العدد 4816 - الجمعة 13 نوفمبر 2015م الموافق 30 محرم 1437هـ

سيرةُ كتاب: رواية «المِعطف» لنيكولاي غوغول

صورة رواية المعطف
صورة رواية المعطف

المنامة: وليد النعيمي 

تحديث: 12 مايو 2017

لا قيمة للإبداع إن كانت مخارجه تتسرب من نوافذِ أبراجٍ عاجيةٍ عالية، لتتبخر في الهواء مبتعدة عن هموم البشر. نيكولاي غوغول الذي عاش حياة غير مستقرة في أغلب مفاصلها، توفي عن عمر يقارب 43 سنة وهو في ذروة مجده ويأسه ومرضه تاركاً إرثاً إبداعياً جعله من عظماء الأدب الروسي. بل إنه يُعد أحد أهم مؤسسي المدرسة الواقعية النقدية في الأدب العالمي. كان ألكسَندر بوشكين أول من تنبه لمواهب غوغول المميزة، فشجعه وساعده على شق طريقه للقمة، حتى بات نيكولاي غوغول من أبرز المتربعين على عرش تلك المدرسة. وما أن يُذكر غوغول حتى ترافقه عبارة «كلنا خرجنا من معطف غوغول» تلك حقيقة، فقد خرج روائيون كبار من المعطف التقليدي وأبحروا في يم الإبداع الروائي بفضل ذلك المُبدع.

رسم نيكولاي غوغول بكلماته وأفكاره وخياله اللامحدود لوحات أدبية فريدة، تنتقد الواقع بسخرية لاذعة، مُعريةً الزيف الاجتماعي والممارسات المرفوضة التي تمكنت من تكبيل مؤسسات الإمبراطورية الروسية كانتشار الرشوة وتفشي الفساد المالي والإداري.

تبدأ رواية «المعطف» بتصوير الوضعية العفنة التي بلغها الجهاز البيروقراطي. ففي دائرة ما وبسخرية يتقصد غوغول من خلالها عدم ذكر اسم الدائرة، فقد تكون أي دائرة عسكرية أو قضائية أو مدنية، باختصار كل الدوائر التي لها علاقة بالخدمات العامة. يصور الكاتب بشكل لاذع سطحية تفكير غالبية فئة الموظفين العموميين، وعلى الأخص تلك النماذج التي تعتقد بأن أي مساس لشخصها هو إهانة مجتمعٍ بأسره، بل إن فُقدانها سيشكل كارثة على الإمبراطورية!

بطل الرواية من عائلة بسيطة، تَقصَّد غوغول إعطاءها لقب الحذّائين كبُنيان رمزي يعكس حياة موظف مُعدَمٍ يتعرض للاستخفاف به وللاستغلال والإهانة. لم يجد أهله - حين ولادته - أفضل من اسم أبيه لذا سُمي أكاكي أكاكيفِتش (في اللغة الروسية يضاف التصريف «فِتش» في نهاية اسم الأب بعد اسم الذكر أما اسم الأنثى فلنهاية اسم الأب تصريف آخر). غالباً ما تتشابه مصائر أبناء وآباء هذه الفئة، لا تغيير يُذكر في حياتهم الرتيبة منذ الولادة وحتى الممات، لذا سَمّى غوغول بطلَ روايتهِ كاسم أبيه. يصف غوغول حياة أكاكي وطريقة عمله وهمه المُتَمَحور حول إتقان نسخ المذكرات الرسمية بكل أمانة فتلك هي مُهمته اليومية، أما الوقت المتبقي من يومه فهو رتيب وروتيني، أيامه تمضي بين البيت والعمل، يحافظ على أدق تفاصيل حياته وأهمها معطفه، الذي رُقِّعَ حتى لفظ أنفاسه الأخيرة. لم يقبل خياط أكاكي إصلاح المعطف هذه المرة، الحقيقة ليست هناك إمكانية لأي عملية ترقيع! إنها لكارثة ألمّت بأكاكي، هل يُعقل أن عمر المعطف قد انتهى! يسرد غوغول بطريقته، كيف خطط أكاكي لِخِياطةِ معطفٍ جديدٍ من خلال تقليل مصاريفه المعدومة أصلاً. أخيراً، استلم أكاكي معطفه الذي احتفل به أفراد الدائرة وغمروا أكاكي بالتهاني حتى شعر بالخجل الشديد، وشددوا على ضرورة الاحتفال بهذه المناسبة السعيدة، لم ينقذه من هذه الورطة إلا دعوة أحد المسئولين لجميع موظفي الدائرة لحضور حفلة شايٍ في ذاك المساء. ما كان لأكاكي أن يذهب ويكسر روتين حياته لولا سعادته بخوض تجربة ارتداء المعطف الجديد خارج أوقات الدوام. لتحل عليه كارثة سرقة المعطف من قبل بعض اللصوص حين عودته ليلاً للمنزل وما تبعها من ويلات.

قد تبدو فكرة الرواية بسيطة، إلا أن الجمل العميقة الواقعية والساخرة في الوقت ذاته والممزوجة بالخيال التي شكلتها كلمات الكاتب من خلال الرواية، تُظهر ما وصل إليه حال الإنسان المُعْدَم، وخصوصاً عند ظهور حاجة جديدة أو ضرورة تتمثل باستبدال شيء من ممتلكاته النادرة أصلاً كالمعطف على سبيل المثال. كم سيعاني في سبيل توفير ثمنه، من حرمان نفسه متطلبات كثيرة إلى عدم التمكن من الإيفاء بالتزامات أكثر. لدرجة أنه ألغى شُرب شاي المساء من جدول أعماله، وقلل عدد مرات غسيل ملابسه، ومشى على أطراف الطريق بحذر كي يُطيل عمر حذائه! صورٌ قد تكون مضحكة فقط لمن لا يعرف قسوة المُعانة والحاجة التي يرافقها التعفف. ذلك الفقير الغني عن سؤال بشرٍ ينتمون لمجتمع مخملي غير آبهين بما يحدث لعامة الناس، الذين يشكلون كتلة بشرية هائلة، ساهين عن خطرها عليهم إن هي استيقظت وناضلت لنيل حقوقها المسلوبة.

بركت الإمبراطورية الروسية في نهايات القرن التاسع عشر عند فوهة بركان قارب على الانفجار. على الرغم من ظهور بوادر نهضة صناعية كان بإمكانها تأجيل السقوط، إلا أنها كانت متعثرة، كما أن هشاشة الدولة تجذرت في أعماق مفاصلها مما قادها لهاويةِ نهايةِ زمنِ إقطاعيةٍ متراميةِ الأطراف.

فضح غوغول مساوئ وسوء حال بلاده، إلا أنه لم يتمكن من إيجاد مفاتيح الخروج من ظُلمة ما يجري حتى سقط في براثن متاهات ذلك الواقع في أيامه الأخيرة. ولا يتحمل الكاتب طبعاً وِزر عدم القدرة على طرح حلولٍ تنتشل البلد والمجتمع وتوصلهما إلى بر الأمان، فنيكولاي غوغول أديبٌ عظيم أبدع في تشريح الواقع بحبكاتٍ تجاوزت الخيال مساهماً بذلك في تمهيدِ طريقِ مفكرين وثوار خروجوا لمواجهة بركانِ واقع ٍمريرٍ على أملِ بناء مستقبلٍ زاهرٍ آمن.

إن الجمود الفكري والثقافي والعقائدي والتعصب الديني والفساد والرشوة والاضطهاد والتمييز كالحمم السامة. تزداد مخاطرها التدميرية على وجود الإنسان ووجدانه كلما أزكمت رائحتها الأنوف.

هذه الحياة معطف، قد أفلح من خرج بسلام.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً