لا أتذكر تماماً متى كانت معرفتي بالأستاذ الراحل خالد البسام (1956 - 2015م) كصحافي وكاتب عمود يومي يحظى بمقروئية وشهرة واسعة ليس في بلدنا فحسب بل على المستويين الخليجي والعربي، غير أن البداية كانت على ما أظن وأنا على مقاعد الدراسة الثانوية، وأتذكر حينها أن صورته التي كانت تعلو عموده اليومي تمنح إحساساً بالدفء والحنين لطالب كان يهوى قراءة الأدب وكانت تأسره العبارات الرشيقة، ولم يكن من الكتاب البحرينيين من كان يملك رشاقة أسلوب البسام الأدبي وجماله وإشراقته.
وكان هذا التعلق الأدبي بكتابات البسام بمثابة «الدرس التمهيدي» الأول الذي تعلمتُ منه بساطة الكلمات ووضوح الفكرة وطرافة الأسلوب والتنوع الفريد في المواضيع، وقد استمرت معي «الألفة» الأدبية على مدى استمرار عطائه حكاياتٍ ورحلات وتاريخاً عتيقاً وتفاصيل منسية وهوامش باهتة من تاريخنا المترامي.
وبطبيعة الحال سرعان ما تطور هذا الإعجاب الأدبي إلى حميمية إنسانية مباشرة ولقاءات متباعدة لكنها دائمة وقد تعلمتُ وأفدتُ منها الكثير.
لقد كان البسام قريناً لأسماء صحافية لامعة في الوطن العربي حققت شهرتها ونجاحها الكبير بفعل فرادة أسلوبها السهل الممتنع، وقد سمعته غير مرة يبدي إعجابه بالمدرسة المصرية في الصحافة وكان شديد الاحترام والتقدير لمساهماتها العظيمة في تطور الصحافة العربية، وكان شديد العناية بمتابعة أخبار الأدب المصرية ويكاد يقرأ كل ما يُنشر فيها.
ناعماً وخفيضاً ودافئاً يندلق صوت «أبوحمد» وهو يحدثك بانبساط إنساني توقن بعد الاقتراب منه أنه طبع متأصل فيه، تواضعه أصيل لا تشوبه شائبة تصنع، ولديه روح ساخرة يستخدمها بذكاء في أحاديثه وكتاباته، والسخرية إذا ما استخدمت بذكاء تكون غالباً بصمة الكاتب الناجح.
لدى البسام وعي مغاير لمفهوم التاريخ، وطريقة روايته، وفي جعبته دائماً أوراق صفراء يُقلّبها بعناية ورفق، عتيقة وبعيدة عنا، لكنه سيعثر عليها وسيقدمها لنا بعيون الباحث، وخبرة المؤرخ، وفضول الصحافي وشاعرية الأديب.
لدى هذا المثقف البشوش الفارع تعثر على مخزون هائل من الصدق مع الذات، مردّه - فيما عرفت عن كثب - إلى إحساس عالٍ بالثقة في النفس، دون الوقوع في حبائل الغرور المدمر، والادعاء الفارغ، ولم تنل من معدنه البسيط أضواء الإعلام الخاطفة ولا إغراءات الظهور المتكرر واليومي، ولا استيقظت في داخله يوماً أحاسيس التفوق وعقدها، وعليه فسوف يعتبر نفسه دوماً «تلميذاً في مدرسة الحياة، ولكنه تلميذ كبير السن وسيبقى» كما يقول دوماً.
دأبتُ على مقابلته في مكتبه الذي كان يضم كتبه وأرشيفه الضخم من القصاصات الصحافية المتنوعة.
كان المكتب يوحي - رغم بساطته - بأرستقراطية متواضعة وبذخ في التعبير عن سيكولوجية صاحبه، هنا إذن يكتب البسام ويقضي معظم وقته بين الكتب والصحف والمجلات العتيقة المغبرّة والمهترئة الأطراف.
تعثر في زوايا المكان على شجيرات زينة تكسر من حدّة العبوس والجدية التي توحيها مئات الكتب المصفوفة بعناية وحرص كاسيةً جدران المكتب بأثوابها المهيبة.
الإضاءة صفراء وباهتة، ومشهد الكتب خلاّب ومغرٍ، وستزيد الموسيقى الهادئة المنبعثة من جهاز الكمبيوتر الشخصي من ضراوة الإغواء والتواطؤ الفاتح لشهية الحكي المتأصل سلفاً في صاحبنا حدّ الملازمة، وبالتساوق مع ذلك سيكون لمثلي فضيلة الإصغاء أحياناً كثيرة، وفضيلة السؤال في بعضها.
يتحدث البسام بحساب، قليل الكلمات ولديه صوت موسيقي حالم هادئ ودافئ، فارع الطول ممتلئ الجسم وليست له علاقة بالتدخين الذي فك ارتباطه به منذ زمن.
وصحيح أيضاً أنه يضع نظارة طبية توحي بنباهة وذكاء، ولكنها وفق آخر صرخات الموضة، دقيقة وناعمة، وهو إذا تحدث نطق بالهمس، وفي الأثناء ستتحرك يداه الناعمتان كعصا قائد الأوركسترا تضبط إيقاع الكلام كما ينضبط النغم بالأخيرة.
ينطلق البسام في نجاحه من الصحافة في زمن كان فيه الصحافي مرصوداً للأدوار السطحية والهامشية فحسب، وتفرد في مراكمة نتاج أدبي وتاريخي وثقافي متنوع، في وقت كانت فيه الأسماء الصحافية تجتر أدوارها وخيباتها، أو هي «تعتاش» كما يفعل النجار والحداد والفكهاني والسمكري دون طموحٍ لرسم معالم دورٍ يتجاوز حدود ملاحقة الحدث اليومي المباشر.
ذات مرة، كتب غازي القصيبي (ت 2010) عن كتاب البسام (خليج الحكايات) وقال عن هذا «الشاب الطموح»، إنه «اتجه إلى (تاريخ ما أهمله التاريخ) في الخليج، فأتحفنا بإنتاج يفيد ويمتع» ولقد أثنى القصيبي على هذا «الشاب المؤرخ» وناشده «أن يواصل المسيرة ففي (سحاحير) الخليج أوراق كثيرة نائمة تنتظر باحثاً مثله يوقظها من سباتها». وهكذا سيستمر البسام، متنكباً طريقاً شاقاً مليئاً بالعقبات والمصاعب، ما كان له أن ينجح فيه لولا إيمانه بدوره المرصود كباحث تاريخي جاد من وقته الكثير منشغلاً بإيقاظ الأوراق العتيقة النائمة خلف البحار بعد أن ينتهي من «سحاحير» الخليج باحثاً متجهاً إلى ماضي البحرين في أرشيف الصحافة المصرية ثم إلى لندن، مستودع الأوراق التي سيحولها البسام بعد حين حكايات تُروى.
البسام، السعودي المولد، البحريني الهوى والاهتمام والنشأة، والذي لم يتخل عن بحرينيته في أكثر من عشرة كتب من بين ثمانية عشر كتاباً صدرت تباعاً لتدلل على نشاط محموم وموهبة غير عادية، و»تصدى بشجاعة وإصرار ودأب متواصل على إبراز تاريخ المنطقة بنكهة مختلفة تدعو للتعاطف والصداقة مع الماضي» بحسب تعبير الصحافي المصري صلاح عيسى في إشادته بتراث البسام.
كتبتُ له ذات يوم، وأنا أتلمس طريق البداية في عالم الصحافة، من أين الطريق؟ فقال لي من الكتاب وإلى القراءة... وصمت.
ولم أكن حينها أعرف أن صمته سيتكرر بعد سنين من الصداقة الرائعة والشغف المشترك بالكتابة والأدب والحياة.
لقد صمت البسام هذه المرة صمته الأخير، ورحل عنها مخلفاً إرثاً أدبياً وثقافياً غنياً جَذَبَ إليه قراء كثيرين ومحبين من كل مكان.
رحمك الله يا أبا حمد، يا صاحب القلب العامر بالمحبة، فقد كنتَ نموذجاً فريداً من الناس، ومن الصعب أن تنسى الذاكرة الوطنية والكثيرون من أصدقائك على طول البلاد العربية من هم في مثل قامتك الشامخة.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 4819 - الإثنين 16 نوفمبر 2015م الموافق 03 صفر 1437هـ
رحمه الله
جزيل الشكر لك.. اشكر ذوقك واتمنى ان يتاح الوقت لكتابة شيء يليق بمكانة الاستاذ الراحل
عبارات شوق و فقدان
ابدعت و كفيت أستاذي رغم قلة قراءاتي لهذا الرمز الشامخ في الصحافة و الأدب إلا مقالك أعطى كتاباته إحياء و نبض بقراءة ما ترك من بصمات و ذكريات لا تنس
موفقين وسام
صديق لا ينسي
خابرني قبل وفاته بايام يطلب أن نلتقي يسأل عن الاسره والاولاد ويكرر اشتياقه للقاء وكأنه يقول الوداع فقد احسست باصراره على اللقاء بشئ غريب لماذا يصر على ذللك رغم أن سؤاله عني لم ينقطع ولكن سبحان الله وقد تألمت ان ترتيب اللقاء تأجل حتى رجوعي من السفر ولكن هكذا الاقدار فرحمك الله وغفر لك وأسكنك جناته.
رجل بقامة وطن
أحسنت أ.وســـــــــــام .. كتبت و وأوفيت
بوركت
بوركت...سعيد بترحابك
كلمات جميله
ورثاء محب حبذا ان يتم تسليط الضوء اكثر على الكاتب من خلال عرض بعض اصداراته لان الصراحه اسلوبك كاتبنا العريز اغرانا وشوقنا الى قراءه خالد البسام
تحياتي لك من جديد اخ وسام والى مزيد من الابداع الكتابي