العدد 4816 - الجمعة 13 نوفمبر 2015م الموافق 30 محرم 1437هـ

القبور الدلمونية في المناطق الشمالية: طبيعة الأرض والطقوس الجنائزية

جزء من مقبرة كرانة الأثرية (Herling 2003
جزء من مقبرة كرانة الأثرية (Herling 2003

يوجد، في البحرين، عشرات الآلاف من تلال القبور الأثرية، وهي تتوزع بصورة مجموعات متقاربة. ويرجح أن بالقرب من كل مجموعة تلال قبور يوجد، في الحد الأدنى، مستوطنة سكنية. وهكذا، فإن دلمون في فترة نضجها (قرابة 2000 ق. م)، لم تكن عبارة عن مدينة واحدة بنيت في موقع قلعة البحرين، وإنما تعتبر تلك المدينة كمدينة مركزية يقع بها قصر الملك الدلموني، بالإضافة لعددٍ من المباني الإدارية. ويضاف لهذه المدينة، عدد من المدن الصغيرة الفرعية وعدد من المعابد، وهي منتشرة على امتداد الأطراف الشمالية، وفي سار والجنبية، وعلى طول الساحل الغربي، وكذلك جزء من الساحل الشرقي للبحرين. إلا أنه لم يتم العثور إلا على بقايا آثار القليل من تلك القرى أو المدن الفرعية الدلمونية الأخرى.

يذكر أن، غالبية آثار المستوطنات الدلمونية عثر عليها في الجزء الشمالي من البحرين، بينما، تتركز تلال القبور الدلمونية في الجزء الجنوبي من البحرين. فإذا تم الترجيح، أن بالقرب من كل مجموعة تلال قبور توجد مستوطنة دلمونية، فإن من الطبيعي أن يكون هناك آلاف من هذه التلال في الجزء الشمالي من البحرين. وفي الواقع، فإن انتشار تلال القبور الدلمونية في الجزء الشمالي من البحرين، لا يمثل ظاهرة ملحوظة، فهل توجد قبور دلمونية في هذه المناطق؟ بالطبع، لقد أثبتت نتائج التنقيب في هذه المناطق، وجود العديد من القبور الدلمونية، ولكن يبقى السؤال، أين تختفي هذه القبور؟ ولماذا لا تمثل ظاهرة ملحوظة كما في تلال القبور في الجزء الجنوبي من البحرين؟.

القبور الدلمونية على الساحل الشمالي

لقد تم اكتشاف العديد من القبور التي تعود لحقبة دلمون في المناطق الشمالية، وهي تتركز في كرانة والحجر والمقشع والشاخورة، وبالإضافة لتلك المناطق، فإنه ويرجح وجود قبور دلمونية، أخرى، في أبو صيبع وجنوسان وجدحفص. هذه القبور الدلمونية، لا تظهر في شكل تلال، كما في القبور الدلمونية في سار والجنبية والجزء الجنوبي من البحرين، والمرجح، أن طبيعة الأرض الصخرية في المناطق الشمالية، فرضت قيوداً معينة على الطقوس الجنائزية وطرق حفر القبور في هذه المناطق. فقد كانت القبور الدلمونية في المناطق الشمالية، تحفر في الأرض الصخرية، ومن ثم يتم تغطيتها بقطع صخرية كبيرة. وهذه القبور توجد في مجموعات متقاربة من بعضها؛ وبالتالي، ومع مرور الزمن، وعندما تغطى تلك القبور بالكثبان الرملية مكونة تلالاً، فإن كل تل يخفي تحته عدداً من القبور، ربما عشرات منها. هذا، وبالرغم من اكتشاف العديد من القبور الدلمونية في المناطق الشمالية، إلا أن أعداد هذه القبور قليل، إذا ما قورن بمواقع الاستيطان في هذه المناطق، ويمكن إرجاع ذلك إلى سببين رئيسيين. الأول، أن القبور تم إعادة استخدامها في الحقب اللاحقة للحقب الدلمونية، أي أنها تحولت لقبور تعود للفترة الهلنستية (فترة تايلوس). أما السبب الثاني، فهو وجود كثافة سكانية عالية في هذه المناطق، أدى لتدمير وإزالة العديد من تلك القبور. يذكر أن، ظاهرة إعادة استخدام القبور تم ملاحظتها بصورة واضحة في كل من مقبرة كرانة ومقبرة الحجر ومقبرة المقشع.

مقبرة كرانة

تقع مقبرة كرانة الأثرية في الأطراف الجنوبية لقرية كرانة، بمحاذاة شارع البديع. وتضم هذه المقبرة العديد من القبور التي تعود لفترات زمنية مختلفة، كالحقبة الدلمونية، والهلنستية. وقد تم التنقيب في هذه التلال، وتم نشر نتائج التنقيب في عدة دراسات، تناولت القبور الهلنستية (Herling 2003) والقبور الدلمونية (Velde 1998). كما قامت Littleton بدراسة الهياكل العظمية في مجموعة من القبور، وقد أشارت في دراستها، إلى أن 25 في المئة من القبور التي قامت بدراستها، قد تم إعادة استخدامها خلال فترات زمنية مختلفة قد تصل لأربع فترات زمنية مختلفة. يتضح ذلك من خلال وجود أكثر من هيكل عظمي واحد، تعود لحقب زمنية مختلفة، وذلك في نفس القبر الواحد (Littleton 1995).

مقبرة الحجر

يتكون موقع الحجر من عددٍ من التلال، وكل تل يحوي على عددٍ من القبور، ولقد نقب في هذا الموقع في أربعة مواسم مختلفة، ويمكن تقسيم تلك المواسم إلى فترتين أساسيتين، الفترة الأولى بين سنتي 1970م و1976م، أما الثانية فكانت في الأعوام 1992م و1993م، وتحتوي المقبرة على قبور تعود لحقب زمنية مختلفة (صويلح 2009، ص266 - 274 وص 322 - 324). والمرجح أن هذه القبور تم إعادة استخدامها في أكثر من حقبة زمنية، فقد عثر في أحد القبور على ختم يشابه أختام فترة جمدة نصر التي تعود للحقبة 3200 - 3000 ق. م. وبالإضافة إلى الختم عثر أيضاً، وفي نفس القبر، على فخار يعود للحقبة الكشية (1600 - 1200 ق. م.) (Rice 1971, 1988). وقد صاغ Rice نتيجة مفادها أن هذا القبر استعمل على مرحلتين، المرحلة الأولى التأسيسية ويعود تاريخها إلى حوالي العام 3000 ق.م، وقد تأكد هذا التاريخ من الختم الذي عثر عليه فريق التنقيب في هذا المدفن. وفي المرحلة الثانية من استعمال المدفن تم فصل جزء من طوله (قرابة متر) بإضافة جدار في الجهة الشرقية من امتداده، وقد عملت في الجدار درجتان للدخول والخروج من المدفن عند الحاجة، وتعود هذه المرحلة إلى الحقبة الكشية (1600 - 1200 ق. م). كذلك فقد عثر في قبر آخر على ختم منشوري الشكل، وهو من الأختام التي يرجح أنها كانت منتشرة قرابة العام 2000 ق. م.، إلا أنه عثر، أيضاً، وفي نفس القبر، على فخار يعود للحقبة الكشية. هذا، وفي مقبرة المقشع تم توثيق حالة مشابهة لذلك (Denton 1999).

ضياع القبور الدلمونية/ الهلنستية

المرجح، إذاً، أن العديد من القبور الدلمونية في المناطق الشمالية في البحرين، تحولت مع الزمن لقبور تعود لحقبة تايلوس، وقد كان يوجد العديد من التلال التي صنفت على أنها تلال قبور فترة تايلوس في هذه المناطق، والتي تم إزالة غالبيتها عبر الزمن؛ وذلك من أجل بناء منازل وطرق في مواقعها، على سبيل المثال كان يبلغ تلال قبور قرية المقشع ما بين 20 - 30 تلاً، ولكن تم إزالة جزء كبير منها عند ما تم شق الطريق من المنامة للبديع في العام 1937م (بوتس 2003: ج 2, ص 819). وحتى بعد شق هذا الطريق بقي العديد من تلك التلال؛ فقد وصف Bibby هذه التلال في العام 1954م: «بعد قرية جد حفص تبدأ الصحراء بالتداخل بين الأشجار والشارع (أي شارع البديع)، وفي الأميال الثلاثة التي تلي ذلك (أي بدءاً من قرية جد حفص) يبدو الطريق وكأنه محاط على جانبيه بشريط رملي عرضه نصف ميل، ويلاحظ في هذا الشريط الصحراوي عدد لا يحصى من تلال المدافن، ربما يصل عددها لأكثر من ألف. هذه التلال تختلف تماماً عن تلال مدافن العصر البرونزي» (Bibby 1954).

الخلاصة

يوجد العديد من مواقع الاستيطان في المناطق الشمالية في البحرين، والتي تعود للحقب الدلمونية. وقد كان سكان هذه المستوطنات يقومون بدفن موتاهم، في المناطق المجاورة لمستوطناتهم، إلا أن طبيعة الأرض الصخرية في هذه المناطق، فرضت قيوداً معينة على الطقوس الجنائزية وطرق حفر القبور في هذه المناطق. كذلك، فإن أعداد هذه القبور قليلة، مقارنة بالقبور التي اكتشفت في المناطق الأخرى في البحرين، ويرجع ذلك إلى أن هذه القبور تم إعادة استخدامها عبر الزمن، فلم تعد قبوراً دلمونية، بل قبور تايلوس، إضافة لإزالة العديد منها. إن طبيعة الأرض، والموارد المتوفرة، تفرض قيوداً معينة على التطور الثقافي، ومثل ما أثرت في المناطق الشمالية، أثرت كذلك في المناطق الجنوبية في البحرين، فكيف أثرت تلك العوامل في تطور الثقافة في المناطق الجنوبية في البحرين في حقبة دلمون؟. هذا ما سوف نتطرق له في الحلقات القادمة.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً