في ذات ليلة قريبة، تشرفت أنا وكذلك اثنتان من أصدقائي بزيارة فضيلة الشيخ عبداللطيف آل محمود، وأسباب شتى توجب زيارته، فبالإضافة إلى الاطمئنان على صحته، فهو من العلماء الذين أعطوا هذا الوطن الكثير، وكان في صدارة الحركة المطلبية في فترة حرجة كان فيها المجاهر بالإصلاح كالقابض على الجمر، فكان أمام خيارين: السجن من أمامه والانصياع لزهو المناصب والمكاسب أو الهروب من الغربة إلى الغربة.
كان الشيخ المحمود مستجيبا لنداء الإصلاح في زمن قل فيه الناصر، وكان لدخوله الحراك السياسي دورٌ لا يجب أن ينسى في إضفاء اللون الذهبي للنضال الشعبي بعيدا عن أية أوصاف فرعية صغيرة لا تصمد أمام عنوان الوطن الأم... لنا أن نتفق أو نختلف مع الشيخ طرحا أو أسلوبا أو منهاجا في العمل الذي ربما كان يراه أصوب في نيل المطالب، ولكننا لا نختلف في الشيخ.
حين يتسنى لنا أن نتتبع صفحات الشيخ المحمود، فإننا نجده صوتا للحق من محرابه، أو أستاذاَ يصوغ جيلا في أروقة الجامعة، أو مؤسسا وناشطا لعمل خيري، ومشاركا في المنابر الداعية للإصلاح في الخليج الذي ظل مضطربا على الدوام، وإذا أمعنا في البحث سنجد المحمود في صولات وجولات مع من استهواهم قصر النظر فأرادوا وصم النضال من أجل العدالة بشتى أوصاف العمالة.
على مشارف الحد سألنا عن منزل الشيخ المحمود، وأخبروني أن الشيخ متواجد في المسجد حينها، ذهبنا إلى المسجد الذي يصلي فيه الشيخ، وانتظرناه برهة من الزمن، ثم خرج علينا شيخ شاب أزهري وسألناه أيضا، فأخبرنا أن الشيخ يحدّث في المصلين، وكان صوته يتنامى إلى أسماعنا عند مدخل المسجد... دخلنا عليه المحراب ووجدناه خطيبا مفوها كعادته.
ما إن أفاض الشيخ من صلاته حتى تقدمت له أولا... نظر إلي من بعد. قبلته على رأسه وعانقنا وكانت الابتسامة تعلو محياه... اصطحبنا في دهاليز المنطقة، بين فرجانها القديمة وأزقتها الضيقة في طريق - أجزم أنني لن أستطيع أن أكتشفه - حتى لو مررت عليه عشرا، وصلنا بيته الذي لا يفرق كثيرا عن بيوت عامة الناس. فالشيخ لم يشيد قصرا عامرا. وحينما كنت أسير مع الشيخ طافت بي الذكريات للوراء قليلا، وتحديدا إلى موقف الشيخ المشرف من المطالبة الشعبية بالحقوق الدستورية، وتذكرت بالضبط تصريحا للشيخ في هيئة الإذاعة البريطانية الـ «بي بي سي» حينما سأل عن هدف الحركة النخبوية والشعبية فرد الشيخ بصوته المعهود وهدوء نبرته وحديتها في آن: «الشعب ينتظر المجلس الوطني الذي طال أمده».
على سبيل المرح سألت الشيخ: تغيّر الآخرون ولم تتغير، فرد الشيخ: «دعوتنا إلى الوحدة لم تتغير، لأن من تغيروا يدركون اليوم أكثر من غيرهم صحة دعوتنا التي سنظل ننادي بها».
ما إن جلس حتى بادلنا الابتسامة والترحاب محددا، وأنا كنت أجرأ الموجودين فبادرته بسؤال: فضيلة الشيخ كيف تقرأ أوضاع الساحة اليوم؟ تمهل الشيخ المحمود في رده، أطرق رأسه هنيئة ليجيب بسرد تاريخي يبدو مفصلا رغم عموميته، إذ قال: «إن العرب بفضل تمسكهم بالدعوة الإسلامية التي هي دعوة حضارية جامعة للناس كافة أصبحوا قادة أمم بعدما كانوا رعاة غنم»، وقد تردى حالهم في جاهليات لاحقة عندما حادوا عن دينهم فأصبحوا متفرقين كغثاء السيل.
دخل علينا الشيخ أحمد المحمود أيضا، لكنه آثر الصمت على ما يبدو في حضرة أخيه، وتحدث الشيخ عبداللطيف في «حقيقة التنوع وإشكالية التعايش» فقال: «هناك حقيقة وهي أن البحرين تتألف من طائفتين كريمتين، ولا يمكن لأحد أن يتجاوز هذه الحقيقة، ولكن لماذا لا نتعايش معا لكوننا أبناء دين واحد ووطن واحد ومستقبلنا واحد، يجب ألا نصغي لمن يحاول أن يدك الأسفين فيما بيننا، ديننا ووطننا ومستقبلنا يوجبون علينا الوحدة والتعاون والتآلف، ويجب أن يتجسد ذلك في حضورنا اليومي، وقد رددت ذلك عشرات المرات في المساجد والمآتم والحسينيات».
استطرد الشيخ في حديثه الشيق، هذا ما كنت أتوقعه، ولكن ما لم أكن أتوقعه أن الشيخ معجب بالتجربة الهندية في العدالة والتسامح، وراح يضرب الأمثلة على قيمة التسامح في هذا المجتمع، «رغم أن هؤلاء يعتمدون على عدالتهم وفق منظورهم»، وهي كأية تجربة بشرية لا تصل مدارج الكمال لكنها استطاعت أن تتآلف بين أمة متركبة من مختلف الأديان والقوميات وحتى الأعراق، ولم يفت الشيخ الإشارة إلى نصيحة الزعيم الهندي المهاتاما غاندي لمؤسس دولة باكستان محمد علي جناح حينما نصحه بعدم الانفصال عن الوطن الأم، وكان غاندي يدرك حينها أن خطة الانفصال كانت مخططا استعماريا لتقسيم هذه المنطقة وتسهيل عملية السيطرة عليها، وراح الشيخ يقدم مقاربة عن أوضاع البلدين الآن بعد عقود من الانفصال.
لم أترك الشيخ فسألته: «شيخنا أراك تثني على العلمانية الهندية»، وكان جواب الشيخ بديهيا حينما كرّر أن الرؤية الإسلامية هي أصلح نظام، لأن الله اختارها لإدارة هذا الكون، ولكن لما فرط المسلمون بهذه الرؤية، نجد أن الرؤى البشرية تحاول على رغم ما يعتريها أن تسيّر نظام الحياة بشيء من الابتكار العقلي للإنسان، فهناك علمانيتان، علمانية يرى أصحابها أنها مقتبسة من العلم، وعلمانية أخرى تقصي الدين عن الساحة، وهي العلمانية الأخطر التي ابتلينا بها (كما يقول الشيخ).
الشيخ المحمود تحدث بشيء من التفصيل عن الحاجة للتقارب بين ضفتي الخليج بين العرب وإيران، وشدّد الشيخ على أن تجاور الحضارتين العربية والفارسية يجب أن يكون مصدر ثراء، ويجب أن تكون العلاقة مع إيران علاقة متميزة، لأننا نشاركها في الدين وفي الجغرافيا، ولذلك فإن منطق العداء بين الجارين لن يخدم أحدا سوى أعداء هذه الأمة التي يتربصون بها الدوائر».
سألت الشيخ المحمود عما إذا كان قلقا على وضع البحرين في خضم موجة من التجاذبات الطائفية في المنطقة فأجاب الشيخ: «نعم لدينا قلق على البحرين، لأن البعض يتصيد في الماء العكر، وهناك من له أجنده، وأجندته قائمة على تفرقنا، وهؤلاء يراهنون على عدم وعينا لا سمح الله، لذلك فإن اليقظة واجبة».
قبل أن ننصرف ودعنا الشيخ، وأهدانا نسخا من آخر حصاده البحثي الدؤوب، فالشيخ الذي تقاعد من الجامعة لم يتقاعد عن البحث والتحصيل، وكان الكتاب اسمه «الفرقة الناجية هي فرقة المتقين...» «البحرين أمانة في أعناقنا جميعا»... هذه آخر كلمة سمعناها من الشيخ، وسيظل يتردد صداها فينا، لأن واجبنا جميعا أن نصون الأمانة. ليس ذلك فحسب ما تذكرته عن الشيخ وأنا أودعه، فذاكرتي اختزنت مقطعا جميلا من الموكب الحسيني في التسعينيات - والموكب كان يومها صوت الحراك الشعبي ونبض التحرك الجماهيري - «بالإسلام وبالقومية المحمود شقيق الجمري»...
يا ترى كم من الشيخ المحمود والجمري وأمثالهما نحتاج، فالقامات الكبيرة حصن منيع تنير لنا الدرب حتى لا ننزلق في مكيدة المتربصين بنا شرا في عتمة ظلامنا.
إقرأ أيضا لـ "حيدر محمد"العدد 2469 - الثلثاء 09 يونيو 2009م الموافق 15 جمادى الآخرة 1430هـ
رحمك الله أبا جميل
المحمود .. معارضة الحكومة ضد نفسها !!
أيدي اللؤلؤ ممدوة فهل من مجيب؟
كم هي المسافة الزمنية .. بين خطاب البارحة و هذه الزيارة؟
هل تغير
الكلمات التي عبر عنها البارحة لا تعبر عن ذلك؟؟؟