ليس اكتشافاً القول، إن التنظيمات الإرهابية التي يعاني العالم من أكثرها، لم تكن تحت البصر والاهتمام حين كانت كيانات ومجاميع داخل بلدانها. إحراق الأوطان من الداخل لدى دول غربية شأن داخلي، مادام بعيداً عن حدودها، أو قريباً منها. كانت تلك هي النظرة الكلاسيكية إلى الإرهاب ما قبل سبعينات القرن الماضي. كانت سيادة الدول على الحدود تعزِّزها الثقة المفرطة، والطمأنينة الخادعة.
خلاصة الأمر: تم السكوت على ممارسات تلك التنظيمات والكيانات، مادامت تلعب على أرضها. وقتها لم يكن الإرهاب عابراً للحدود بالصورة التي يظهر فيها اليوم، مُهدِّداً الدول المطمئنة في عقر دارها، ورمز قوتها!
في الذاكرة التاريخية، وإن لم تكن منتظمة في ترتيبها، بعض التجلِّي والنظر. لم تكن منظمة «القاعدة» إرهابية، وهي التي ولدت من رحم «طالبان»، و «طالبان» التي ولدت من رحم ما يسمون بـ «المجاهدين» فترة مواجهة الاتحاد السوفياتي بعد اجتياح حدود أفغانستان. لم تكن إرهابية، بمعنى التحشيد ضدها، وتوفير الموارد لوضع نهايات لها، لأنها كانت تلعب ضمن حدودها. (الإدراج على قائمة الإرهاب، لم ولن يضع حدَّاً للتمدُّد والتغلغل إلى البلدان النائمة على طمأنينتها). كان العالم وقتها مع أول تجمُّع بشري متباين في لغته وثقافته وانتمائه الجغرافي، يلتقي في بقعة واحدة. الخلاصة: لم يلتفت العالم إلى الصعود المدوي لتيارات إرهاب «الإسلام السياسي» إلا مع تفجير مركز التجارة العالمي في نيويورك، ومحاولة دك مبنى «البنتاغون».
لتنتقل تلك السابقة من مرحلة المجاميع المتناثرة في أرض وعرة، وبدعم من أجهزة استخبارات العالم الغربي وبعض الدول العربية، إلى مرحلة تأسيس كيان خاص بها يقترب من صيغة الدولة في مستويات فوضاها وبدائيتها المفرطة (داعش) لها جيشها المتمثل في الميليشيات، وعَلم يتم إشهاره اليوم مع كل عمليات ذبح فردي أو جماعي، ولها هيكلها الإداري والتنفيذي، وسط مجموعة من الدول المأزومة. الخريطة العربية فائضة بالأزمات عموماً، ولن تجد المجاميع الإرهابية بيئة مثالية أكثر من تلك، ويرى كثيرون أنها أحد الحوافز المهمة التي تدفع بتلك التنظيمات إلى التمدُّد، وربما إلقاء خلافاتها جانباً لتقوية قبضتها والتعجيل بتحقيق أهدافها.
«داعش» أو ما يسمى «الدولة الإسلامية»، هي إحدى تلك التجليات للواقع المأزوم في بنيته السياسية، والأهم من ذلك بنيته الفكرية والعقائدية، تلك التي تم استلالها من أكثر مشاهد وتجليات التاريخ دموية ووحشية وعنفاً.
لم يعد التساؤل بصيغته الآتية: هل دخلنا مرحلة عولمة الإرهاب؟ مناسباً، إذ دخل العالم حقبة ما بعد عولمة الإرهاب، بدليل اليقظة المتأخرة، وتشكُّل التحالفات من مشارق الأرض ومغاربها؛ بغضِّ النظر عن جدِّية بعض تلك التحالفات من عدمها.
كل تلك الإجراءات التي يتم اتخاذها اليوم، تكشف عن عجز الدول منفردة عن مواجهة هذا الوباء الذي أصبح قادراً على التسلل إلى طمأنينة الدول وتخريبها، تاركاً إياها في حال وجوم وصدمة ودموع، والأهم من كل ذلك، تاركاً إياها تسبح في بحار من الدماء وأكوام من الأشلاء، وتعرية عجزها، وانكشاف أجهزة استخباراتها.
كان على العالم أن ينتظر كارثة هي على مقربة مع كارثة سبتمبر/ أيلول الأميركي (11 سبتمبر 2001)، بإسقاط الطائرة المدنية الروسية مؤخراً في صحراء سيناء المصرية. كل ذلك الذبح والمجازر داخل الحدود العربية التي تقطعت أوصالها بفعل الإرهاب والمجاميع الإرهابية؛ علاوة على ما تهيّئه بعض الأنظمة من بيئات مفرِّخة لذلك الإرهاب، لم يلفت انتباه الولايات المتحدة والدول الغربية، وبقية دول العالم، وكأنها بذلك تنتظر وصوله إلى حدودها، كلما برز تحالف هنا، واتفاق هناك.
وبالعودة إلى الذاكرة التاريخية، التي تؤكد عدم مبالاة الدول الكبرى بالإرهاب وصيَغه وتشكيلاته مادام مُفعَّلاً ضمن حدوده، وبمنأى عنها، علينا العودة إلى منتصف ستينات القرن الماضي (1965)، حين تشكَّلت جماعة التكفير والهجرة، التي منها بدأ تأصيل عمليات القتل والتفجير في العصر الحديث (المرجعية الأساس لمعظم التنظيمات الإرهابية التي نشهد) بإحيائها فكر وعقيدة الخوارج، وتكفير كل من ارتكب كبيرة وأصرَّ عليها، وتكفير الحكام والمحكومين لرضاهم بهم، وكذلك العلماء لعدم تكفيرهم أولئك الحكام، وما نتَجَ عن ذلك التنظيم من أعمال دموية في تسعينات القرن الماضي في مصر خصوصاً، وقبلها، ما شكَّله مَدد تلك الجماعات من أهمية لما يسمَّى بـ «المجاهدين» في أفغانستان؛ سواء على مستوى التأصيل أو على مستوى المباشرة في الفعل.
حقبة ما بعد عولمة الإرهاب، تتطلب بالدرجة الأولى عولمة الأساليب لمكافحته، ليس بآلة الدمار الشامل فحسب، فثمة آلات تعمل على تغذيته فكراً وقناعة، وإيهاماً بأنه الإيمان في صيغته النقية، عبر تأصيل قديم، يتم العمل على تأكيده، وبثه في كثير من المناهج، وكثير من وسائل الإعلام، ومنصات الإعلام الرقمي خصوصاً. ولن يتسنَّى للعولمة المضادة للإرهاب أن تنجح في مساعيها وأهدافها ما لم يُصَرْ إلى إعادة النظر في الواقع الذي تم تثبيته، وتم مع ذلك التثبيت إدخاله في مزيد من الأزمات، وكذلك إعادة النظر في التعامل مع الذين يُسهمون في تعميق وتأبيد تلك الأزمات.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4839 - الأحد 06 ديسمبر 2015م الموافق 23 صفر 1437هـ