تسلّم طارق عامر منصبه الجديد حاكماً على البنك المركزي المصري اعتباراً من 27 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، بعد استقالة هشام رامز في 21 تشرين الأول/أكتوبر الماضي. يشكّل تعيينه تغييراً دراماتيكياً وضرورياً جداً في السياسة النقدية المصرية، وإقراراً ضمنياً من جانب الحكومة بأن القوة النسبية للجنيه المصري لم تعد قابلة للاستدامة. وقد كانت هذه الخطوة موضع إشادة من رجال الأعمال والمستثمرين المصريين الذي يعانون من النقص في العملات الأجنبية في الأعوام الأخيرة. على الرغم من المؤهلات التي يتمتع بها عامر في القطاع الاقتصادي - كان نائب حاكم البنك المركزي المصري من 2003 إلى 2008، وفي الأعوام الأربعة اللاحقة أحدث تغييراً جذرياً في البنك الأهلي المصري الذي كان يتخبط في أزمة قوية - إلا أن التراجع الشديد في احتياطي العملات الأجنبية والظروف القاسية التي يعاني منها الاقتصاد، تزجّه في وضعٍ بغاية الصعوبة.
تراجع صافي احتياطي العملات الأجنبية المصرية إلى 16.3 مليار دولار أميركي في أيلول/سبتمبر 2015، أي أقل بنحو عشرين مليار دولار من قيمة هذا الاحتياطي قبل ثورة 2011. ويعود ذلك في شكل أساسي إلى الجهود التي بذلها البنك المركزي المصري للدفاع عن قيمة الجنيه في وجه تراجع الطلب على الصادرات المصرية. على الرغم من حصول مصر على أكثر من 40 مليار دولار في شكل قروض ومنح من بلدان الخليج وإصدارها سندات يوروبوند بقيمة 1.5 مليار دولار، إلا أنها لاتملك احتياطياً كافياً من العملات الأجنبية لتعزيز قيمة الجنيه المصري. ولم تؤدِّ المحاولات للتخلص من سوق الدولار السوداء عن طريق فرض حدود على الودائع بالدولار سوى إلى تفاقم النقص في السيولة المتوافرة للمستوردين بالدولار الأميركي.
فضلاً عن سياسة البنك المركزي، تسبّب عددٌ من العوامل الخارجية أيضاً في تدهور المكانة الماكرواقتصادية لمصر. أولاً، في أعقاب انتفاضتين شعبيتين، ومؤخراً، تفجير طائرة "متروجت" في رحلتها رقم 9268، ما أسفر عن مقتل 224 شخصاً، شهد قطاع السياحة الذي يشكّل مصدراً مهماً للعملات الأجنبية، تدهوراً مطرداً. ثانياً، أدّى انخفاض قيمة اليورو والين الياباني في مقابل الدولار الذي يُستخدَم في تحديد قيمة الجنيه المصري، إلى تحسّن قيمة الجنيه بعد تراجعها في العامين الماضيين. في الظروف العادية، كان ذلك ليشكّل تطوراً إيجابياً لكن نظراً إلى تثبيت الجنيه المصري بأكثر من قيمته الفعلية، ومحاولة مصر تعزيز الصادرات، من شأن التحسّن النسبي في قيمة الجنيه (أو عدم خفض قيمته) أن يقضي على أية إيجابيات يمكن أن تتحقق في مجال تعزيز الصادرات جراء تراجع قيمة العملة المصرية. ثالثاً، لاتزال الحكومة تعمل من أجل تسديد المبالغ المتوجّبة لعدد من شركات النفط الدولية نتيجة استحواذ الحكومة على الغاز الطبيعي الذي كان مخصصاً للسوق الدولية لكن جرى ضخّه في شبكة الغاز الوطنية المصرية، وتنوي تسديد 500 مليون دولار إضافية من المستحقات المتأخرة قبل نهاية العالم الجاري.
باختصار، الخيارات المتاحة أمام عامر لمعالجة أزمة احتياطي العملات الأجنبية، محدودة. وفي حين أن الخطوات التي سيقوم بها تتوقّف على الظروف الديناميكية على الأرض، هناك ثلاثة إجراءات أساسية في السياسات بإمكانه اتخاذها في الأشهر المقبلة، ومن شأنها كلها أن تمارس تأثيرات كبيرة على الاقتصاد والبيئة الاستثمارية.
يتمثل الإجراء الأول في رفع القيود التي تفرضها المصارف المحلية على الودائع بالدولار - وهو مايطالب به القطاع الخاص. بدأ تطبيق سياسة الحد من الودائع بالدولار في شباط/فبراير 2015 في إطار خطةٍ تهدف إلى القضاء على سوق السوداء للعملات الأجنبية، والتي يُعتقَد أنها شجّعت المضاربات وإخفاء الأموال، ماتسبّب بممارسة ضغوط على الجنيه أدّت إلى انخفاض قيمته، فضلاً عن تراجع السيولة بالدولار. في حين أن القيود على الودائع ساهمت في بداية الأمر في خفض حجم السوق السوداء وردم الهوّة بين معدّلَي صرف الجنيه مقابل الدولار في السوق الرسمية والسوق السوداء، ظهرت هذه الهوة من جديد. ففي السوق السوداء، يبلغ سعر صرف الدولار الآن بالجنيه المصري 8.60، أي أكثر بـ0.77 جنيه من سعر الصرف الرسمي الذي سجّل 7.83 جنيهات.
هذا وقد تسبّب هذا الإجراء بتراجع شديد في المبالغ المتوافرة بالدولار للمستوردين الذي كانوا يعتمدون على الدولار لشراء بضائعهم في السوق الدولية. بغية معالجة النقص المتزايد في الدولار، أعطت الحكومة الأولوية لواردات السلع الأساسية، مثل المواد الغذائية والأدوية، على حساب الواردات الأكثر كماليةً مثل أجهزة الكمبيوتر وقطع الآلات المتخصصة. وفي حين نجحت مصر إلى حد ما في إبعاد شبح المجاعة والأوبئة، كان لمحدودية السيولة بالدولار تأثير مؤذٍ على القطاع الخاص - والمفارقة هي أنها تسبّبت بالحد من الصادرات جراء الصعوبات التي واجهها المصدِّرون في استيراد السلع الوسيطة.
الخيار الثاني هو خفض قيمة الجنيه المصري. إنه أشد تعقيداً مما قد يبدو في الظاهر. مما لاشك فيه أن الجنيه مثبَّت بأكثر من قيمته الفعلية، ومن المحتوم حدوث تراجع انحداري في قيمته، إلا أنه لدى البنك المركزي المصري مصلحة في السماح بارتفاع قيمة الجنيه قليلاً في المدى القصير. يستطيع البنك المركزي، عبر توليد "خطر في الاتجاهَين"، تشجيع المتداولين بالعملات على أن تكون لديهم مراكز قطع دائنة ومَدينة على السواء، للتعويض عن العدد غير المتكافئ من عمليات بيع الجنيه على المكشوف والتي يمكن أن تؤدّي إلى خفض قيمته، وكذلك مساعدة المستوردين على تصريف الواردات المتراكمة. في الأسابيع التي سبقت تعيين عامر، قام البنك المركزي المصري بخطوته الأولى لتحسين قيمة الجنيه في العاشر من تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، ماأدّى إلى زيادة قيمة الجنيه 20 قرشاً، من 8.03 إلى 7.83 جنهيات في مقابل الدولار.
بيد أن فعالية هذه الخطوة القصيرة الأمد لزيادة قيمة الجنيه محدودة إلى درجة كبيرة. لايكسب البنك المركزي الكثير من حرق المضاربين في المدى القصير، وبحسب تقرير صادر عن شركة فاروس القابضة للاستثمارات المالية في القاهرة، بدأ عدد كبير من المستوردين يستندون في ميزانياتهم للعام 2016، إلى خفض محتمل في قيمة الجنيه إلى 9.00 أو أكثر في مقابل الدولار.
في المقابل، فإن المخاوف من تأثيرات خفض قيمة العملة في المدى الطويل أكثر ارتباطاً بالزيادة في أسعار الواردات. بيد أن هذه المخاوف مبالَغ فيها إلى حد كبير. صحيح أنه سوف تُسجَّل زيادة معينة في الأسعار، لجملة أسباب منها أن المستوردين بدأوا يُعدّون موازناتهم على أساس انخفاض قيمة العملة، لكن الضغوط التضخمية الخارجية هي في حدّها الأدنى. فأسعار الطاقة والمواد الغذائية تسجّل أدنى مستوياتها دولياً منذ خمس سنوات. علاوةً على ذلك، بلغ معدل التضخم الأساسي في الاقتصاد المصري 7.12 في المئة خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام 2015 - وهو أدنى مستوى له منذ العام 2012. في حين أن هذه المعطيات قد تتيح للبنك المركزي المصري فرصة تأجيل المشقّة التي ستترتب حكماً عن خفض قيمة العملة، فإن الضغوط على الجنيه ستزداد إذا قرّر الاحتياطي الفدرالي الأميركي زيادة معدلات الفوائد في وقت لاحق هذا الشهر. لابد من خفض قيمة الجنيه في مرحلة معينة، وهذا هو التوقيت المثالي نظراً إلى الانخفاض النسبي في أسعار الواردات.
إذا نُفِّذ هذان الإجراءان مع اقتصار التداعيات الاقتصادية أو السياسية على حدّها الأدنى، فإن القرار الأساسي الثالث الذي يستطيع عامر اتخاذه في السياسات يتمثل في الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي. لقد استحصلت مصر على قروض من عدد من المؤسسات الدولية مؤخراً، منها قرض قدره 4.5 مليارات دولار على امتداد ثلاثة أعوام من البنك الدولي والبنك الأفريقي للتنمية. بيد أن قروض صندوق النقد الدولي تترافق عادةً مع شروط أشد صرامة، وتهدف إلى مساعدة البلدان التي أحرزت بعض التقدم في تطبيق إصلاحات هيكلية. وهكذا نظراً إلى هذه الشروط والإصلاحات المطلوبة، قروض صندوق النقد الدولي فريدة في قدرتها على استقطاب المستثمرين الدوليين. قال عامر، في مقابلة مع صحيفة "الأهرام" في العام 2012، إنه من شأن الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي أن يساهم في "تعزيز ثقة المستثمرين الخارجيين بمصر [وتشجيعهم] للشروع في توظيف أموالهم في البلاد".
هذه القرارات الثلاثة ليست أمراً محتوماً لامفر منه. من شأن تضافر عوامل عدة، منبثقة من داخل مصر ومن الاقتصاد العالمي الأوسع، أن يتسبّب بانحراف هذه الإصلاحات عن مسارها الصحيح. لكن إذا كان طارق عامر، المعروف عنه أنه شخص براغماتي وإصلاحي، جدّياً بشأن السعي إلى استقطاب الاستثمارات الأجنبية، فمن شبه المؤكد أن الحكومة المصرية ستتبع هذا المسار. من شأن خفض قيمة الجنيه المصري وتحرير سوق العملات الأجنبية أن يساهم في الحد من الالتباس في البيئة الاستثمارية، مايساهم في تعزيز ثقة المستثمرين الأجانب بقدرتهم على استيراد المنتجات اللازمة وترحيل الأرباح إلى الخارج.