لا جنوح في العنوان أعلاه. هو زمن البحث عن أعداء وضرورة اختراعهم. هناك حاجة إلى إشغال الناس بقضايا أخرى غير الفساد والسرقات المُمنهجة، والقمع الذي يُمارس تحت حماية «أكثر من مظلَّة»، والتمييز الفاقع حدَّ الفضيحة التي تحتاج إلى دم كي تشعر بالعار. هناك حاجة إلى أخذ الناس وعزلهم عن حقيقة مشكلاتهم التي تنخر في الواقع، وتجعل الأرض التي يقفون عليها هشَّة ومُهترئة، وقابلة لابتلاعهم في أية لحظة.
لا جنوح في العنوان، فالمرحلة التي نعيشها ظاهراً، فيها من الجنوح بالأداء ما يفوق السريالية بمراحل. السريالية تلك، يصوغها واقع يُكرِّر ملهاته في أوجه الحياة المختلفة. أن نكون أحياء ولا شيء فينا يدلُّ على الحياة. أن نكون بتلك الكثْرة التي تبدو أقلَّ درجة من الندرة، لغياب الفعل، وانمحاء الإرادة، وتغييب الكرامة، وتعليق الخيار في الوجود ضمن الشرْط الذي يصنعه أبناؤه.
لا تبرز الحاجة إلى اختراع الأعداء، إلا حين يُراد للسياسات التي استعبدت الناس، وتسوقهم سوْق الأنعام، أن تستمر وتتأبَّد، وتظل قدراً محتوماً، وسيفاً مُسلَّطاً على رقاب الناس، هذا إذا بقيت رقاب للناس أساساً!
لا تبرز الحاجة إلى اختراع الأعداء، إلا حين ينتفي المعنى للوجود، وينتفي معنى أن تكون للإنسان قيمة أساساً.
في العتمة، فقط يُراد للعدوِّ المُخترَع - هذه المرة - أن يكون باشتراطات أكثر تهويلاً من العدوِّ الذي وعينا على الحياة وهو يمارس اغتصابه للحياة والأرض والبشر، بكل ما يحتاجونه من استقرار ورفاهية، لا تستقيم الحياة من دون القليل منها على أقل تقدير.
تحييد الناس، أو إقناعهم بتحويل أنظارهم عن العدوِّ الحقيقي. العدوِّ الذي لا يمثِّل معشار أعدادهم كبشر، ولا يملك من الموارد نقطة من بحر مواردهم، ولا يملك تجذُّراً وامتداداً حضارياً وثقافياً ودينياً مثلما يملكون. العدوِّ الذي كان «غدَّة سرطانية» وأصبح اليوم ضرورة لاستتباب «أمن خاص»، لا علاقة لأمن المنطقة وشعوبها به. العدوِّ الذي ظل يُعربد لأكثر من ستة عقود، احتلالاً للأرض، ونهباً للثروات، وتفنُّناً في القمع والقتل والمجازر، والمُصادرات على الأرض، وصولاً إلى انتهاك السماء العربية - إن كان ثمة سماء عربية أساساً - لم يعد هو العدوَّ التاريخي والأزلي، ولم يكن التوجُّه «لإلقائه في البحر» سوى أضغاث أحلام مريضة، نابعة من رأس أفْرط صاحبه في الحلْم والوهم أيضاً، أو صاحب فتنة، لا يُريد للعالم خيراً، ولا يُريد لشعوب المنطقة أن تنعم بنومها الذي حطَّمت به أرقاماً قياسية.
الأعداء هذه المرَّة ليس بالضرورة أن يُقتنصوا من الحاضر المُبْتلى والمريض؛ فثمَّة من يبحث عن ذلك القنْص، للظفر بطرائده من التاريخ الذي لا أحد يدَّعي أنه في كامل عافيته وحيويته؛ وعلَّ شاهداً حادّاً وجارحاً يتربَّص بِنَا في واحدة من التقاطات الشاعر الكوني محمود درويش، ذلك الذي يحذِّر من سؤال أستاذ التاريخ «لا تسأل أستاذ التاريخ. لقمة عيشه يأخذها من الأكاذيب. وكلَّما ابتعد التاريخ، عادة، كلَّما اقتربت الكذبة من البراءة، وقلَّ أذاها»، مع فارق أن الكذبة التاريخية في يومنا هذا، يتعاظم ويتضاعف أذاها في صورة لا يُمكن للعقل البشري أن ينسجم معها في محاولة الفهم أو الإرغام على الفهم.
يظل العدوُّ المُخترَع الذي تعنيه هذه الكتابة، لصْق المكان، ولم يأتِ من المصادفة؛ بل فيه من ملامح الأرض ورائحتها ما يدل عليه، وأكثر إثباتاً من كل اشتغالات الذين يُعْنَوْن بالإنسان في بيئته، والثقافة التي يتعاطاها، من أنثروبولوجيين، ومن يدخل في مقاربات الاشتغال ذاك. فقط هو البحث عن البديل الملائم الذي تقتضيه المرحلة، وهذه الحُزَم من الفتن، كي يحلَّ محلَّ الذين تم الاشتغال عليهم باعتبارهم الأعداءَ النموذجيين ربما، ولا يهم بعد ذلك أن تتم محاصرتهم بجيش من الاستنطاق يبرّر كل هذا الاستفراد بالاختراع الجديد.
هو نفسه درويش في كتابته عن «الوطن... بين الذاكرة والحقْبة»، يكتب: «يختتمون المناقشة بهذا التقرير الدائم: لا مفرَّ. وينتظرون الزمن كي يُحوَّل الاعتداء إلى حق يعتاد عليه الناس».
تلك هي السريالية في اختراع واقتراح أولئك الأعداء الذين تم استلال حيثيات استهدافهم من التاريخ المريض، وسط حاضر هو في النزْع الأخير، وعلى رغم عدم قدرته ولا طاقة له على تحمُّل ما يُسرِّع به إلى الحتْف، إلا أنه قدَر تلك السريالية أن تمضي لتأكل ما تبقَّى من يابس على هذه الأرض التي لا أخضر فيها أساساً!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4825 - الأحد 22 نوفمبر 2015م الموافق 09 صفر 1437هـ
للاستفراد دائما يتم خلق اعداء وهميين
وخصوصا في الدول العربية
سبحان الله
سبحان الله و كأنك تتكلم عن الدولة الايرانية التي توهم شعبها و ا...اء الذين يحبونها في المشرق العربي ان الغالبية الساحقة من المسلمين اعداء و ارهابيين