحم المواطنين الأصليين في أرزاقهم، و كون المشكلة من الأعلى فلا يوجد حل من دون ارادة سياسية

    • زائر 1 | 9:37 م

      سؤال

      و هل عبارة النائبة السلطان مستخرجة من هذا التراكم و الازدحام الوظيفي؟. لان نري الاهمال و التأخير في التنفيذ و عدم إعطاء اعتبار للمواطنين لديهم صفة مرادفة للموظفين.

اقرأ ايضاً