العدد 4837 - الجمعة 04 ديسمبر 2015م الموافق 21 صفر 1437هـ

ما بعد دولة دلمون: أسرار الاستيطان على الساحل الغربي

مرت دولة دلمون بثلاث مراحل رئيسية: مرحلة التأسيس (2200 - 2000 ق. م.)، ومرحلة التوسع والذروة (2000 - 1800 ق. م.)، ومرحلة الأفول (1800 - 1600 ق. م.) (Hojlund 1989). كما توجد مرحلة انتقالية مهمة بين مرحلة التأسيس ومرحلة النضج وهي الفترة بين (2050 - 2000 ق. م.) والتي أسماها البعض proto-dilmun أو فترة ما قبل نضج دولة دلمون Laursen 2010)). وتعتبر هذه الحقب التاريخية أكثر الحقب وضوحاً في تاريخ البحرين القديم، والتي درست بصورة مفصلة؛ وتسلسلها واضح في الجزء الشمالي من البحرين في موقع قلعة البحرين، وكذلك في الجزء الجنوبي؛ حيث تم تحديد تسلسلها من خلال أنواع القبور الدلمونية، وبالخصوص تلك المجموعة المتركزة بالقرب من قريتي بوري وكرزكان. أما الحقب التاريخية بعد أفول دولة دلمون (قرابة العام 1600 ق. م.) فتتسم بالغموض، ولم يتم دراستها بصورة مفصلة.

يذكر أن نتائج التنقيب في العديد من المواقع الأثرية، التي تعود للحقب التاريخية بعد دولة دلمون، لم يتم نشرها بصورة مفصلة حتى الآن، من تلك المواقع، على سبيل المثال، المقشع والحجر وكرانة وغيرها، وهذا ما يجعل هذه الحقب التاريخية غامضة. إلا أن المرجح أن المواقع الأثرية التي تعود لهذه الحقب قليلة مقارنة بحقبة دولة دلمون؛ وذلك بسبب الأفول الاقتصادي الذي أصاب عددٍ من المناطق في الخليج العربي بنسب متفاوتة. ويرجح بعض الباحثين، اعتماداً على أدلة كتابية وأثرية لمواقع مختلفة في منطقة الخليج العربي، أن المنطقة تعرضت لانهيار اقتصادي وسياسي أو أزمة حضارية بعد القرن الثامن عشر قبل الميلاد (Edens 1986).

هذا، وبعد أفول دولة دلمون، خضعت البحرين لسيطرة القوى المسيطرة على الجنوب الرافدي، وهم: الكشيون (1531 - 1155 ق. م.)، ودولة آشور الجديدة (911 - 609 ق. م.)، ودولة بابل الجديدة (626 - 539 ق. م.).

حقبة السيطرة الكشية

تعتبر بدايات الحقبة الكشية في البحرين غامضة، إلا أن المرجح أنها بدأت ما بين الأعوام 1600 ق. م و 1500 ق.م. أي بعد فترة الأفول الاقتصادي والانقطاع الحضاري الذي ظهر على جزر البحرين. وفي هذه الفترة استطاع الكشيون الذين سيطروا على جنوب بلاد الرافدين (قرابة العام 1600 ق. م.) أن يسيطروا على دلمون والتي كانت تضم جزر البحرين وشرق الجزيرة العربية وجزيرة فيلكا. وقد بنى الكشيون في جزر البحرين المدينة الثالثة في موقع قلعة البحرين وذلك فوق أنقاض المدينة الثانية التي كانت تمثل دولة دلمون. ويعتقد البعض أنه ربما كانت هناك إيجابية للسيطرة الكشية فربما تكون هذه السيطرة أكسبت جزر البحرين شيئاً من الأهمية بعد حقبة زمنية تميزت بالركود أو الأفول الاقتصادي (Lombard 1999).

وبالرغم من غموض بداية هذه الحقبة إلا أن أدلة السيطرة الكشية على البحرين واضحة؛ حيث عثر على أدلة كتابية وهي النقوشات التي عثر عليها في بلاد الرافدين والتي تذكر سيطرة الكشيين على دلمون. كذلك، فقد لوحظ تغير فجائي في الطبقات الأثرية؛ حيث تناقص فخار باربار وظهور فخار جديد ومنتشر بكميات كبيرة وهو الفخار الكشي الذي عرف بالفخار الكارميلي أو العسلي (caramel ware). ومن الواضح أن الكشيين عملوا على طمس هوية باربار فالفخار الكشي صنع محلياً ولم يستورد من الخارج؛ يدلنا على ذلك طريقة عجن الطين قبل تصنيع الفخار منه، والذي تميزت به الجماعات التي صنعت فخار باربار، حيث يتم خلط نسبة من الرمل بالطين بعدها يصنع منه الفخار. ويبدو أن هذه العادة في خلط الرمل تحولت لبصمة خفية تخص شعب ثقافة باربار الذي صنع فخاره الخاص بهذه الطريقة (Denton 1991، p. 108). أي أن، المرجح أن هذا الفخار الكشي، قد تم تصنيعه في جزر البحرين بإيعاز من القيادة الكشية. كذلك، فقد تم إلغاء الأختام الدائرية التي كانت تستخدم في المعاملات التجارية وتم استخدام الأختام الأسطوانية بدلاً منها وهي أختام يتم دمغها على الطين وذلك بدحرجتها على الطين لتعطي دمغة بشكل مستطيل. بمعنى آخر هناك تغير في الهوية فقد تراجعت هوية دولة دلمون المحلية وظهرت الهوية الكشية.

مستوطنات الحقبة الكشية في البحرين

توجد العديد من المناطق التي يرجح أنها كانت مستوطنات تعود للحقبة الكشية، وهي ممثلة في الجزء الشمالي من البحرين بصورة أساسية، وهي، في موقع قلعة البحرين، وهي الطبقة الأثرية التي عرفت بالمدينة الثالثة والتي تميزت بظهور مخلفات الحقبة الكشية من مبانٍ ومنشآت معمارية وأوانٍ فخارية تميزت بعناصر انفرد بها الفن الكشي الذي وجدت نظائره في جنوب بلاد الرافدين خلال الفترة التي سيطرت فيها الشعوب الكشية على الجنوب الرافدي. كما يرجح وجود موقع استيطان في جدحفص؛ حيث عثر فيها على حجر الكابتن ديوراند الشهير، وكذلك يرجح وجود مستوطنة تعود لهذه الحقبة في الجنوب الغربي من قرية باربار. وبالإضافة لذلك، توجد عدة مقابر عثر فيها على الفخار الكشي، وهي مقبرة الحجر ومقبرة المقشع، وبعض القبور في سار وقبر واحد بالقرب من معبد الدراز. أما في الجزء الجنوبي من البحرين فلم يعثر إلا على موقعين فقط، أحدهما في قرية عالي، والثاني عبارة عن قبور منتشرة في بوري وكرزكان (بوتس 2003، ج1، ص 461 - 466)، (Larsen 1983، appendix II).

حقبة دلمون المتأخرة

بعد الحقبة الكشية لا يوجد ذكر لاسم دلمون في النقوشات الفراتية وقد استمر الصمت عن اسم دلمون قرابة 500 عام أي منذ 1240 ق. م وحتى 709 ق.م. ثم عاد اسم دلمون للظهور في النقوشات الفراتية واستمر في الظهور ما بين 709 ق. م. وحتى 544 ق.م. وتغطي هذه الحقبة الزمنية (709 ق. م. - 544 ق.م.)، أي إبان سيطرة كل من الدولة الآشورية الجديدة والدولة البابلية الجديدة على التوالي على جنوب بلاد الرافدين. وقد تزامنت تلك النقوشات التي تذكر اسم دلمون مع وجود آثار عثر عليها في البحرين تدل على وجود تأثيرات لكل من بلاد بابل الجديدة وآشور الجديدة. وتوجد هذه الآثار، بصورة أساسية، في الجزء الشمالي من البحرين، وأهمها تلك التي تقع في موقع قلعة البحرين، متمثلة في الطبقة الآثارية التي عرفت باسم المدينة الرابعة. وكذلك، وجدت آثار لهذه الحقب التاريخية في الحجر والمقشع وباربار وكرانة. أما في الجزء الجنوبي فقد عثر على آثار هذه الحقب في كل من عالي وكرزكان (بوتس 2003، ج1، ص 480 - 490)، (Larsen 1983، appendix II).

الخلاصة

من خلال هذا العرض السريع لأهم المواقع الأثرية التي عثر فيها على آثار تعود لحقبتي دلمون المتوسطة والمتأخرة، بالإضافة لما قدمناه في الحلقات السابقة، يتضح لنا أن موقع كرزكان على الساحل الغربي للبحرين ذو أهمية كبيرة؛ حيث عثر فيه على آثار تعود للحقب التاريخية التالية: الحقبة العُبيدية، وحقبة جمدة نصر، وحقب دلمون (المبكرة، والمتوسطة، والمتأخرة)، أي أنها تغطي الفترة ما بين 4000 - 550 ق. م. ولكن، هل استمر الاستيطان حتى الحقب الإسلامية؟ أم حدثت هجرة منه؟ هذا ما سوف نناقشه في الحلقات القادمة.

العدد 4837 - الجمعة 04 ديسمبر 2015م الموافق 21 صفر 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً