الانطباعات والمشاهدات، وتفاصيل مكان كالمرسم، أو المُحتَرَف الفني، فيها الكثير من الفن أيضاً. ذلك ما يأخذنا إليه دان شو، من صحيفة «نيويورك تايمز»، في تقرير نُشر يوم الجمعة (6 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015)، تناول فيه تجربة الفنان التشكيلي الصيني الأميركي المسلم زانغ هونجتو، المقيم في ولاية نيويورك منذ العام 1982. «صانع الأذى العريق»، أسماه «شو»، بأعماله المشتغلة على الانتقادات اللاذعة التي يوجَّهها إلى الزعيم الصيني ماو تسي تونغ، وثورته الثقافية. وتلك هي أداته في الرؤية والنظر. اللوحات الكثيرة المتناثرة في المكتب والمرسم، كلها اشتغال على تعرية هذه «الآلة» التابعة إلى النظام، الذي ارتكب الكثير من الفظاعات والتجاوزات والمذابح. كل ذلك الاشتغال لم يكن له أن يبرز ويأخذ مداه، لولا العرض الذي تلقَّاه من الغرب كي يقيم بينه؛ حيث فضاء الحرية والتناول ممتد وبعيد، بُعْد المشرق عن المغرب.
يستكشف زانغ أيضاً في كثير من أعماله، وهو المسلم، موضوعات السلْطة والمُعتقد، والانفتاح على الثقافات في الشرق والغرب، والعلاقات بينهما. هنا أهم ما جاء في التقرير.
مثل العديد من الفنانين، يعتبر زانغ هونجتو مرسمه بمثابة منزله وهو ملائم له تماماً، وإن كان بعيداً عن مكان استقراره الأول (الصين). إنه يبعد خطوات قليلة من منزله الضيِّق المبنيِّ من الطوب، والمفصول عن المرْسم في وودسايد، بكوينز؛ حيث يتخذ من الباب الخلفي لمنزله، وعبر فناء صغير، طريقه إلى العمل كل يوم. «اشترينا هذا المنزل بسبب الأستوديو»، كما قال. تبلغ مساحة المبنى 1875 قدماً مربَّعاً، ويحتلُّ الحيِّز الأكبر من الفناء الخلفي.
هو المكان نفسه الذي أنجز فيه زانغ (72 عاماً) العديد من الأعمال السادسة والتسعين، التي تتضمَّن الاستعراض الأميركي الأول لمسيرته الفنية، وافتتح الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول 2015) في متحف كوينز، بفلاشينغ ميدوز كورونا بارك، ويستمر حتى 28 فبراير/ شباط 2016.
المكان... المالك في انتظارنا
عندما شاهد زانغ العقار للمرة الأولى في العام 2004، أحبَّه كثيراً، وقال لزوجته مياولنغ: «سنشتريه بغضِّ النظر عن السعر». لحسْن الحظ، كان المالك عازماً على بيعه لفنان من شأنه أن يُحسن استخدامه. وقال زانغ: «بدا الأمر كما لو أن المالك كان في انتظارنا. كان يُمكن أن يبيعه لشخص آخر بأكثر من السعر الذي عرضه علينا، لكنه لم يفعل».
يأخذني زانغ، عبوراً إلى غرفة المعيشة المفروشة بأثاث بسيط، في جانب من المكان مطبخ أنيق. إزاء الباب الخلفي، يتوقف زانغ لحظة على السلَّم، هناك حيث عُلِّقتْ صور مؤطَّرة باللونين الأبيض والأسود، تُظهر جانباً من سنوات حياته هو وزوجته في الصين، قبل أن يهاجر إلى الولايات المتحدة في العام 1982. (تبعته زوجته في العام 1984 مع ابنهما). تُظهر الصور زانغ وزوجته حين كانا طالبيْن، بابتسامتهما العريضة في الأكاديمية المركزية للفنون والحِرَف في بكين فترة ستينات القرن الماضي، ثمة صور أخرى لهما أمام سور الصين العظيم؛ حيث احتفلا بزفافهما في العام 1972.
زوجته، وهي في السبعين من عمرها الآن، هي المسئولة عن الاعتناء بالحديقة في الفناء الخارجي للمنزل. أشار زانغ وهو يقُودني إلى طريق الأستوديو، لافتاً إيايَ إلى غابة من الخيزران تلك التي تقوم بوظيفة حجب الزوجين عن جيرانهم، وعريشة أخرى انتصبتْ في المكان، وبادر بالقول: «نتناول جميع وجباتنا في هذا المكان حين يبدأ فصل الصيف». وعمد إلى فتح باب خشبي بطول ثمانية أقدام يؤدِّي إلى مرسمه، موضحاً أن المالك السابق كان نجَّاراً، وقام بتجديد فضاء المكان على الطريقة اليابانية التقليدية.
أشعل الأنوار، وانفرجت أساريره عن ابتسامة عريضة، كما لو كان نجمَ مسلسل يعرض على «HGTV». كان ذلك بمثابة كشْف كبير. «كل صباح عندما أحضر هنا أشعر أن المكان جديد»، مضيفاً «يمكنني دائماً إنجاز شيء في هذا الفضاء. إنه يمنحني الفرصة للقيام بذلك». الجزء الأمامي من الأستوديو، متداخل، وهو عبارة عن قاعة وغرفة طعام مفروشة، تتوسطها طاولة كبيرة من خشب البلُّوط، وهي من تصميم زوجته. همَس «عندما يكون لدينا رفقة تتجاوز الستة أشخاص، نختار هذا المكان لتناول الطعام. نحتفل بعيد الشكر، عيد الميلاد ورأس السنة الصينية الجديدة هنا».
الأشياء المتبعثرة... الغونغ
في وسط المبنى، تمَّ فصل مكتبٍ الأشياء فيه مبعثرة. هنالك رفوف تمتدُّ من الأرض حتى السقف. هنالك أيضاً «الغونغ»، المصنوعة من قبل اللاجئين التبتيين في النيبال، وهي أداة قرْع موسيقية إفريقية ولها امتداد في شرق وجنوب شرق آسيا، وتأخذ شكلاً مسطَّحاً دائرياً على هيئة قرص معدني يتم ضربه بمطرقة. منشأ الأداة الأول هو الصين، وامتدَّت في وقت لاحق إلى جنوب شرق آسيا، ويُمكن استخدامها أيضاً في قسم القرْع الذي تتكوَّن منه الأوركسترا السيمفونية الغربية. أوعز لي زانغ: «اضرب بكل ما أوتيت من قوَّة. صوته يجعلني أشعر بالهدوء والسلام».
بين كتب الفن ستجد هنالك عبوة كرتونية تحتوي على (Quaker Qats) «شوفان كويكر» وهي العبوة التي يمكن ملاحظتها في السوبر ماركت، تلك التي يتصدَّرها رجل أبيض الشعر، والعبوة الثانية رسم عليها وجهَ الزعيم الصيني ماو تسي تونغ.
ماو و«الوليمة الأخيرة»
«كويكر أوتس ماو» (شوفان كويكر ماو)، عمل فني هو جزء من وحي وتأثر زانغ بالفنان الأميركي وارهول، وهي سلسلة زانغ التي حملت عنوان «يحيا الرئيس ماو» (ضمن رؤية ساخرة، لا تنفصل عن الاشتغال النقدي في أعماله الأخرى)، وتم تخصيص معرض كامل ضمن الاتجاه نفسه في متحف كوينز للفن. على مكتبه رسْم مطبوع من أعماله حمل عنوان «الوليمة الأخيرة» في محاكاة للوحة «العشاء الأخير»، يستبدل فيها زانغ 13 صورة لماو بدلاً من يسُوع وحوارييه.
يُذكر أن آندي وارهول، من أشهر فناني الولايات المتحدة الأميركية في النصف الثاني من القرن العشرين. ولد في 6 أغسطس/ آب 1928، وتوفي في 22 فبراير/ شباط 1987). كان رسَّاماً يقوم بالطباعة بالشاشة الحريرية، كما كان صانع أفلام مرتبطاً بحركة فن البوب في الولايات المتحدة (1930 - 1987). أسَّس مجلة «إنترفيو» (Interview) في العام 1973. في مدينة بيتسبرغ (بنسلفانيا)، ويُوجد متحف باسمه، يحتوي على العديد من أعماله، وافتتح في العام 1994.
طباعة أخرى لعمل هو عبارة عن منظر في كوينز. أنجز الكولاج الأصلي (تعني لصق، وهو فن بصري يعتمد على قص ولصق العديد من المواد معاً)، لـ «الصين: 4 يونيو 1989»، وشارك به في معرض العام 1989 الذي نظَّمه مركز الفنون الآسيوية الأميركية، بنيويورك في استجابة للانتفاضة الطلابية بميدان تيانآنمين. وقال زانغ إن «الوليمة الأخيرة» عمل كان من المفترض أن يظهر كجزء من المعرض المتنقل في العام 1990 في مكتب راسيل بمبنى مجلس الشيوخ في الكابيتول هيل. كان ذلك في وقت تتعرَّض فيه المؤسسة الوطنية للفنون إلى الهجوم ونقد المحافظين، الذين كانوا على معرفة بالفن المنتهِك بإشارات وعلامات التدنيس، التي تُخرجه من إطاره الديني وفضائه المقدَّس.
ينسبُ زانغ لا مبالاته إلى «الرقابة». وقال في هذه الصدد: «لقد صُدمت. لقد منحت الرقابة الكثير من الشعبية للوحة، غير أنها لم تكن رقابة حقيقية مثل تلك التي في الصين، لأنني كنت قادراً على المشاركة بها في معارض أخرى». مساحة العمل الخام في الجزء الخلفي من الأستوديو؛ حيث يرسم زانغ ويعمل على مجموعة من النحت مثل «بينع بونغ ماو» (لعبة تنس ماو)، والتي أسماها «ضوابط طاولة البينغ بونغ»، والتي تبدو ذات قواطع كبيرة من الجانبين على سطحها، محفورة بشكل كلي في جزئي الطاولة على هيئة صورة الزعيم الصيني؛ ما يجعلها غير صالحة للاستعمال. «لقد نشأت على صورة إيجابية عن ماو» كما قال في تفسير اقتضاه الموقف. وأضاف «أما الآن فعقلي يحتفظ بصورة سلبية عنه».
صانع الأذى العريق
وجَّه زانغ انتقادات لثورة ماو الثقافية منذ أن حطَّ رحاله في نيويورك للدراسة في رابطة طلَّاب الفن. لكن ماو لم يكن هدفه الوحيد. يحب صانع الأذى العريق (زانغ) الرسم الصينى التقليدى أيضاً. «إعادة تشكيل العمل الفني لـ «ما يوان» «ألبوم المياه»، والذي أنجزه زانغ بعد 780 سنة من إنجاز العمل الأصلي)، هناك عمل من قطعة قماش كبيرة في الأستوديو تحمل الحرف «R».
رؤيته تتلخَّص في أن عمل «(ما يوان) دقيق للغاية، ولكنَّه شاق ومُرهق». بعد سنوات عديدة من العيش في مانهاتن وصناعة الفن في مرحلة ما قبل الطبقة الراقية بوليامزبيرغ في بروكلين، وجد زانغ شعوراً عميقاً بالانتماء إلى «وودسايد». وقال: «لم أشعر بأنني أجنبي هنا. جاري على جانب من المكان إيطالي. وعلى الجانب الآخر، مواطن من سنغافورة، وفي المنزل المجاور بعض الشيء، يقيم مواطن من أميركا الجنوبية. وسترى في الشارع الكثير من الناس الذين ينتمون إلى التبت وبوتان. هذه أميركا بالنسبة لي».
يشار إلى أن الثورة الثقافية في الصين شهدت فترة من القلاقل؛ إذ دشَّن الزعيم الصيني ماو تسي تونغ، في 16 مايو/ أيار 1966، ثورة البروليتاريا الثقافية الكبرى، وحذَّر وقتها من أن من أسماهم بممثلي البورجوازية قد اخترقوا الحزب الشيوعي، وسيعمل على اجتثاثهم. وكان إعلاناً مزّق المجتمع الصيني. دعا ماو الشباب بعد إعلان ثورته الثقافية أن يقوموا بالانقلاب على الزعامة الشيوعية في البلاد. واستجاب لدعوته آلاف الشباب الذين عُرفوا فيما بعد باسم «الحرس الأحمر». وغرقت الصين في الفوضى التي راح ضحيتها مئات الآلاف، وجرى تعذيب الملايين، وتخريب جانب كبير من تراث الصين الثقافي. وبنهاية العام 1968 كانت الثورة الثقافية قد جعلت الصين على شفا حرب أهلية.
ضوء
يذكر أن زانغ هونجتو، فنان صيني ولد في العاصمة الصينية (بكين) العام 1943، ويُقيم حالياً في ولاية نيويورك بالولايات المتحدة الأميركية. يعمل في مجموعة متنوِّعة من وسائل الإعلام، ومن بينها الرسم (أحياناً يعمد إلى استخدام صلصة الصويا في تركيب وتشكيل أعماله)، النحت، الكولاج، السيراميك، التصوير الرقمي، والأعمال التركيبية.
يستكشف عمله الحرية منتقداً السلطات الصينية، بعد أن مُنح حق العيش في الغرب. كما تعكس أعماله موضوعات السلطة والمعتقد (وخصوصاً القوة التي تحتويها أيقونات الصور)، مستمدَّاً إياها من انفتاحه على الثقافات في الشرق والغرب، والروابط والعلاقات بينهما. تلك الموضوعات مستمدَّة إلى حد كبير من كونه غريباً، ومن قيمته كمسلم في الصين، بعد انتقاله إلى الولايات المتحدة، وكونه صينياً في العالم الغربي.
تلقَّى تعليمه في الأكاديمية المركزية للفنون والحِرَف في بكين. في العام 1987 شارك في تأسيس الجمعية الصينية المتحدة للفنانين في الخارج، جنباً إلى جنب مع لى شوانغ، تشو ليلي، آي وي وي.
ولد ونشأ في عائلة مسلمة في بينغليانغ (100 ميل إلى الشمال الغربي من مدينة شيآن). كانت عائلته في تنقُّل دائم؛ ما جعله لا يشعر بالانتماء إلى أي من الأماكن التي تنقَّل فيها. كان والده (زانغ بنغدو) تاجر جملة، مسلماً متديناً وسافر إلى جميع أنحاء الصين لتعلُّم اللغة العربية في عدد من المدارس.
في الفترة ما بين من 1947 - 1950، ومع احتدام الحرب الأهلية الصينية، قام والده بالانتقال مع عائلته من بينغليانغ في الشمال الغربي إلى شنغهاي، وسوتشو، ونانجينغ، ثم شمالاً إلى مدينة تشنغتشو. قبل هزيمة الشيوعية، عقد زانغ بنغدو العزم على الهرب مع عائلته إلى هونغ كونغ، ولكن تم إقناعه من قبل بروفيسور إسلامي بالانتقال إلى بكين.
علاوة على امتهانه تجارة الجملة، عمل والده فيما بعد في وظائف مختلفة مع الحكومة الجديدة، بما في ذلك رابطة شئون الأقليات، وكالة أنباء شينخوا، وإدارة الإذاعة المركزية، وفي نهاية المطاف أصبح نائب رئيس الرابطة الوطنية للمسلمين. ومع ذلك، جعلَ الانتماء الديني في دولة ملحدة رسمياً، الحياة صعبة على نحو متزايد.