صدر مع عدد مجلة «الدوحة» القطرية، لشهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، «كتاب الأقول» لعميد الأدب الكازاخي الحديث الشاعر والموسيقي والفيلسوف آباي إبراهيم كونانباييف، المعروف بـ «آباي» (ولد في 10 أغسطس/ آب 1845 وتوفي في 5 يوليو/ تموز 1904). تولَّى ترجمة الكتاب عبدالسلام الغرياني. وعلى رغم أن «كتاب الأقوال» وُضع أصلاً باللغة الكازاخية إلا أنه نال شهرة واسعة بعد ترجمته إلى معظم اللغات العالمية الحية.
الأقوال في اللغة جمع قول، وتعني الآراءَ والمعتقدات، وكتاب آباي، لا يتجاوز ذلك المعنى في موضوعاته وتوجهه وتناوله، ضمن آراء يصيغها بأسلوبه البسيط - لم يخْلُ في جانب من الترجمة من شاعرية استطاع المترجم أن يتاخمها نوعاً ما - وضمن معتقدات أيضاً ظل لصْقاً بها تكويناً، وتأسيساً، وخبرات، وثقافة غالبة، على رغم انفتاحه على معظم أفكار ومعتقدات كتاب وفلاسفة ومفكرين كبار في العالم الغربي.
كتاب تأملات هو في الحياة والبشر. قراءة بعين الأب أحياناً، ورؤية الشاعر والفيلسوف عميق النظر، أحياناً أخرى. ما يشبه التشريح هو لعادات وتقاليد وبعض ممارسات شعبه، وخصوصاً تلك التي كان يحذّر منها، ويخشى أن تكون سبباً في مزيد من تأخره وتراجعه. في تناوله للممارسات السلبية، كان حانياً وعطوفاً في الوقت نفسه. يتلمَّس الخروج من كل ما يضع الإنسان، ويتوخَّى كل ما يأخذ به إلى المرتبة اللائقة به.
عن الكتاب نفسه يقول مترجمه الغرياني: «مضمونه الأساس يدور حول تأملات الكاتب في مغزى الحياة ورسالة الإنسان، وعن الشعب وعذابه؛ بكلمات تئنُّ بالألم والشكوى» و «هو نظرة ثاقبة إلى مجتمعه، يصف فيها حياة شعبة، وينتقد - بشدَّة، وبسخرية - السلبيات التي تؤخِّر تقدُّم المجتمع إلى الأمام».
الكتاب لم يأتِ في فصول، بقدر ما جاء في هيئة علامات رقمية، كأنه بذلك يرتِّب الأقوال بحسب تلك العلامات، ابتعاداً عن تحديد موضوعاتها بالعناوين.
في سخرية الكازاخ من الأوزبك
في القول الثاني من الكتاب، بحسب الترقيم الذي تم اعتماده، يتناول آباي في «كتاب الأقوال» جانباً من العوار الأخلاقي والسلوكي في مجتمعه، ذلك الذي وعى عليه في طفولته «في طفولتي اعتدت سماع الكازاخ يسخرون من الأوزبك: (أنت تقفز في تنُّورة واسعة، تجلب السمَّار (نبات تستعمل أوراقه الأسطوانية الطويلة في صنع مقاعد الكراسي، وأشياء أخرى) من بعيد لتسقِّف بيتك بالقش! تنحني وترجع قدماً إلى الوراء، ماسحاً الأرض تحية، عندما تقابل شخصاً ما، لكنك تحقِّر من ورائه. تخاف من كل أجمة، تثرثر دون توقُّف، لهذا ينادونك بـ (سارت سورات: عبارة كازاخية تعني: شخص ثرثار)».
لم يتردَّد آباي، تعبيراً عن محبته وتقديره لشعبه الذي بادله الشعور نفسه، في أن يتناول ما لا يريد كثيرون التحدُّث عنه أو تناوله. وجد هو بذلك التناول أنه يقدِّم خدمة جليلة لشعبه أكثر مما يقدِّمه شعره، ورؤيته الفلسفية، والمكانة التي حظي بها في بلاده والعالم. كانت نظرته الإصلاحية، هي دافعه إلى مثل ذلك التناول، على رغم الأثر الذي يمكن أن يتركه لدى كثيرين، وكذلك الانطباع الذي يمكن أن ينتج عن تلك الكتابات في استقبال الآخر لرؤيته، ومن ثم البناء عليها، نظراً وتعاطياً وتحديد قيمة للشعب الكازاخي.
في القول الثالث من الكتاب، لا يغادر آباي رؤيته إلى كثير من بلاءات مجتمعه، مثله مثل أي مجتمع إنساني، وليس بدْعاً وحده الشعب الكازاخي؛ يتناول هنا حال الكذب الذي يكون سبباً في نفور الكازاخ من بعضهم بعضاً «من المرض المتفشِّي بينهم، لماذا حديثهم نفاق، ويبليهم الكسل، ومتهافتون على امتلاك القوة»؟
وفي موضع آخر من الفصل نفسه، يتناول آباي، حالات الخاسر الذي «لن يكدح أو يعرق، وسيبحث عن النفوذ عند آخر بشكل مُراوغ، لن يُظهر ميْلاً للتجارة أو لحرث الأرض»، وصولاً عند قوله «يبيع نفسه بالرخيص، ويتورَّط في الفاقة والخزي».
الحديث مع السكِّير يُوجع الرأس!
الضحك، نوع من التعبير عن المرح. يتناوله آباي هنا من زاوية معاكسة، يضعه بموازاة الثمالة، أو السكْر المُفرط «لاحظ الأسلاف، منذ زمن بعيد، أن الضحك دون سبب كحالة من هو ثمل. نرى الآن أن الثمالة تقود إلى سوء السلوك، فالحديث مع السكِّير يوجع الرأس». ربما لأنه في غيابه. حضوره الذي لا يحيط به؛ لكنه مُحاط بحضور من هو في صحوته وانتباهه، وذلك هو مؤدَّى ما تناوله في القول الرابع من الكتاب «المرء الذي ينغمس، على نحو متواصل، في مرح لا معنى له، يتجاهل وعيه، ويهمل شئونه (...)».
يرى ضرورة ألاَّ ينغمس الشخص في مرح لا معنى له. ربما يكمن المعنى هنا في قدرة ذلك المرح على تحريك الجامد والمؤجَّل فيه. في قدرته على تنقية روحه من العناء أو - وذلك هو المهم – تنقية روحه من البؤس واليأس.
كثير من الإلماعات يمتلئ بها «كتاب الأقوال»، ربما أكثر كثافة في المعنى تلك التي احتواها القول السابع والثلاثون، مزيج من الخبرة التي تأتي على هيئة حكمة ومن بينها: «مهما كانت الفكرة جيدة، فإنها تتشوَّه عبْر مرورها بالشفاه الإنسانية»، «من سمَّم سقراط؟ ومن أحرق جان دارك؟ ومن صلب المسيح؟ من أساء إلى نبينا؟ العامة، الدهماء!؟ الدهماء لا عقل لها، ابحث، مباشرة، في طريق الحقيقة»، «أن تكون وحيداً، هذا يشبه أن تكون ميتاً. الإنسان الوحيد يُعاني من محن شتَّى»، «المتسوِّل وبطنه ممتلئ هو الشيطان مُجسَّداً، الصوفي الكسول منافق»، «الصديق المزيَّف كالظل: عندما تكون الشمس مشرقة عليك لن تتخلَّص منه، وعندما تتجمَّع فوقك السُحُب لن تراه أبداً».
تبدو الترجمة باردة!
الكتاب على رغم توزيع فصوله على الأرقام التي حلَّت محل العناوين، باعتبارها مدخلاً للموضوعات التي يطرحها الكتاب؛ إلا أن الأرقام بدت بمثابة فواصل وعناوين للأقوال - ترتيباً - تجعل كل موضوع على حِدة؛ ولم يكُ يضير المترجم هنا ممارسة حقه باقتراح عناوين من الفصول نفسها، لا تخرج عن مناخها أو مُعالجاتها، كي يسهل على القارئ انتخاب الموضوعات التي يراها قريبة إلى اهتمامه.
أمر آخر، أن الترجمة لم تبدُ بوهج النصوص والمكانة التي يتمتع بها الرجل، من حيث حضوره العالمي، ومن حيث اهتماماته المتنوعة، بدت الترجمة باردة، لامست السطح من الموضوعات التي تناولها آباي، ولم تبْدُ هناك لمسات شعرية فيما تناول، حتى في الموضوعات التي كانت بعيدة عن مسار وخط الشعر، ونعني بها تلك التي ذهبت في مباشرتها، نصحاً، وتناولاً لإشكالات المجتمع الكازاخي، بدا غائباً بتلمُّس اللغة في مباشرتها، وتقريريتها. على رغم ذلك، ثمة مساحات قليلة من ترجمة الكتاب ملفتة وتبدو قريبة من روح النصوص والموضوعات التي تناولها المؤلف.
ضوء
وبحسب ما ورد في السيرة التي افتتح بها المترجم «كتاب الأقوال»، فإن آباي ولد لعائلة معروفة في كازاخستان الشرقية، والده متزوِّج بأربع نساء، وهو إقطاعي وشيخ قبيلة. أطلقت عليه أمه اسم آباي، وهو تصغير إبراهيم، وتعني «المتمعِّن الحذر» أيضاً.
استدعاه والده ليدرِّبه على إدارة شئون القضاء والأعمال الإدارية، ليتصدَّى لأعدائه المنافسين؛ لكن الشاب غالباً ما كان يعارض مصالح أبيه ومطامعه، وحدثت خلافات حادَّة بينهما قاربت حدَّ القطيعة؛ لكن الخلافات حُلَّت عندما بلغ آباي الثامنة والعشرين، بانصرافه إلى تعلُّم اللغة الروسية التي انقطع إليها مدَّة طويلة.
كان لكل من: بوشكين، ليرمنتوف، كريدوف، وتولستوي، أثرهم البالغ على نظر وطريقة تفكير آباي، وصولاً إلى عدد من الأدباء الألمان وعلى رأسهم غوته، وقام بترجمة بعض أعمالهم إلى اللغة الكازاخية.
يظل آباي صاحب حضور كبير وطاغ، مثله مثل الأدباء الكبار في تاريخ العالم الغربي.