هل كانت هجرات المسلمين، نحو القارة الأوروبية، سواء على مستوى العصور القديمة، أوخلال السنوات الأخيرة. هي مجرد طموح وتطلع للحياة في جنة الغرب، أم إنها كانت ضرورة ملحة لأجيال كانت قد تعرضت للكثير من مشاكل الفقر والعوز المادي أو الاضطهاد السياسي والثقافي أو الإثني والعقائدي؟
كيف كان يمكن للشعوب الأوروبية «المسيحية» تفسير التقدم الحثيث للهجرات الشرقية في العديد من دول القارة الأوروبية حينها؟ ولماذا لم تتسع ديار المسلمين، لاحتضان كل هذه القوافل الهائلة المتجهة، نحو دول القارة الاوروبية، ولماذا يستحيل على شخوص المهاجرين المسلمين أو أفراد عائلاتهم، التحول إلى المسيحية، بعد مضي عدة عقود من الزمن في رحابها؟
هذه بعض الأسئلة، التي شغلت العديد من السياسيين والمفكريين والقساوسة الإنجيليين في أوروبا، ولكنهم بسبب الدواعي الإنسانية والأخلاقية وروح التسامح والديمقراطية، فإنهم لم ينظروا إلى مثل هذه المسائل نظرة مغايرة أوشريرة.
لم تظهر غالبية الشعوب الأوروبية «الغربية أو الشرقية» أية مظاهر خوف أو قلق على أمنها من جحافل المسلمين القادمين من مختلف المناطق الإسلامية، بقدر ما كانت تحاول أن تتفهم أوضاعهم وتقدم لهم مختلف أوجه المساعدة الإنسانية، والدعم الاقتصادي والمعنوي، إنطلاقاً من مبدأ «التعاطف والتضامن الإنساني» مع الفقراء والمضطهدين والمحرومين من أبسط حقوق المواطنة المشروعة في أوطانهم الأصلية. وهو ما يعني أن واقع احتضانهم ورعايتهم يبقى في نطاق واقع تقديم «خدمة إنسانية» وحضورهم بينهم، لم يضر كثيراً بالاقتصاد الهائل المتنوع، الذي تتمتع به دول القارة الأوروبية الغنية، والتي لديها أنظمة ضمان اجتماعي كبرى.
كل هذه الأفكار، التي ترددت على امتداد عدة عقود من الزمن، قد تكون اليوم تتجه «في مهب الرياح» حيث أن طغيان التكفير، الذي تصبه الجماعات الإسلامية المتشددة والمتطرفة في أوروبا، المسترشدة بأفكار الإرهاب، وعمليات الانتقام المميت من «الملحدين والكفار» الذين فقدوا «إيمانهم» وعميت أبصارهم عن عبادة الخالق، ومارسوا كافة «المنكرات والمحرمات» وأنواع «الشذود الاخلاقي» بحيث استيقظت بعض العواصم الغربية مثل لندن وباريس ومدريد وكوبنهاجن، في خلال السنوات الأخيرة، على وقع زلزال التفجيرات الإرهابية الدموية، التي هزت أرجاء القارة الأوروبية.
وكانت تتوقع حكومات الغرب، التي استضافت الموجات الهائلة من المهاجرين واللاجئين من مختلف مناطق المشرق الإسلامي، والتي بادرت بمنح غالبيتهم الجنسيات الوطنية، أن يتمكن كل هؤلاء أو بعضهم على الأقل بعد اندماجهم الطوعي في الحياة العامة الأوروبية، من استيعاب قيم ومفاهيم الحياة الديمقراطية والحرية والتقاليد والثقافة الغربية، لكن جميع المحاولات، التي قامت بها مؤسسات الدمج الاجتماعي، تعرضت للفشل والتراجع، ولم تحقق كل أهدافها المنشودة، فيما كانت بعض المراكز الثقافية والدينية، منشغلة بنشر أهداف الدعوة الإسلامية، وتحريض أعضائها على ممارسة العنف الخاص ضد «الكافرين والملحدين» ولم يكن عندها الاستعداد المطلق لتقبل فكر الآخر، أومعالجة الأوضاع الشاذة تجاه عناصر النسيج الاجتماعي الأخرى، التي تتشارك معها في نطاق مجتمع السلم والتسامح والعدل.
والمفارقة هي أن رغبة الانتقام الشرسة، في أوساط غالبية المهاجرين واللاجئين، أخذت تتبلور بشدة، بعد طغيان ماقيل عن ظهور «الصحوة الأصولية الإسلامية» وتوسع تخومها، في الوقت الذي تواجه فيه أوروبا، موجات جديدة عاصفة من بلدان ومناطق المشرق الإسلامي، التي مابرحت تمزق أوصالها الصراعات الإثنية والعرقية والدينية والحروب وأوجاع الفقر وعظام المصائب، ورغم ذلك لم تكن كل تلك الموجات العاتية بحد ذاتها مشكلة، بل إن الكثير من حكومات الغرب وشعوبها على حد سواء استقبلت جحافلها برحابة صدر، على رغم كل ما كان قد بدر من تصرفات واعتراضات وانتقادات جارحة وعنيفة، من قبل القوى المحلية المتشددة والمتطرفة والمناهضة لقضايا الهجرة واللجوء واختلاف الثقافات.
وحقيقة الأمر، أن المهاجرين واللاجئين، الذين حصروا جل اهتمامهم بمفاهيم وضرورات بزوغ عصر الصحوة الإسلامية، ولم يدركوا قضايا التطور والتقدم الثقافي والعلمي والتكنولوجيا الحديثة في أوروبا، ساعدوا بشكل مكشوف على قتل روح التسامح والتضامن الضرورية، التي شكلت الحافز وراء الاهتمام المحموم بأوضاع المهاجرين واللاجئين، الذين فروا مجبرين من أوطانهم الأصلية، بسبب السياسات الدكتاتورية والحروب وأوجاع الفقر والمجاعات والكوارث الطبيعية المتعددة، وسعوا للحصول على ملاذات آمنة في «أرض الأحلام والحضارة الحديثة» التي ظلت أبوابها دائماً مشرعة لاحتضان جميع الأمم والثقافات.
إقرأ أيضا لـ "هاني الريس"العدد 4824 - السبت 21 نوفمبر 2015م الموافق 08 صفر 1437هـ