يتناول نص/ ذاكرة الشاعر الليبي سالم العوكلي، حال البشر في ظل الحروب. الحروب التي تأتي أو تُفرض من خارج المكان، أو الحروب التي تفرضها الفوضى «الخلَّاقة» تلك التي بشَّرت بها الإدارات الأميركية المتعاقبة. أسوأ وأشرس الحروب والصراعات تلك التي يصنعها أبناؤها فيما بينهم.
ما يريد العوكلي قوله؛ أو أعرب عن احتجاج في تناوله، هو أن العين الواحدة المُملّة تلك التي لا ترى في ظروف الحروب والصراعات سوى الموت والدخان والجثث والأطلال؛ تغييباً لقدرة ومعجزة الإنسان في الانتصار على واقعه المظلم والكئيب.
للبشر طرق للتحايل على مثل ذلك الواقع المُرْعب. لا تنتهي الحياة عندما يبدأ الموت حَصْدَ الأرواح، وتخريب الطمأنينة، وتوزيع البشر على بقع الجغرافية المحيطة والنائية، بعد أن يتحولوا إلى فائض في المكان لا يطمئن إلى استيعابهم واحتوائهم.
مقالة محمد الأصفر «في ليبيا، نواجه حدَّ السيف بورْدة»، التي نُشرت في مجلة «الدوحة» في عددها الخامس والتسعين، تنطلق من استدراج تلك النوعية من السيرة في ليبيا نموذجاً - ثمة سِيَرٌ ربما تناولت مكانها والبشر بصورة أعمق - وذلك الفهْم الحاد والمليء بعين الأمل ورجائه. فَهْمٌ فرضتْه هذه المرة الحرب الداخلية والصراع المحتدم بين أبنائه، من دون أن ننسى أن ثمة غرباء قُدِّر لهم تسهيل أن يكونوا ضيوفاً كي يسهروا على تطبيق وصْفة الخراب الداخلي في ليبيا. ثمة تعاطٍ في بعض النصوص مع قضايا وأمور في الحياة، تغيِّب وتهمل قضايا وأموراً ووجوهاً أخرى في تلك الحياة، بكل العنف والقسوة والحروب والنزوح والمعتقلات، لكن الحياة تملك القدرة على التحايل على البشر، أو هم يتحايلون على الحياة كي يرتفعوا بها قليلاً، أو ترتفع بهم أحياناً.
يشير الأصفر إلى ملاحظة العوكلي بانتقاد الروائي ميلان كونديرا، عمل جورج أورويل السردي (1984)، حين «يخرجه من حقل الرواية؛ لأنه يختزل حياة البشر في جانبيْها السياسي والأمني فقط»، في الوقت الذي يكيل كونديرا المديح لرواية كافكا (المحاكمة) التي يتأمَّل فيها (السيد ك) الشارع وإيقاع حياة الناس، وهو ذاهب إلى المحكمة، بتهمة لا يعرفها.
وفي ذلك يقول: «الحالة الأورويلية هي التي تسمِّم الإعلام لدينا الآن، فهي، في إطار بحثها عن المثير، تتناسى حياة الناس، وتختزلها في أحداث القتل والسياسة، بينما الحياة تدبُّ على أشدِّها تحت القصف وفي مخيمات النزوح التي سرعان ما تكتظ بالمواليد الجُدُد، وبالتأكيد: النازحون لا يتكاثرون بالانقسام».
في انتقاده للأورويلية، يقف عند انشغال الرواية تحديداً بذلك الواقع من حيث قدرته على التدمير، ولكنه لا يعير اهتماماً للتفاصيل التي تقترب من المعجزة بقدرة البشر على الانتصار لوجودهم، وتجاوز كل مخططات إفنائهم من على وجه هذا الكوكب.
مثل ذلك النظر والفهم هو الذي يتيح للحياة والبشر رافعة تأخذ بهم إلى المساحات المُغيَّبة والمُهمَلة بقدرتهم على الانتصار للحياة وبالحياة.
يشير العوكلي إلى واقع وحقيقة الناس في ظل الحروب، في ظل التمدُّد الذي حققته «داعش» في بعض مناطق بلده ليبيا: «في الحروب، عموماً، تكثر المواليد، ليس بقصد، ولكن بغريزة الحياة التي تقاوم الموت، وفي الحروب تتكاثر النكت بغريزة الضحك المقاوم للكآبة».
في متاخمة المساحة الخاصة من الشهادة، ضوء غامر على واقع بعض البشر المشغولين بكنس كوارثهم؛ ترتيباً لبيتهم الداخلي، الذي يثقون أنه لن يكون مطمئناً على طول المسار في هذه الجغرافية التي تحكمها الغايات الضيقة، والمصالح التي لا تُنتج إلا الأذى في حدوده الكارثية.
«كان أبي يُحدِّثني عن الكثير من التفاصيل: عن معتقل العقيلة، الذي عاش سنينه الصعبة. عن الحياة في داخله، وعن حالات الزواج، والاحتفال بالأعياد، وعن الكثير من المواقف الطريفة، رغم الجثث التي تُنقل منه كل يوم، وكنت أقرأ خلف عينيه ما يشطبه، بوصفي ابنه، عن علاقات الحب التي عاشها هناك، أو التي نشأت في المعتقل، وأكاد أتخيَّل، في تلك البيوت المتجاورة، تأوُّهات الليل الطويل، ليس بسبب الألم فقط، لكنها تأوُّهات الحياة، وهي تدافع عن نفسها».
بين هذا وذاك، يأخذنا العوكلي إلى تفاصيل التفاصيل في تلك الحرب المجنونة في الداخل الليبي. والتوصيف الذي يقدمه هنا ليس حصراً على الليبيين، ولكن انطلاقاً من رؤيته للبشر وهم يرزحون تحت واقع مثل ذاك، يكتب ويقدِّم رؤيته بحساسية جاذبة وجارحة في الوقت نفسه.
«بالتأكيد تتغيَّر الكثير من العادات الاجتماعية أثناء الحرب، ويتسرَّب الخوف والقلق إلى بيوت الناس وعيونهم، لكن غريزة الحياة وحبَّها أيضاً يتأجَّجان بقوَّة، ووفْق الممكن، يستبدل الناس عاداتهم بسبل أخرى، يتسع لها المكان والوقت والجيْب. تتقلَّص الحياة الليلية في الشوارع؛ لكنها تنبض بقوَّة، داخل البيوت. تنقطع الكهرباء، فتمتلئ عتبات المنازل والأرصفة بالناس، وهم يتهكَّمون على كل شيء».
إنه الإنسان نفسه، صانع معجزة التحايل على الموت الذي يحفُّ بالحياة، يظل صانع الموت نفسه!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4832 - الأحد 29 نوفمبر 2015م الموافق 16 صفر 1437هـ
يتفننون في قتل الابرياء
بالحروب تاره وبالمفخخات الادميه والمتفجرات تارة اخرى سواء بالمساجد او اماكن المقدسه وحتى بالاهمال مثل ماحدث في بعض الااكن مث الحرق والاندفاع الشديد بين الناس سواء عمدا او الاهمال