يذكر الكاتب اللبناني الأصل والفرنسي الجنسية أمين معلوف، أن والده كان يدير تحرير صحيفة يومية، حيث اعتاد أن يرسل نسخاً منها إلى زملائه رؤساء تحرير الصحف الأخرى من باب اللباقة، فتصله منهم في المقابل نسخ من الصحف اللبنانية المختلفة. ويشير إلى أنه عندما كان صبياً، كان يقلب رزمة الصحف ويسأل والده: «أية واحدة منها يجب أن نصدق»! فيجيبه أبوه: «ولا واحدة... وجميعها»! ثم يضيف: «كل واحدة ستعطيك حقيقتها وحدها، فإذا كنت تتمتع بقوة البصيرة ستفهم ما هو الجوهري».
مثل هذه الإجابة كفيلة بأن تجعل لمعلوف خارطة طريق يسير عليها في حياته ثم كتاباته التي كانت تضم مختلف الاتجاهات، خلقت منه كاتباً وروائياً منفتحاً على الآخر، وأدخلته عوالم التسامح وعوالم التفكير في كل ما يقرأ.
لست هنا للحديث عن مآثر معلوف الذي أصدر كتباً وروايات تجعل قارئها يوغل في التفكير والتأمل في كل ما حوله، ولكن أقول هذا لأشير إلى أننا اليوم في أمس الحاجة إلى هذه النظرة للأشياء والأخبار والمعتقدات في ظل كل هذه الهجمات الشرسة على الطوائف والأديان من حولنا، وفي ظل التخوين والإقصاء الذي مازال يمارسه المثقف العربي قبل غيره من عامة الناس والسلطات.
نحن بحاجة اليوم لمن يقرأ ويسمع عن ومن الجميع، ويتعايش مع كل من حوله، ولكنه في ذات الوقت يفكر فيما يقرأ ويسمع ويرى، ليختار طريقه بشكل عقلاني لا بشكل تبعي، وهو ما نراه اليوم عند بعض المندفعين نحو كل ما هو جديد ومختلف من غير أن يفكروا فيما وراءه، وأنا بالمناسبة لا أعني نظرية المؤامرة على الشرق، لأن الشرق بنظري لا يحتاج إلى مؤامرات وهو الذي غيب نفسه وهمشها في كل موقف وفي كل محفل.
لكل وسيلة من وسائل الإعلام اليوم أجندتها وخطوطها الحمراء، ولها جمهورها الذي يصدقها ويقرأ كل ما تكتبه أو يسمع كل ما تبثه وكأنه الكتاب المنزل، ولكن قلة هم أولئك الذين يقرأون ما وراء الخبر ويبحثون عن الأخبار نفسها في الصحف الأخرى ليقرأوها من زاوية أخرى قد تكون مغايرة تماماً، ثم يقومون بتحليلها بما تمليه عليهم عقولهم.
قلة أولئك الذين يقرأون الحدث من غير حكم مسبق يمليه عليهم انتماؤهم السياسي أو الديني أو المذهبي أو العرقي، حتى تجد من يرفض الظلم في هذه الدولة يمجده في الدولة الأخرى، ومن يساند الشعب في ثورته في هذه البلاد يساند عكسها في البلاد الأخرى، ببساطة لأنها تتبع نفس توجهاته وأيديولوجيته، وهو ما يظهر جلياً في الأحداث الأخيرة التي أنتجها ربيع الدم العربي!
وبالعودة لإجابة والد معلوف، لابد وأن نحاول جهدنا أن نربي أطفالنا على أن يقرأوا كل التوجهات ويصدقون ما تصدقه عقولهم فقط بناءً على المعطيات من حولهم والتي تدلهم على الواقع من غير تجميل أو تبرير، وليس بناءً على الأحكام التي يطلقها من حولهم.
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 4821 - الأربعاء 18 نوفمبر 2015م الموافق 05 صفر 1437هـ