تحلُّ الذكرى الرابعة لرحيل الكاتب والناقد الأدبي الأميركي - البريطاني، اليساري العتيد، والملحد الأشهر من بين أبناء جيله، كريستوفر هيتشنز، ذلك الذي لم يوفر نقداً للديانات الإبراهيمية، «المؤمن»، والمنافح عن الأممية بشراسة، وهو القائل في هذا الصدد: «الأممية هي أعلى شكل من أشكال الوطنية». المدافع عن حقوق الإنسان، ذلك الذي اعتاد اعتقاله المتكرر لخروجه في تظاهرات أو تجمعات سياسية، إلى جانب أن الحزب الذي ينتمي إليه (حزب العمَّال البريطاني)، لم يتحمَّل بعض مواقفه فعمد إلى فصله لمعارضته حرب فيتنام.
اختلف مع سياسيين كبار، ومع رموز ثقافية من المفترض أنه على تواؤم معها: نعوم تشومسكي مثالاً، فقط لأنه من القائلين بأن السياسة الخارجية الأميركية ساعدت على حدوث كارثة وأحداث 11 سبتمبر/ ايلول 2001.
إزاء مناصرته لملفات وقضايا ساخنة في العالم، لم يتردد في تأييد ودعم الحرب على العراق، وذهب إلى أبعد من ذلك بدعمه جورج بوش الابن في الانتخابات الرئاسية العام 2004، وطالته بفعل تلك المواقف اتهامات من جهات عديدة وصمته بالخيانة.
اختلف الناس معه وحوله، كما فعل هو، وقليلون هم الذين اتفقوا معه، لأنه كان إشكالياً بامتياز. زميله في جامعة أوكسفورد دينيس ماشين قال عنه: «كان كريستوفر يسبح ضد كل تيار، وكان داعماً لحركة المقاومة البولندية والتشيكية في السبعينات، وكان يدعم ثاتشر لأنه كان يعتقد أن التخلص من المجلس الأرجنتيني الفاشي فكرة جيدة».
كتابه عن كلينتون «لم يتبقَ أحد لتكذب عليه»، يقدم نموذجاً للنقد الحاد الذي لا يُراعي النتائج التي يمكن أن تتمخض عنه. لم يسْلَم منه وزير الخارجية الأميركي الأشهر هنري كيسنجر، الذي وصفه بالشيطان، ولم يتردد في المطالبة بمحاكمته.
في كتابه «هيتش 22»، حيث يتضمن تغطيات ورحلات ومقابلات أجراها، يتقدم نموذجاً للصحافي المباشر للحدث، بكل ما يتضمنه ذلك من عناء وأذى، وخصوصاً في البيئات التي لا قيمة للصحافي عندها.
تلك الانتقالات من الصحافة إلى التاريخ، الأدب، والفلسفة، تكشف عن مثقف كبير وموسوعي، وكان ذلك المخزون هو بمثابة المحرك والرافعة وأحياناً البوصلة التي تحدد له الاتجاه؛ ولذا ليست مستغربة انتقالاته من اليسار إلى اليمين إلى الوسط، مع ارتباطه بعلاقات متنوعة احتفظ ببعضها، وتسبب في انفراط بعض آخر.
دوايت غارنر، وتقرير نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» يوم الثلثاء (24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015)، نورد أهم ما جاء فيه، إضافة إلى تقارير متفرقة وكتابات تناولته بعد رحيله.
الكنائس والضرائب
يصادف هذا الشهر، وتحديداً 16 ديسمبر/ كانون الأول، الذكرى السنوية لرحيل الكاتب الصحافي والناقد الأدبي الأميركي - البريطاني كريستوفر هيتشنز الذي رحل عن عمر ناهز الثانية والستين (توفي يوم الجمعة (16 ديسمبر 2011)، إثر مضاعفات ناجمة عن الالتهاب الرئوي وسرطان المريء. ولو كان حياً اليوم لبلغ السابعة والستين في الربيع المقبل.
كان هيتشنز كاتباً مراقباً، وصاحب أسلوب ممتع في تناوله لموضوعات العُطَل، تماماً كما هو ممتع في تناوله لمعظم القضايا والموضوعات التي كتب عنها. كان يحب مناسبة عيد الشكر؛ الأمر الذي جعل المهاجرين مثله (ولد في انجلترا) يشعرون بأنهم موضع ترحيب؛ فيما كان يكره مناسبة عيد الميلاد في مجملها تقريباً.
«وبعد...»، هي مجموعة جديدة من أعمال هيتشنز لم تُنشر من قبل في كتاب، وأتت في شكل مقالتين الأولى تتناول عيد الميلاد بأسلوب ساخر، وأخرى تتألف من قائمة مقالات بأسلوب ملئ بالتوبيخ كتبها لصحيفة «وول ستريت جورنال»، وكان قد أعرب عن أمله في أن تقوم جهة بإعادة طباعتها على الأقل في شكل إصدار واحد كل سنة.
هنا، يكون هيتشنز في مقابل الحانقين بسبب أن الدِّين استنزف منهم أوقات التمتع بالعطلة: «هنالك ملايين من المباني المُجهزة بشكل جيد في جميع أنحاء الولايات المتحدة، معظمها يتمتع بالإعفاء من الضريبة، ومنها من تلقى إعانات من الدولة، حيث يمكن لأي شخص الذهاب في أي وقت والاحتفال بذكرى الولادة الخارقة، وذكرى العذارى الحوامل طوال اليوم وطوال الليل إذا رغب في ذلك.
تُعرف هذه الأماكن باسم «الكنائس»، ويمكن للقائمين على تلك المباني أيضا إجبار المارة على النظر إلى شاشات العرض واللوحات الإعلانية، والإصغاء إلى صوت الأجراس التي يتم قرعها. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لأولئك الاعتماد على عديد من محطات الإذاعة والتلفزيون لبث موادهم عبْر الأثير. وإذا كان كل ذلك لا يكفي، فعليهم لعنة الله. عليهم لعنة الله جميعاً».
هو الله الذي يلعن باسمه أصحاب الكنائس تلك، والذي لا يؤمن به هيتشنز، وعلينا هنا تذكُّر واحد من كتبه التي أثارت ضجة ولغطاً وردوداً في عدد من دول العالم، وباللغات التي ترجم إليها وهو «الله ليس عظيماً» الذي انتقد فيه الديانات الإبراهيمية بالإضافة إلى الديانات التي لم تكن تُنتقد في الأوساط الغربية مثل الهندوسية، كما أنه معروف بمعاداته ونقده للصهيونية.
عدَاء هيتشنز لكلينتون
«وبعد ...» كتاب متنوِّع يجمع مقالات ومراجعات للكتب، ونماذج من التقارير تتناول الموضوعات السياسية والاجتماعية والأدبية. كان هيتشنز واحداً من المثقفين النادرين، وكان يبعث على الارتياح بظهوره في عدد من البرامج التلفزيونية مثل: «نايبول» و «جوان ديديون» و «إدموند ويلسون»، وكان حاضراً في أماكن ساخنة من العالم، وتناول موضوعات تتعلق بأحزاب ومناطق ساخنة في العالم مثل البوسنة، العراق وحزب الله اللبناني. بعض الكتَّاب الآخرين، أو يمكن لبعضهم عقد مقارنة بين ما كتبه وقام به آرثر إم. شليزنغر الابن، وما كتبه وفعله هيتشنز في هذا الكتاب، وكذلك فابريزيو في رواية الكاتب الفرنسي في القرن التاسع عشر ستندال، والذي اشتهر بتحليله الحاد لنفسيات شخصياته، ويعتبر أحد أوائل وأشهر فناني الواقعية، في روايته «دير بارما» التي صدرت في العام 1839.
الرواية نفسها قال عنها الروائي العراقي والناقد جبرا إبراهيم جبرا: «من أهم المؤثرات في خلق أدب نثري حديث يجعل من الحرب منطلقاً أو إطاراً لتراكيب قصصية عميقة الفعل في النفس تربط ما بين فداحة الأحداث وأعماق الشخصيات الإنسانية ضمن هيكل مجتمعي فسيح».
هذا الكتاب يعيد النظر في مسألة عداء هيتشنز لكلينتون. ويشمل «القضية ضد هيلاري كلينتون» مقال كتب خلال الحملة الرئاسية للعام 2008. سأل هيتشنز: «ما الذي يتطلَّبه الأمر لكسر هذه الإملاء الرخيص، وجعلنا نستيقظ ونستفسر عمَّا نقوم به على الأرض، باتخاذ دراما عائلة كلينتون - مرة أخرى - جزءاً أساسياً من سياستنا»؟
كان هيتشنز رجلاً ينتمي إلى اليسار في ما يتصل جميع الاتجاهات المهمَّة، ولكنه ظل على نحو متزايد مشاركاً بآرائه المتضاربة وغير التقليدية. يعيد هذا الكتاب قولبة، على سبيل المثال، دعمه لحرب العراق. هناك نوع من الشك، وأظنه كذلك، بأنه كان في موقف مؤيد لقبول اللاجئين السوريين في الولايات المتحدة. ينتهي هذا الكتاب بالسبع الكلمات الآتية وهي: «الأممية هي أعلى شكل من أشكال الوطنية».
مؤسف أن هيتشنز ليس بيننا اليوم للتعليق على اللحظة السياسية التي يمارسها دونالد ترامب. فقد رأى في الأفكار الكامنة من وراء ترشيح روس بيرو، بعض ما كان يثق بأن ترامب سيعتنقها ويتبنَّاها، وتتلخص في فكرة أن «الحكومة يجب أن تفسح المجال للإدارة».
التندُّر... الحكمة
وكناقد أدبي، كان هيتشنز فريداً، ويميل إلى التحدث حول هذا الموضوع بدلاً من تضمين كل تلك الأفكار في كتاب يكون في متناول اليد. هناك أداء واحد خارق في كتاب «وبعد ...» والذي «يستعرض» فيه ثلاثة كتب صدرت عن مجلة «أتلانتك» الأميركية وهي فضفاضة في أفكارها ورؤيتها بتناولها الإمبريالية حين اكتفى بذكر مؤلفيها فقط في التعليقات الجانبية العابرة، بطريقة تعامل فيها مع تلك الكتب وكأنها من إصداراته.
هناك مقال رئيسي في «وبعد ...» حول الصحافية الإيطالية أوريانا فالاتشي، الذي كان معجباً بها. وفي الكتاب نفسه يسخر هيتشنز بشكل لاذع من تقديم الإعلامي الأميركي الشهير لاري كنغ، وبطريقة لا تخلو من عدوانية غريبة.
عيِّنة من تلك المقالات في الكتاب تتحدث عن فالاتشي نشرت في مجلة «فانيتي فير»؛ حيث كان هيتشنز يكتب عموداً. عمله لتلك المجلة يضيء في هذا الكتاب. وقتها كان لدى «فانيتي فير» (التي دفعت له راتباً أفضل من «سلايت» أو مجلة «أتلاتنك») حاسَّة جيدة بتكليفه بمهمات خارج مكتبه والقيام بأعمال شغلت التحقيقات والرحلات.
مقال كالذي في هذا الكتاب، يتناول رحلة على الطريق عبْر الجنوب، والذي وصف فيه مدينة تكساس بأنها «واحدة من تلك الأماكن التي إذا هبّت عليها الريح، يتناثر الدجاج في المكان».
وكما أن الكتاب يحوي التندُّر من جهة، فيه من الحكمة الشيء الكثير من جهة أخرى، وأتوقع نشره قبل أن يصدر في كتاب بحجم الجيب.
ضوء
يُذكر، أن الكاتب والصحافي الإنجليزي - الأميركي، كريستوفر هيتشنز ولد في مدينة بورتزماوس البريطانية العام في 13 أبريل/ نيسان 1949، وتوفى في 15 ديسمبر 2011. اكتشف إصابته بمرض السرطان في يونيو/ حزيران 2010، وكتب حول تدهور صحته في عموده بالمجلة التي يعمل فيها، وتحديداً في أغسطس/ آب 2010، قال فيه: «كنت أتمنى أحيانا أني لو عانيت من أجل قضية صالحة، أو مخاطرة بحياتي من أجل مصلحة الآخرين، بدلاً من كوني مريضاً يتعرض لخطر كبير».
له الكثير من التأملات في عدد من اللقاءات التلفزيونية، وخصوصاً حديثه إلى «بي بي سي» في نوفمبر 2011 «أن تعرف أن حياتك محدَّدة أكثر مما كنت تظن أنها كذلك، فهذا يجعل العقل أكثر تركيزاً».
من تأمُّلاته وأقواله
«نحن لا نمتلك أجساماً، نحن هذه الأجسام»، «لا تقف أبداً موقف المتفرِّج من الظلم أو الغباء... القبر سيوفر مُتسعاً من الوقت للصمت»، «لا يبدو المثقفون أكثر غباء إلا عندما يصوِّرون أنفسهم على أنهم وحدهم آخر المتحضِّرين على هذه الأرض»، «ما هو أكثر شيء أكرهه؟ الغباء... بالذات بأبشع صورتيه: العنصرية والخرافات»، «جوهر العقل المستقل لا يعتمد على الذي يفكر فيه العقل بل في طريقة التفكير»، «خذ المخاطرة في التفكير لنفسك... ستشاهد الكثير من السعادة والحقيقة والجمال والحكمة في هذه الطريقة»، «أخلاق الإنسان ليست مشتقة من الدِّين بل تسبقه»، «أنا واحد من الأشخاص من ذوي الأصول اليهودية الذين يعتقدون أن الصهيونية ستكون غلطة حتى بدون وجود فلسطينيين»، «الكفاح من أجل تحرير الذكاء كان دائماً صراعاً بين عقل ساخر وجاهل»، «في كثير من الأحيان يكون تغيير ما في أنفسنا أكثر حكمة من تغيير ما حولنا من الأشياء»، و «هناك طريقة واحدة فقط لكي تصبح متحدثاً جيداً: تعلَّم أن تسمع».