لئن تكن ثمة دروس مستفادة من مجازر باريس الأخيرة، فلعل أهمها وعلى رأسها أنها تثبت مجدداً أكثر من أي وقت مضى أن أمن وسلام أوروبا بات اليوم مرهوناً بأمن وسلام جارتها المنطقة العربية، والقضية التي تواجهها فرنسا وأوروبا أبعد من الجدل الدائر حالياً حول الثغرات الأمنية التي نفذت منها الذئاب الداعشية لارتكاب مذابحها الوحشية في قلب باريس بحق الأبرياء. ودون التقليل من أهمية التدابير الأمنية والعسكرية المتخذة من قِبل فرنسا بوجه خاص، وسائر الدول الأوروبية بوجه عام، فإن هذه الدول وقد باتت اليوم في عين العاصفة الإرهابية أمام مفترق طريقين لا ثالث لهما لحماية أمنها القومي المشترك: فإما اعتماد الحلول الامنية المشددة كردود فعل غريزية طارئة للدفاع عن النفس وتهدئة روع مواطنيها، كما تفعل بالضبط الآن فرنسا، وهذه الحلول رغم اهميتها إن نفعت في تحصين جبهتها الداخلية من المخاطر الارهابية على المدى القصير فلن تنفعها بأي حال من الأحوال على المدى البعيد، وإما بناء استراتيجية وطيدة بعيدة المدى ترتكز على مقومات الأمن القومي بمفهومه الشامل، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وتعليمياً، وأمنياً ، وأن تأخذ هذه الاستراتيجية بعين الاعتبار ما تعانيه جارة اوروبا «منطقة الشرق الأوسط» من نزاعات تاريخية سياسية مزمنة طال أمدها، وكلما ظلت معلقة بلا حلول جادة جذرية عادلة تفاقمت خطورتها وفرّخت المزيد من بؤر الإرهاب والتوتر المتنوعة وعرّضت السلم العالمي برمته للخطر لا أوروبا وحدها، ولاسيما أن الدول الأوروبية تتمتع في هذه المنطقة، بنفوذ ومصالح اقتصادية وتجارية وعسكرية متعددة الأشكال تتتأثر حتماً بما يجري فيها من أحداث جسام.
ولاشك أن بناء استراتيجية الأمن القومي الاوروبي الشامل بحاجة أيضاً لاشراك البرلمانات الوطنية والبرلمان الاوروبي معاً في وضع مقوماتها الآنفة الذكر، وبحيث تأخذ بعين الاعتبار المكون العربي والإسلامي في نسيجها الوطني، مهما كانت نسبته وعدم تهميشه اجتماعياً ومعيشياً، كما هو في حال بعض فئاته من سكان ضواحي باريس، وعدم السماح لأصوات وقوى اليمين العنصري بوصم كل العرب والمسلمين بـ «الإرهاب»، ولاسيما أن العدو «الداعشي» المشترك قد نكَّل ونحر من العرب والمسلمين اكبر بكثير مما بطش ونحر من الأوروبيين، وينبغي لجم تلك القوى التي تستغل أحداث باريس للمناداة بنبذ العرب والمسلمين وتذكيرها بأنه لولا المعلومات الاستخباراتية المهمة التي قدمتها المغرب لباريس لما تمكنت سلطاتها أصلاً من ضبط بعض الارهابيين وقتل بعضهم الآخر في ضاحية سان دوني والذين شاركوا في تخطيط وقيادة مذابح باريس الإرهابية. إن مقومات الاستراتيجية الأوروبية المطلوبة على الأصعدة التعليمية والثقافية والإعلامية إنما تعني تفعيل دورالمؤسسات الإعلامية والتعليمية والثقافية لتوعية المواطن الاوروبي بتاريخ المنطقة العربية وجذور أزماتها الراهنة المزمنة وارتباطها بما خلَّفه استعمار دولها الكبرى، بريطانيا وفرنسا خصوصاً ، لبلداننا العربية من إرثٍ نفسي ثقيل من النواحي الاقتصادية والثقافية والحضارية مترسب في نفوس شعوبها لم يتبدد بعد.
لقد آن الأوان لدول الاتحاد الأوروبي اليوم أن تنتهج سياسة مستقلة متوازنة في الشرق الأوسط تراعي أمنها ومصالحها القومية بالدرجة الأولى بمعزل عن السياسات الأميركية الأنانية الرعناء في المنطقة، فأوروبا بحكم جوارها الجغرافي لمنطقتنا العربية هي المستهدف الأقرب والأسهل من قِبل الذئاب الداعشية، بصورة أكبر من استهداف حليفتها الولايات المتحدة الرابضة جغرافياً بعيداً وراء المحيط ولا تواجه الخطر الداعشي داخلياً بنفس درجة مواجهة أوروبا إياه.
وهنا يتحتم على الاتحاد الأوروبي تبني سياسة جديدة واقعية تتحلى بحد أدنى من الموضوعية تجاه قضايا المنطقة، وفي المقدمة منها قضية شعبنا العربي الفلسطيني، ودعم حقه بلا مواربة في تقرير مصيره بنفسه وبناء دولته المستقلة، وكذلك دعم حق سائر شعوبنا العربية في التطلع للحرية والعدالة والمساواة والمواطنة المتساوية، وإعادة بناء دولها على اسس دستورية ديمقراطية جديدة باعتبارها الضمانة الوحيدة للحيلولة دون تفريخ الفكر الاسلاموي الظلامي المتطرف والتنظيمات الإرهابية، والتي لا تتفقس وتتنامى عادةً إلا في بيئات الظلام الاستبدادية التي يسودها انسداد أفق التعددية وخنق حرية التعبير، وتسييد الرأي الواحد.
وعلى أوروبا أن تدرك كذلك أن ما يربطها من مصالح اقتصادية وثقافية بالعرب هو أهم وأولى بكثير مما يربط الولايات المتحدة بالمنطقة، فالتقارب الفكري والثقافي العربي - الأوروبي لهو أكبر من أميركا، فالمفكرون والمثقفون والمستشرقون الأوروبيون الذين درسوا تاريخ منطقتنا العربية دراسة معمقة ويتعاطفون بدرجات متفاوتة مع قضايانا العربية هم أكثر من محللي ومفكري الولايات المتحدة المنصفين الذين مازالوا مجرد قلة غير فاعلة. وهنا تبرز الحاجة الملحة لتفعيل دور هؤلاء المفكرين والمثقفين الأوروبيين لتوعية شعوبهم ونخبهم للضغط على حكوماتهم لتبني سياسات خارجية مستقلة تتسم، كما ذكرنا، بحد أدنى من التوازن والإنصاف تجاه قضايا شعوبنا العربية دون الرضوخ لحليفها الأميركي، ودون الاستسلام بالكامل داخلياً لضغوط أرباب المصالح الطبقية الضيقة، وممثلي الشركات الكبرى، واليمين العنصري المتطرف وأخطبوط اللوبي الصهيوني والمتغلغلين جميعهم في مؤسسات صنع القرار السياسي وبخاصة في الدول الأوروبية الكبرى، وبدون مراجعة شجاعة كهذه فلن تتمكن أوروبا من تحصين وصد جبهاتها الداخلية بصورة دائمة ووطيدة من مخاطر الجماعات الإرهابية وبخاصة «داعش».
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 4826 - الإثنين 23 نوفمبر 2015م الموافق 10 صفر 1437هـ
سهل جداااااااا
وقف التدخل الامريكي والاوروبي والتركي والاسرائيلي وبعض العربي ولن يبقى داعش ليعيش يوم اخر.. كيف يحارب داعش من يؤسس ويدعم ويمول الى داعش.. اترك داعش وابحث عن المصدر..
صحيح
والمصدر هو آبار النفط في الجزيرة العربية ومن يتحكم بها
كيف؟
بإلقاء الأسلحه والعتاد عليهم بواسطة الطائرات في العراق وسوريا.