عقدت «الوسط» ندوة ثقافية بعنوان «واقع الحركة النقدية في البحرين: إشكالات وهموم» أدارتها الزميلة منصورة عبدالأمير وتحدث فيها مجموعة من النقاد والمبدعين وقد أكد الشاعر والناقد الأكاديمي حسين السماهيجي أن الجهود النقدية قليلة بل نادرة. قياساً بأربعين عاماً من الحركة الأدبية، مقدماً في ورقته استعراضاً بانورامياً لأهم المؤلفات النقدية في المنجز الشعري البحريني، فيما ذهب الناقد الأكاديمي في المجال السردي فهد حسين إلى أهمية وجود نص قوي يحفز الناقد على الكتابة، مؤكداً أن هناك نصوصاً تحترمها وتقدّر المنجز الإبداعي فيها وأخرى تحتاج إلى إعادة نظر ومواجهة، داعياً للاهتمام بالنقد التنظيري إلى جانب النقد التطبيقي، أما الناقد زكريا رضي فقد شدد على أهمية إمساك الناقد بمفاصل اللغة والغوص في عمقها. وحول التجارب الإبداعية الجديدة أكد الشاعر قاسم حداد أن معظم هذه التجارب الراهنة تشعرك أنها شبه مكتملة ولا تريد نقداً بل مباركة وإعجاباً، فيما رأى الروائي أمين صالح أن الأصوات الجديدة في النقد: لم تخلق حالة تفاعلية مع كتّاب النصوص. وشهدت الندوة حضوراً من المثقفين والمهتمين بالكتابة النقدية، الذين تداخلوا بأسئلتهم وتعليقاتهم. أقيمت الندوة مساء يوم الأربعاء (28 أكتوبر/ تشرين الأول 2015).
منصورة عبد الأمير: المشهد الثقافي مريض وعلى المثقفين تطبيبه... هذه عبارة اختتم بها الناقد الدكتور فهد حسين ندوة له أقيمت بمركز جدحفص الثقافي حول واقع الحركة النقدية في البحرين، تحدث خلالها عن حالة النقد، ووعي النقاد، ومدى الحاجة إليهم، وأمور أخرى. أيضاً قبل أسابيع نشرت «الوسط» عبر ملحق «فضاءات»، مقالة للناقد أمين صالح، شملت نقداً لما كتب حول فيلم «الشجرة النائمة». المقالة جاءت ضمن ما يسمى بنقد النقد أو نقد القراءات.
بين هذا وذاك، أقصد بين ندوة فهد ومقالة أمين، وجدت أن الكتابة النقدية في البحرين وحركة النقد لدينا، شأنها شأن كثير من الأمور والمجالات ذات العلاقة بالإبداع، بحاجة إلى وقفة صريحة جريئة وصادقة مع النفس قبل أن تكون مسئولة تجاه الآخرين. لدينا جهود نقدية واضحة وراقية، نحتاج لأن نتوقف عندها، وننتقدها أو نقرأها.
للوقوف على هذا الأمر، ولمناقشة المزيد حول الحركة النقدية في البحرين نستضيف مساء اليوم ثلاثة من أبرز ممن كتب في النقد، هم الدكتور فهد حسين والدكتور حسين السماهيجي والأستاذ زكريا رضي، كما نتشرف بحضور نخبة من أبرز المهتمين بهذا المجال وأصحاب الباع في الكتابة النقدية أو القراءات ذات الطابع النقدي.
نبدأ أولاً مع الدكتور السماهيجي وهو الشاعر والكاتب والناقد، من الدراسات النقدية التي نشرت لها «عبدالله الغذامي والممارسة النقدية والثقافية»، قدم أطروحة الدكتوراه في «توظيف التراث الصوفي في الشعر العربي الحديث» وله ستة دواوين شعرية منها «ما لم يقله أبو طاهر القرمطي» و»دم على حافة البياض» وهو آخر دواوينه. وصدر له أخيراً كتاب «الخطب» وهو تحقيق في خطب الشيخ عبدالله السماهيجي البحراني، وصدر عن مركز ابن ميثم البحراني للدراسات والتراث. السماهيجي سيحدثنا عن واقع الحركة النقدية في البحرين: مكانة النقد، وهل ما يوجد لدينا نقد، بحسب التعريف العلمي للنقد، أم أنه لا يعدو كونه انطباعات أو قراءات.
حسين السماهيجي: يشير مقترح الكتابةِ أعلاه، إلى وضعيّة «النقد» في البحرين. ولكنْ، وبغضّ النظر عن الذي تقترحه اللحظة التكامليّة في النظر إلى مجمل المحاور المقترحة من قبل الأعزّاء في القسم الثقافي بصحيفة «الوسط»، فإنّنا نلاحظ أنّ ثمة اتهاماً مضمراً يوجّه إلى الحركة النّقدية في البحرين. ولربّما كان لذلك ما يبرّره. وبغضّ النظر عن هذه الملاحظة، فيمكننا أن نقع على بؤرة هذه المحاور المقترحة من خلال ما تمّ اقتراحه واقع الحركة النقدية في البحرين: مكانة «حالة» النقد اليوم، أين هو النقد، وهل ما يوجد لدينا نقد.
وينبغي علينا كي نكون منصفين أن نضع هذا التساؤل، في هذه اللحظة الفارقة من تاريخنا الأدبي، في موضعه المناسب. فلا يمكن لنا أن نقارب هذا الموضوع إلا من خلال إثارة هذا التساؤل: هل توجد لدينا حركة نقديّة في البحرين؟ هذا السّؤال هو الأكثر إشكاليّة فيما يخصّ ما تعتني هذه الندوة به. أما محور (هل هناك حاجةٌ لتوثيق عملية النقد في البحرين، وهل هناك من قام بهذا الجهد)، فيؤشّر إلى حاجة مستمرّة للقيام بهذا العمل. ولكنْ، بشرط ألاّ يكون منصرفاً إلى مجرّد توثيق للكتابات والأبحاث والإصدارات. نعم، نحن بحاجة إلى التّوثيق النقدي. ولكنْ أيُّ توثيق هذا الذي نحن بحاجة إليه؟ وما الذي نقصده به؟ التّوثيق المتعارف عليه قام به الأخ د.منصور سرحان في كتبه التوثيقية المعروفة. ولكنّ هذا التوثيق، على أهميّته، هو توثيقٌ أوّلي. إنّه يمثّل لحظةَ المقاربة الأولى للجهد النّقدي في البحرين. أمّا ما نحن بحاجةٍ إليه، ما نطمح إلى أن يكون موجوداً باعتباره متجاوِزاً للجهد الرّاصد المحايد. ما يتحسّس مفاصلَ مسارات الجهود النّقدية في البحرين، وطبيعة اشتغالاتها واتصالها بالجهود الأخرى التي تناسلت منها. فهذا كلّه لم يتحقّق حتّى الآن. وربّما كان من الصّعب جدًّا قيامُ هذا اللقاءِ بتناوله. فهذا بحاجة إلى إعدادٍ خاصٍّ يتجاوز ما نحن فيه الآن، على أهميّته الكبيرة. بالنّظر إلى كلّ ما سبق، سأنطلق مباشرة إلى ما أراه جوهر هذا اللقاء، والمتمثّل بالمحور المقترح (واقع الحركة النقدية في البحرين). هذا العنوان المقترح، يخبّئ تعقيدات شديدة في باطنه. وهو عنوان مراوغ جدّاً. فهل لدينا حركة نقديّة أصلاً كي نتكلّم عن واقعها فيما بعد؟
ثمّ، أيّ نقد هذا الذي من المفترض أن نتكلّم عنه؟ هل هو النقد الأدبي وما المقصود به؟ هل هو المعنيّ بالنّصّ الأدبي المتعارَف عليه أم أنّه قابلٌ للتّوسّع ليضمّ تحت جناحيه ما اتّصل به من جانب وحَاوَلَ أن يفترق عنه من جانبٍ مقابل، وهو ما عُرِف بالنقد الثقافي. هل هو النقد الذي تنتجه الجامعة أو المؤسّسات الأهليّة؟ كلّ ذلك يثير أسئلةً من الصّعب، في مثل هذا اللّقاء، القبضُ على أطرافها والوفاءُ من ثَمَّ لما تقترحه من سبلٍ لمعاينة ما نحن بصدده.
ومهما يكن من أمر، فإنّني هنا بصدد التأشير إلى مفاصل رئيسية ومحدّدة جدّاً. وسأعتبرها مجرّد لحظةِ انطلاق لمعاينات قادمة، آمل أن تبصر طريقَها إلى النّور في المستقبل، بمشيئة الله تعالى.
في ما يخصّ الحديث عن «واقع الحركة النقدية في البحرين». وسأسمّيها، هنا، الجهود النّقديّة في البحرين. سأجعل حديثي منصبّاً على حقل الشّعر. وهذا التأطير أو التّخصيص مردّه إلى أنّني معنيٌّ بهذا الجانب بصورة مباشرة. لأنّني مشتغلٌ بكتابته. ولأنّني من النّاحية التّخصّصيّة منصرفٌ إلى هذا الجانب من الكتابة النقدية، وهذا ما كرّست دراستي الأكاديميّة له. ألفت النّظرَ، أيضاً، إلى أنّني - وبغرض مزيدٍ من الضّبط المنهجي - سأجعل كلامي مقصوراً على النتاج المطبوع لمشتغلين بالنّقد من الزّملاء البحرينيّين فقط. وذلك لأنّ الجهود النقديّة في بلدٍ ما لن تتطوّر إلى ما يمكننا تلقّيه على أنّه حركةٌ نقديّةٌ حقيقيَّةٌ إلاّ على أكتاف أبنائها. وقد تستثمر في تطوّرها ما يقدّمه الآخرون من الأشقّاء مقيمين أو ضيوفاً. ولكنّها تعوّل في الأساس على أبناء هذا الوطن. إذ بذلك يتمّ إنتاجُ المعرفة وبلورتُها وتطويرُ رؤاها. وهذا بالطّبع، مع التّأكيد على أهميّة ما ينتجه غيرُهُم على صعيد الوعي والرَّفْد والتّطوير من خلال التواصل والتّلاقح الإيجابي. أمّا النّتاج المطبوع فأشير به إلى (الإصدارات النقدية، التقديمات النقدية لأعمال أدبيّة مطبوعة، بحوث وأوراق منشورة) وسأتجاوز التّناولات المنشورة في الصحافة؛ لأنّها غالباً ما تتّسم بالانطباعيّة والسّرعة وقد نجد مبرِّراتٍ لذلك بلحاظ ما يحكم العمل الصّحافي.
لنا أن نؤرّخ للنقد الأدبي الحديث والمعنيّ بالنّتاج الشّعري في البحرين مع ظهور الحداثة في فضاء الإبداع والكتابة. أي منذ سبعينيّات القرن العشرين وإلى الآن. وهذا الاختيار مبنيٌّ على ظهور هذه النزعة في الكتابة وما ترافق معها. وهو الأمر الذي مَهّد إلى العناية بالجهد النّقدي بسبب ما استشعره أصحابُ النتاج الإبداعي الجديد في تخلّقه الحداثي من ضرورة المنافحة عن هذا النتاج سواءٌ على صعيد التّنظير الرؤيوي لهذه الحركة أو على صعيد تقديم المنجز الإبداعي لها. ولابدّ، إذن، من أن يكون هذا التقديم رصيناً مساوِقاً ومنسجماً مع المستوى الرصين والعالي الذي صعدت إليه الحركةُ الشعريةُ في البحرين في أعمالها المضيئة. ومن جانب آخر فإنّ اختيارنا مبنيٌّ على أساس قيام المؤسّسة الحاضنة التي تُخَلِّق الأسماءَ النقدية بدفعِها إلى الأمام.
ألفت النظر إلى أنّ ما سبق لا يعني المنجزَ النقدي فيما يتعلّق بالمنجز الشّعري الحديث وفقط. بل ينصرف إلى المنجز النقدي ضمن هذه الفترة، ولكنّه ربّما كان مشتغلاً على المنجز الشعري المعاصر أو سواه. أو على نظرية الشعر وما يتّصل بها أيضاً.
إنّ اختيارنا لهذه اللّحظة لا يعني أنّنا نتجاوز المنجزات السّابقة لكتابات نقديّة مهمّة للغاية؛ مثل كتابات المرحوم إبراهيم العريّض. ولكنّ تلك الكتابات، من وجهة نظري، كانت محكومةً بسياقات مختلفة، ومتصلةً بمؤسّسات هي أيضاً مختلفة. وفوق ذلك كلّه كانت قد تخلّقت وتولّدت في بيئة مختلفة أيضاً. وكلّ ذلك لا يسمح بأن نجعلها على صعيدٍ واحدٍ مع هذه الإنجازات التي نشير إليها الآن.
سنقسّم الأعمال النقدية في مجال الشّعر إلى: أطاريح جامعيّة: وهي تنقسم إلى أطاريح تتناول أعمالاً بحرينيّة، وأخرى غير بحرينيّة. أو أطاريح تتكرّس على نظريّة الشعر وما يتعلّق بها. كتب نقديّة: وهي تنقسم، بالمثل، إلى كتب تتناول أعمالاً بحرينيّة وأخرى غير بحرينية. أو كتب تتكرّس على نظريّة الشعر وما يتعلّق بها. دراسات وتقديمات وأوراق منشورة: وهي، أيضاً، خاضعة لنفس التقسيمات السّابقة.
هذا التقسيم يتّسم بالإجرائيّة. وهو ضروريّ لمعاينة هذا المنجز النقدي الذي من المفروض من الناحية النظرية، أن يشكّل الأساس الصلب والمتين للحالة النقدية في البحرين. ومن خلاله يمكننا أن نتقدّم إلى الأمام فيما يخصّ منحها شرفَ التّسمية (الحركة النقدية). لو قمنا بعمليّة رصدٍ أوّلية لتلك الجهود النقدية المبذولة، فسنجد أنّها جهودٌ قليلةٌ بل وربّما أمكن لنا اعتبارُها جهوداً نادرةً قياساً إلى الفترة الزّمنية أي ما يزيد على الأربعين عاماً. فمن تلك الجهود التي شكّلت أساس الجهد النقدي في البحرين: علوي الهاشميّ في نتاجاته المعروفة ومنها ما قالته النخلة للبحر (1981)، يوسف حسن ومنها (من ينابيع البحرين «الوطن في شعر أبي البحر الخطي») (1999)، حسين السماهيجي ومن نتاجاته «قراءة الأنوثة في الأيقونة الأدونيسية «ورقة نقدية ضمن ملتقى عبدالله الغذامي والممارسة النقدية والثقافية»، نشرت في الكتاب الصادر عن إدارة الثقافة العام 2003م، جعفر حسن «عبور الأبد الصّامت» (2001)، عبدالله جناحي، فهد حسين، كريم رضي: نصٌّ في غابة التأويل، 2001م. د.أنيسة المنصور «لمحات إبداعية لشاعر البحرين جعفر الخطي» (2004) وهو بحثٌ منشور في مجلة العلوم الإنسانية بكلية الآداب بجامعة البحرين، د.جليل العريّض «ديوان أبي البحر الشيخ جعفر الخطي» (2002)، د. جعفر مهدي آل طوق: جعفر الخطي حياته وشعره، 2003م. وهو أطروحة ماجستير، نذكرها تجاوزاً باعتبار أنّها في طريقها إلى النّشر إلى الآن كما علمتُ من صاحبها. أودّ أن أشير، هنا، إلى جهدٍ أكاديمي مهمّ ولكنّه غير منشور، وهو أطروحة الدكتوراه التي قدّمتها د.أنيسة المنصور في الجامعة التونسيّة، تحت عنوان (شعر البحرين)، أُنجِز بداية التسعينيات من القرن الماضي. واشتغل هذا البحث على شعر البحرين التراثي. وللأسف، فعلى الرّغم من أنّ الأستاذة الباحثة كانت ولسنوات طويلة عضوَ هيئة تدريس في قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية بكلية الآداب بجامعة البحرين، إلاّ أنّ الجامعةَ لم تُكلّف نفسَها عناءَ القيامِ بنشره. بلْ، والأمر الأكثر غرابة هو عدم وجود نسخةٍ من هذا البحث في قسم الأطاريح هناك. كاظم منصور القيدوم: ديوان أبو البحر جعفر الخطي «دراسة تحليلية أدبية في شعره»، 2014م.
وألفت النظر إلى وجود بعض الأعمال التقديميّة والشّروح، وإن كانت بحاجة إلى متابعة من أصحابها، كجهد د.عبدعلي محمد حبيل في شرح «ملحمة الطف للدمستاني، 1992م» وجهد د. سالم النويدري في «ديوان ديك العرش، 2002م». حيث أخرجه وشرحه أيضاً. وهناك جهود أخرى متفرّقة في بعض المجلاّت لم يتسنّ لنا رصدها لضيق الوقت.
على مستوى الملتقيات النقدية، نستحضر ملتقى (طرفة بن العبد: دراسات وأبحاث ملتقى البحرين، 2000م). وعقد هذا الملتقى على هامش معرض البحرين الدولي التاسع للكتاب سنة 1998م. وشارك فيه من البحرين الأستاذان محمد جابر الأنصاري والمرحوم عبدالجليل العريض. أمّا الملتقى الآخر فهو ملتقى (القصيدة الحديثة في الخليج العربي: أبحاث مهرجان الشعر الثالث لمجلس التعاون لدول الخليج العربي بدولة البحرين، 2000م). وشارك فيه ثلاثة باحثين من جامعة البحرين، هم عبدالقادر فيدوح، عبدالكريم حسن، علوي الهاشمي. ومثل هذه الملتقيات النقدية، على أهميّتها، نجدها غائبة أو مغيّبة عند المؤسّسات الأهليّة، مثل أسرة الأدباء والكتّاب ومركز عبدالرحمن كانو ومركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة وبقيّة المراكز التّابعة له. على أنّنا نستحضر، هنا، بعض ما عملته أسرة الأدباء والكتّاب ومن ذلك برنامج «ذاكرة الحداثة» وملف «الشعر البحريني في التسعينيات». وللأسف فإنّ الظروف حينَها لم تكن مهيَّأةً لإصدار تلك الأعمال ضمن كتب مستقلّة. إلَّا أنّ ملف «الشعر البحريني في التسعينيات» صدر ضمن «كلمات».
ومادمنا في ذكر أسرة الأدباء والكتّاب، فينبغي علينا أن نولي اهتماماً بالغاً لمنجزها الأهمّ «كلمات». فهذه المجلّة وعلى الرغم من كونها صوت الحالة الإبداعيّة الجديدة في البحرين. إلاّ أنّها تكشف عن خللٍ فادحٍ يتمثّل في غياب الأصوات النقدية البحرينية. فبالنّظر إلى أعدادها البالغة واحداً وعشرين عدداً (صدر العدد الأوّل منها خريف 1983م، وصدر العدد الأخير منها والذي يحمل الرقم «21» العام 2004م). في كل تلك الأعداد لا نجد حضوراً لصوت البحرين النّقدي إلاّ من خلال كتابات د.علوي الهاشمي، والذي حضر أربع مرّات في الأعداد (1-2-9- العدد المشترك 10/11). ثمّ سنجد حضوراً لزميلنا المرحوم محمد البنكي في العدد السابع عشر. هذا مع الإشارة إلى تضمّن العدد 20 ملف (الشعر البحريني في التسعينيات). والذي نشر موادَّ كلٍّ من كمال الذيب، جعفر حسن وكريم رضي.
أمّا المجلّة الأخرى التي تتّسم بأهميّة بالغة، فهي «البحرين الثّقافيّة». هذه المجلّة لم تتوقّف منذ أن صدر العدد الأوّل منها في أبريل/ نيسان 1994م. سنتخيّر، الأعداد الاثني عشر الأولى منها كعيّنة. وفيها نجد المواد النقدية التالية، مرتبةً بحسب الأعداد: العدد الثاني: يوسف حسن «النزعات الإنسانية في شعر الصعاليك». العدد الخامس: بدر الدوسري «عتمة النور... قراءة في ديوان سرور»- مبارك الخاطر «مقدمة في شعراء النهضة الحديثة في عمان». العدد السادس: إبراهيم العريض «رباعيات الخيام في تطورها التاريخي». العدد الثّامن: يوسف حسن «قصيدة البياض المفتوح». العدد الحادي عشر: علوي الهاشمي «النص الشعري الجديد في أبعاده التواصلية العامة».
ولابدّ لنا من الإشارة، هنا، إلى كتاب «الحصاد». وهو الإصدار الحولي الذي كان يصدره القسم الثقافي بصحيفة الأيّام بمتابعة واهتمام الصديق علي القميش. هذا «الحصاد» حوّل بعض الموادّ الصحفيّة إلى كتاب. ومن ذلك إصدار 2002م. والذي تضمّن، ضمن موادّه، محورين هما تكريم قاسم حدّاد ورحيل العريّض. ولدينا، أيضاً إصدار 2003م، والذي تضمّن ملف «التسعينيّون».
لو رجعنا إلى هذه الجهود النقدية المبذولة لوجدناها في حدود الخمسة والثلاثين عملاً أو تزيد قليلاً، وأقصد كلَّ ما ذكرتُه أعلاه من كتب أو أطاريح وسواها. وهذا ما أتيح لي رصده، هنا، وربما فاتني ذكر أعمال أخرى. وأشير إلى نقطة غايةٍ في الأهميّة. وهي أنّ ما سبق، ومع إضافة الجهود الأخرى، إنّما يكشف عن وجود خلل فادح في البيئة الحاضنة للجهد النقدي في البحرين. وأنا، هنا، أتحدّث حصراً عن النقد المتعلق بحقل الشّعر؛ وإن كنتُ على قناعة بأنّ ذلك ينطبق على الحقول الأخرى دون استثناء. ومن الواضح، أيضاً، أنّ هذا الخلل تتحمّل مسئوليّته جهاتٌ عدّة. وعلى رأسها جامعة البحرين وبقيّة المؤسّسات التعليمية الجامعيّة الخاصّة، ومعها تأتي مؤسّسات المجتمع المدني المعنيّة بهذا الشّأن.
فيما يتعلّق بجامعة البحرين، فهي تتحمّل مسئولية كبرى في تهيئة البيئة العلمية الحاضنة للطّاقات النقدية. ومن الواضح أنّ ذلك بحاجة إلى وضع خطط رصينة في برامج الدراسات العليا، وعلى صعيد التخطيط للملتقيات النقدية، واستقطاب الكفاءات العلمية الوطنيّة والتي للأسف الشديد قد أقصِيَت عن مكانها الطبيعي، بل وثمّة جهدٌ مستمرٌّ لمنعها من دخول هذه المؤسّسة الأهمّ والمساهمةِ من ثَمَّ في تقديم ما هو في دائرة اختصاصها. إنّني أشير، هنا، بشكلٍ صريحٍ إلى مكمن الدّاء في ذلك كلّه، وهو إدخال كلٍّ من المؤسّسة الجامعيّة والمؤسّسة الأهليّة ذات الاختصاص في دائرة الاستقطاب السياسي/المذهبي منذ بداية التسعينيّات. وهذا نتج عنه غيابٌ شبهُ كلّيٍّ للدراسات المعنيّة بتراث البحرين الشعري التاريخي، وهذا مجرّد مثالٍ ليس إلَّا. وكذلك، غيابٌ كبيرٌ للدراسات المعنيّة بالمشهد الشعري المعاصر في البحرين، سواءٌ عبر أطاريح أكاديمية أو عبر ملتقيات نقديّة خاصّة. وقل مثلَ ذلك، بل أسوأ منه، فيما يخصّ الجامعات الخاصّة. ويتضاعف هذا الغياب بسبب عدم تبنّي جامعة البحرين ممثَّلةً في قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية بكلية الآداب، لطباعة وإخراج الأعمال المتميّزة من هذه الأطاريح. والأمر الغريب حقّاً، هو أنّ جامعةً دشّنت برنامجها للماجستير في اللغة والأدب العربي منذ 1992م ولا تتبنّى طباعة إنجازات طلاّبها العلميّة ونشرها على مدى ثلاثة وعشرين عاماً، أي حتى العام 2015م. ولا تفسير لهذا الأمر إلاّ أنّه إهمالٌ من قبل الإدارات المتعاقبة، أو أنّ ما أنجزه طلاّبها الباحثون لا يرقى إلى أن يكون ضمن منشورات هذه الجامعة؛ أو الاحتمال الثالث وهو عدم وجود ميزانيّة مرصودة لهذا الجانب. ومهما يكن السّبب الحقيقي وراء ذلك، فهو فادحٌ في خطره على مستقبل الحركة العلمية في بلادنا البحرين.
أمّا فيما يتعلّق بالمؤسّسات الأهليّة، فالأمر نفسه يتكرّر. ومع أنّ هذه المؤسّسات بعضها يحاول تقديم ما باستطاعته، فإنّ المسئوليّة الكبرى تقع على عاتق إداراتها التي يجب أن تضع خططاً مستقبليّة للتّعامل مع هذه القضايا الشّائكة والتي تؤثّر على مستقبل هذا الوطن. على أنّنا نأمل أن تتجاوز مؤسّساتنا المهمّة هي أيضاً حالةَ الاستقطاب التي حدثت منذ عدّة سنوات، ونجم عنها شبهُ تعطُّلٍ للحالة الإبداعيّة في البلاد.
وفي الختام، فإنّ ما أودّ التأكيد عليه هو أنّنا وبالنظر إلى كلّ ما سبق، لا يمكننا أن ننظر إلى الحالة النقدية في البحرين باعتبارها حركةً نقديّة. ولكنّها جهودٌ نقديّةٌ فرديّة. يبذل أصحابُها ويضحّون بصورة ذاتيّة للبحث والكتابة والنّشر. ونتيجة لغياب الرّؤى والتّخطيط من جانب، وللبلاء العظيم الذي أصاب البحرين منذ عدة عقود، والمتمثّل بالاستقطابات السياسية/الطّائفيّة الحادّة، والذي تسرّب إلى كلّ المؤسّسات بدءاً من المؤسّسات الأهليّة وختاماً بالمؤسّسة الجامعيّة. فقد تعطّلت المسارات العلميّة الاعتياديّة التي من خلالها يمكن خلق بيئة نقديّة حقيقيّة قادرةٍ على تقديم أعمال علميّة رصينة دون أن تكون رهينةً لما نعايشه الآن من معادلات لا تبني وطناً، ولا تقدّم علماً.
منصورة عبدالأمير: ننتقل الآن لمحدثنا الثاني في هذه الأمسية وهو الدكتور الناقد فهد حسين، المهتم بتوثيق الحركة النقدية في البحرين إلى جانب اشتغاله بالكتابة النقدية، هو أيضاً المنشغل على النصوص الروائية والقصصية. هو عضو أسرة الأدباء والكتاب وله مجموعة من الإصدارات منها الراوية والتلقي، أمام القنديل، وسوف يصدر له قريباً كتاب «مرجعيات ثقافية في الرواية الخليجية». الدكتور فهد سيحدثنا عن مدى مساهمة الناقد في رسم المشهد الثقافي وتأثيره عليه، وعن مسئوليته تجاه هذا المشهد وتجاه الحركة الثقافية.
أي ناقد وأي نقد
فهد حسين: أنا لست موثقاً لحركة نقدية في البحرين، إنما أقوم بالاشتغال على النصوص الإبداعية (الروائية والقصصية نقدياً)، وأبدأ من حيث طرح الأخ الصديق حسين السماهيجي حينما أشار لكثير من الكتب التي كتبت نقداً أو توثيقاً أو تحقيقاً حول المشهد الشعري في البحرين، فما أشار إليه السماهيجي هو ما كتب عن نصوص لشعراء فات زمن طويل عليها، بينما نحن بحاجة كبيرة جداً إلى دراسات نقدية حديثة لما لدينا من شعر حديث، لهذا كيف أدرس جعفر الخطي بينما لدينا شعراء معاصرون سواء من بدأ في السبعينيات أو من بدأ في الألفية الثالثة، أي هل هناك دراسات بحثية أو أكاديمية عنهم، وهنا أتصور أننا نعاني من إشكالية ينبغي لمن يشتغل في النقد أن يقف عندها.
أما بالنسبة إلى شهادتي حول المشهد الروائي أو السردي في البحرين، حينما قلت «إن المشهد الثقافي مريض» قلت هذه الجملة في العام 2012م ونحن نعلم ما جرى في البحرين العام 2011م وتمزّق المجتمع بأكمله، ولكي تحافظ الناس على القراءة برزت مجموعات وفئات منفردة لتقرأ كتباً وتناقشها لوحدها، لذلك أرى أن المشهد لايزال في تشظٍّ، ومن هذا المنطلق قلت عن المشهد الثقافي إنه مريض، أما من الناحية النقدية فالبحرين فيها من يقرؤون على اختلاف مجالاتهم ووعيهم وتخصصاتهم، وهم كثر على المستويات المختلفة الشعري والسردي والمسرحي والسينمائي، عندنا في البحرين مبدعون كثر، إلا أنه من يحتضن هؤلاء المبدعين لا أحد، لا صحافة تحتضن المبدع، ولا مؤسسات أهلية، ولا مؤسسات رسمية إلا ما نذر، فالمبدع يحتاج إلى حرية مسئولة تسمح له بالكتابة والحركة والانتقال والسفر وغيرها، وإلى إمكانيات ليبدع، وفي الوقت نفسه لابد أن يكون موهوباً وقادراً على صنع قدراته، وتطوير مهاراته، فالموهبة وحدها لا تفي بالمنجز في عصرنا هذا، وكما لمبدع النص الإبداعي، فالناقد بحاجة أيضاً لما للمبدع.
مما لاشك فيه أن المعادلة الطبيعية مكونة من ثلاثة عناصر، هي المبدع كاتب النص، النص الإبداعي أياً كان نوعه أو شكله أو حالته، والمتلقي، الذي يتلقى النص، وهذا ما يعنينا الآن في هذه المداخلة، حيث المتلقي وهم القراء، وهنا ينقسم إلى أقسام عدة، قسم ممن يتلقى النص هو قارئ عادي يقرأ النص وكفى من دون حتى مناقشته، فقط رغبته في القراءة، وهناك قسم يتلقى النص بقراءة تتمثل من خلال ثقافته ومناقشته بين الحين والآخر حينما تتيح الفرصة لذلك، وهناك قسم يتلقى النص في إطار وعيه الثقافي والأدبي والنقدي، وهذا أيضاً ينقسم إلى أقسام، هناك من يقرأ النص ويكتب عنه وآخر يقرأ النص لدراسته.
وفي البحرين هناك من يكتب قراءة على النصوص وهي قد تكون قراءة انطباعية، وآخر يكتب تحليلاً ونقداً مبنياً على معرفة أدبية ونقدية، فهل المطلوب هو النقد الانطباعي والصحفي الذي ربما يؤثر على طبيعة النص وكاتبة سلباً؟ أم النقد الذي يحلل ويفكك ويشير إلى بواطن هنا وهناك في النص بناء على دراية علمية ومنهجية بالنص والإبداع والنقد؟ أتصور نحن بحاجة إلى الثاني أكثر بكثير من الأول، وهذا يأخذنا إلى المعني بقراءة النص نقدياً وهم المهتمون بقراءة النصوص الإبداعية من منظور ثقافي ونقدي وأدبي، وهناك الأكاديميون الذين يحملون المؤهلات العلمية التي تؤهلهم لهذا الجانب.
النقد في البحرين ينقسم إلى أكثر من جانب، هناك نقد أكاديمي وهو قليل جداً في الدراسات البحرينية، وأعني من يتناول النص البحريني السردي، ولا أدري لماذا كثير من طلبة الدراسات العليا يتجهون إلى دراسات أخرى غير بحرينية، أو يقوم بدراسة تطبيقية على شعراء أو على أدباء ومبدعين عرب أكثر من التركيز على المنجز الإبداعي البحريني، لا أعرف هل المنجز البحريني ضعيف، هل المنجز البحريني لا يستحق البحث والدراسة، هل المنجز البحريني فيه إشكالية لا يستطيع الناقد أن يفككها، بمعنى آخر لدينا مبدعون بحرينيون كتبت عنهم دراسات أكاديمية من خارج البلد.
من هنا يأتي السؤال، من يكتب النقد في البحرين؟ ومن هم النقاد؟ وما هو النص الذي تسلط عليه القراءة والنقد؟ في البحرين تاريخ لنقد النصوص السردية من خلال الصحافة، ومثل الحراك النقدي الدكتور إبراهيم غلوم سواء في الصحافة أم في دراساته الأكاديمية والبحثية، إضافة إلى بعض المبدعين الذين يكتبون في النقد، كالمرحوم عبدالله خليفة، ومحمد عبدالملك، أما في الشعر فقد برز الدكتور علوي الهاشمي ومنجزه النقدي وتلك الكتب التي أصدرها في مجال الشعر عامة، فضلاً عن تجربة جعفر حسن التي زاوجت بين الكتابة النقدية في الشعر والسرد وأدب الطفل، وكذلك عبدالله جناحي من خلال بعض الأوراق والكتابات في الصحافة المحلية.
وهناك نقد بحسب تلقي النص وتوجد قراءات في الصحافة تشعرك أن من كتبها يمتلك موهبة نقدية أو اطلاع نقدي وهناك قراءة انطباعية وهذه إشكالية كبيرة تؤثر على النص الإبداعي، فحينما يكتب فلان ما مقالة عن عمل إبداعي، ولكن الكتابة تشعرك يقيناً أنها مقالة انطباعية، ألا يسيء هذا للنص أكثر من أنه يؤصل لشكل نقدي أو حالة ثقافية؟. في ذات الوقت نحن أمام إشكاليات كثيرة حول النص نفسه، حينما أشتغل بالنقد أحتاج إلى نص يمتلك المقومات التي تحفزك على الكتابة والاتصال به، وهذا لا يعني أن جميع النصوص الموجودة في البحرين هي بمستوى عالٍ، أو مستوى منخفض. هناك نصوص تحترمها وتقدّر المنجز الإبداعي فيها، وهناك نصوص تحتاج إلى إعادة نظر وإلى مواجهة، وتحتاج إلى أن تقف مع هذا الكاتب وتقول له أنت بحاجة ضرورية لتعيد النظر فيما تكتب. والدليل على هذا ما ينشر على مواقع التواصل الاجتماعي والشبكة العنكبوتية مما يطلقون عليه قصة قصيرة جداً، أو قصيدة نثر، وحينما تقرأ لا تعرف هل هي قصة، هل هي خاطرة؟ هل هي جملة شعرية، كما أن الشعر جعل الكثير من القراء في رغبة بالكتابة الشعرية، أي الكل يريد أن يكون شاعراً، وحينما يكتب فلا يتقن الكتابة الشعرية، فيهرب من كل ذلك ليقول إن هذه كتابة نثرية، وهي إشكالية في الثقافة العربية والبحرين فحسب.
ومع تسعينيات القرن الماضي وإلى الآن برزت بعض الأقلام النقدية الأكاديمية وغير الأكاديمية، كالمرحوم محمد البنكي، والدكتور نادر كاظم الذي اتجه إلى النقد الثقافي، ومع الدكتور علي الديري، والدكتورة ضياء الكعبي المنشغلة بالجانب الثقافي عبر السرد والرواية، وكذلك جعفر حسن وكريم رضي وحبيب حيدر وزكريا الذين يراوحون بين الكتابة النقدية في السرد والكتابة النقدية في الشعر والمسرح. وبرز عبدالإله رضي بانشغاله النقدي في مجال السرديات أيضاً. في الآونة الأخيرة حضرت إلى المشهد الثقافي كل من الدكتورة أنيسة السعدون والدكتورة انتصار البناء عبر الدراسات الأكاديمية، بالإضافة إلى مي السادة، لكن لنقف قليلاً عند النقاد أنفسهم، حيث هناك مشروعات نقدية أتصور موجودة في البحرين كمشروع الدكتور إبراهيم غلوم، والدكتورة ضياء الكعبي في مجال السرد، بل نحن بحاجة إلى مشروعات وليس مشروعين فهل من قام بالدراسات الأكاديمية يقوم على تأسيس مشروع نقدي له؟ أم هي شهادة أخذت من أجل الوظيفة؟ ومع هذا تظهر بين الحين والآخر أقلام في الصحافة تكتب نقداً لبعض الأعمال الإبداعية وقياس هذه الكتابات متوقفة على متلقيها. وفي ذات الصدد نحن حقيقة لا نتعلم من الأجيال التي سبقتنا، لا نقرأ لها لا نتواصل معها لا نحاول أن نعرض نصوصنا، ومن سبقنا له تجارب، نحن بحاجة إلى تواصل وإلى عمل مشترك، ولا ينبغي أن تترك هذه المهمة إلى المؤسسة الرسمية والمؤسسات الأهلية أو الأفراد فقط، فكلنا معنيون ومشاركون، وكلنا مسئولون عن الأزمة النقدية في البحرين.
أما النصوص التي تمارس عليها النقد فهي عادة المجموعات القصصية والروايات، وتبقى الذائقة والدربة وزاوية الالتقاط تجاه النصوص لهذا نجد بعض النصوص فيها من الاستعجال نحو الكتابة والنشر، وهي بحاجة إلى مصارحة من قبل الناقد، هناك نصوص تستحق وتفرض عليها قراءتها والكتابة عنها لما فيها من جمالية ولغة وتقنيات، ووعي ثقافي بالمبنى المتن الحكائيين، وغيرها من النصوص التي تفتقد إلى بعض هذه العناصر مما يعني أن كاتب النص بحاجة إلى الاطلاع والسؤال والتدريب، وهنا أشير إلى أننا في البحرين نفتقد إلى إقامة ورش العمل المعنية بالكتابة الإبداعية.
وحين تنظر إلى التجارب النقدية التي بدأت بالدكتور علوي الهاشمي، والدكتور إبراهيم غلوم، فهي مشروعات نقدية استطاعت أن تبرز الأدب البحريني محلياً وخارجياً عبر المؤسسات الأدبية والثقافية وعبر الصحافة والدوريات، ولكن في الوقت نفسه لا نطلب منهما أن يقدما نقداً حول تجارب الشباب، وهنا أشير إلى كلام ذكره الدكتور علوي الهاشمي في إحدى الجلسات الأدبية والثقافية، حينما سألته لماذا يا دكتور تناولت التجارب الشعرية بدراسات بحثية حتى العام 1986، ولا تكتب نقداً على نصوص جيل التسعينيات والألفية الثالثة؟ قال مباشرة، أنا أؤمن بأن كل مرحلة تصنع نقادها. وما قاله الهاشمي أعتقد أنه صحيح تماماً، فلا أطلب من كتاب الأجيال التي سبقتني أن تكتب عني بقدر ما على الجيل نفسه التفاعل فيما بينه أي بين كتاب النص الإبداعي وكتاب النص النقدي، لهذا نرى قلة العدد الذي يشتغل بالنقد.
وإذا كان الدكتور علوي الهاشمي قليل الإصدار علماً بأن لديه العديد من الكتب حول الحالة الأدبية في البحرين وغيرها، وكما أشار الدكتور حسين السماهيجي إلى منجز الهاشمي وكتابه عن موسيقى الشعر، فهل أُخذ كتاب الهاشمي بعين الاعتبار لدى الشعراء ليعرفوا كثيراً عن عالمهم الشعري؟ وكذلك الدكتور إبراهيم غلوم الذي لايزال متواصلاً بالمشهد السردي والمسرحي والثقافي فهل نتعلم نحن جميعاً مما أنجزه، هنا تكمن المشكلة، فمرض في القراءة التي نحن بحاجة إليها، وليس لهذه المجموعات المنفردة.
نأتي أيضاً إلى مسألة النقد في البحرين فمعظم دراسات النقد في البحرين هي نقد تطبيقي نحن أيضاً بحاجة إلى نقد تنظيري، إذ لا يوجد لدينا نقد تنظيري، نحن لدينا اشتغال على النصوص في النقد الثقافي، واشتغال على النصوص في النقد الأدبي، نحن بحاجة إلى تنظير ينطلق من الاشتغال على نصوص وعلى مفاهيم وعلى حالات وعلى أفكار. نحن نعتمد عادة على الكتب الغربية، والكتب التي تصدر في المغرب العربي أكثر وبعض الكتب التي تصدر في المشرق، ولكن أتمنى أن تبرز حالة في البحرين تكون عتبات أولى في العمل النقدي التنظيري وليس التطبيقي فقط.
أمين صالح: الأصوات الجديدة في النقد لم تخلق حالة تفاعلية مع كتاب النصوص
أمين صالح: عندما اطلعت على عنوان هذه الندوة، الخاصة بالنقد، تبادر إلى ذهني هذا السؤال: هل هناك حاجة إلى النقد؟ هل يحتاج أحد من الكتّاب إلى النقد الآن؟... واقع الحال يقول إن أغلبية الكتّاب الشبان، بل وحتى من سبقهم من الكتّاب، لا يشعرون بحاجة إلى النقد، ولا يعنيهم النقد بقدر ما يعنيهم الإطراء والثناء.
من خلال تجربتي الشخصية، أتذكر أننا في أوائل السبعينات، في بداياتنا ككتّاب، كنا نشعر بالرهبة والخشية من النقد، حتى ذلك الصادر من الأصدقاء، لذلك لم نستعجل النشر، لم نكن نجرؤ على ذلك، لم نقْدم على نشر قصة أو قصيدة إلا بعد أن تحرز إعجاب المحيطين بنا وتشجيعهم لنا. كنا نكتب وفي مواجهتنا ناقد لا نعرف شكله لكنه مخيف ومثير للرهبة. ونعيد الكتابة أكثر من مرة حتى نطمئن.
مع الحركة الأدبية الناشئة آنذاك، نشأت حركة نقدية متواضعة العدد لكنها مؤثرة، وظهرت أسماء في النقد اكتسبت أهمية، وكنا نصغي إليها باهتمام ونتفاعل مع أطروحاتها بالسلب أو الإيجاب. لكن تلك الحركة النقدية سرعان ما أصابها الفتور والكسل، ولم تستطع أن تكتسب أدوات نقدية جديدة بها تواكب النصوص الشعرية والنثرية التي راحت تتفاعل بإيجابية مع المنجزات الحديثة في الكتابة. الكتابات النقدية للأسف توقفت عند المجموعات الأولى من القصص والقصائد في حين كانت النصوص تتنامى وتتطور وتتقدم إلى الأمام. لذلك شعرنا، ككتّاب، أننا لا نحتاج إلى نقد غير قادر على صقل أدواته وتحديث رؤاه.
بعد ذلك استبشرنا خيراً بظهور أسماء جديدة، ذات خلفية أكاديمية، تمارس النقد. وكنا نأمل أن تنتعش الحركة النقدية من خلالهم، لكن اتضح أن اهتمامهم منصبّ على النقد الثقافي وقد اتخذوا موقفاً سلبيّاً ولا مبالياً تقريباً من النص المحلي الأدبي، رافضين أن يكونوا تابعين للنص الأدبي، فمجالهم أوسع وأرحب وأعمق. مع أنه لا يتعارض مع تناول نصوص أدبية، كما كان يفعل رولان بارت مثلاً في تناولاته النقدية. وبطبيعة الحال، حدث ما يشبه الانفصال أو التباعد، واستمرت الفجوة واتسعت.
في السنوات التالية ظهرت أسماء أخرى مهمة في النقد، بدأت تعتني بالنص المحلي، شعراً ونثراً، وتتناوله باهتمام أكثر، لكنها لم تستطع أن تخلق حالة تفاعلية مع كتّاب النصوص، بالذات الأصوات الجديدة، ربما لأن هذه الأصوات لا تشعر بحاجة إلى نقد يكشف ويسلط الضوء على النواقص والسلبيات. ولنا أن نتساءل: من يهتم بالناقد، من يحتاج إليه؟
شخصيا أعتبر النقد إبداعاً لا يقل أهمية أو قيمة. استفدت منه كثيرا، ولا أزال. وأشعر بضرورته. لكن على الكتّاب الشبان أن يشعروا أيضاً بضرورته وجدواه، وعلى النقد أن يجسّر المسافة بينه وبين النص وأن يخلق علاقة إيجابية ومتفاعلة.
نقد النقد
زكريا رضي: رمت الأخت منصورة في يدي الجانب المفاهيمي، فمن سبقني دخل في جانب إحصائي واستقصائي إلى حدّ ما، ولاسيما في مداخلة الدكتور السماهيجي، أما الجانب المفاهيمي فهو مهم لأنه يعطينا ذخيرة مفاهيمية لتناول مسائل النقد. في هذا الوقت المختصر لن نستطيع أن نحصر الأمور المفاهيمية المتعلقة بالنقد بشكل مفصل، ولكن أقف سريعاً عند المحاور المقترحة منها موقف الناقد من المادة الأدبية الأدبية وموقف الآخرين منه، توجد برأيي علاقة ملتبسة بين الطرفين، ولكن فيما أرى بأن الموقف النقدي أساساً يتحدد بالنسبة للناقد من النص ذاته لا من خارجه ولا عنه ولا من حوله، وبرأيي أن الموقف النقدي متى التزم الفنية والعلمية في قراءته النص الأدبي والإبداعي تحددت رؤيته، وأصبح بالإمكان أن يكون لدينا خطاب نقدي وأصبح لدينا مجال لأن يتأسس ذلك أو أن تؤسس تلك الرؤية لرؤى أخرى مقاربة له، باعتبار أن الناقد إذا توجه لنص معين وأعمل أدواته واقترح رؤيته، فرؤيته أيضا تكون نقداً موازياً، وبالتالي تتولد عملية نقد النقد، وعلى العكس متى ما تشخصن النقد، وأصبحت ذات المؤلف من حيث هو حاضرة لدى الناقد قبل شخصه قتل النص، وماتت العملية وأصبحت مسألة شخصية محضة في العمل الإبداعي.
لا يفترض في الناقد أن يقدم إسقاطاته الذاتية على النص بل عليه أن يشتبك باللغة وهذا شغله الشاغل وأن يفهم من خلال اللغة الظواهر الأخرى، أرى أن تجربة النص الجديد ومجالات التجريب في الكتابة الإبداعية نثرياً وشعرياً أوجدت نوعاً مما يمكن تسميته بالظاهرة اللغوية الجديدة. فاللغة الإبداعية الجديدة فرضت نفسها كظاهرة في عملية الكتابة، واستفادت بشكل أو بآخر من المنجز النقدي العتيد الذي ولدته مدارس النقد الحديثة، وفرضت وجودها، وعلى الناقد المتمرس أن يحسن الإمساك بمفاصل هذه اللغة، وأن يعرف من أي زاوية يلج للنص سواء كانت الزاوية ظاهرة أو زاوية ميتة في النص غير ظاهرة، وعلى الناقد أن يلج فيها وأن يذهب عميقاً لأن هذه العملية بحد ذاتها تشكل أسئلة ولادة إلى من سيقرأ التجربة لاحقاً، وقد تشكل أسئلة إلى المؤلف ذاته، والأهم الاشتغال على النص واستنطاقه وإعمال التأويل في الطاقة الخلاقة للمجاز في بناء رؤية نقدية خلاقة ومحرضة لقراءات موازية.
وإذا حضر السؤال أين هو الآخر من كل ذلك؟ فإني أهجس لكلمة الآخر أن هناك عدة أطراف من بينها المؤلف ذاته، والجمهور العام، والقارئ النخبوي، وأرى أن على الناقد أن يسهّل على هذا الآخر عملية وصوله إلى النص الإبداعي، ولكن لا ينبغي عليه أن يقدم جميع مفاتيح النص له، ليفتح بها أبوابه المغلقة بل عليه أن يضع هذه المفاتيح بين يديه ويترك له حرية تجريبها.
في المدخل الآخر في العلاقة بين الناقد والمثقف بشكل عام والكاتب، فلي أن أفترض أن هناك نوعاً من الالتباس بين الطرفين، وعلاقة يشوبها نوع من الندّية أحياناً، وهذا شيء طبيعي ينتج نتيجة التجاور والمعرفة في الفن ذاته موضوع التجربة، وهو مسألة طبيعية أن تكون هناك نوع من المنافرة أو التآلف، ولكن ما أراه أن ناقداً جيداً بمقدوره أن يخدم الكاتب والمؤلف أكثر من الإضرار به وسواء كان النص محرضاً للنقد وللناقد على الضد لخلق رؤية مضادة للمؤلف، أم محرضاً له على الإيجاب ليتبنى رؤية موائمة فهي علاقة متبادلة ومتكاملة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن النص الإبداعي كلما كان غنياً وخصباً وزاخراً بالتأويل كان ذلك عاملاً محفزاً للناقد على أن يعمل أدواته فيه وعلى العكس كلما كان متهالكاً وضعيفاً أعجز الناقد، إلا إذا كان ذلك الضعف في حد ذاته محفزاً للناقد على كشف ضعف هذه التجربة وتهالكها، ستبقى تلك العلاقة بين الناقد والكاتب علماً. وهذه المسافة مطلوبة دائماً لكي يتمكن الناقد من قراءة المؤلف قراءة عن بعد بعيداً عن المواقف العاطفية التي قد يقع فيها الناقد في ضعف مجاملة للمؤلف.
مع وجود محصول نقدي بحريني لا يستهانُ به في مجال النقد في عدة حقول سردياً وشعرياً ومسرحياً وسينمائياً إلا أن المشكلة أن الإنتاج الكتابي يزيد بكثير عن الإنتاج النقدي، مع عدم إغفال الدراسات النقدية التي نهض بها باحثون بحرينيون جدد على صعيد نقد الرواية ونقد الشعر.
بقيت المسألة الأخيرة وهي نقد النقد أوافق ما ذهب إليه الدكتور فهد حسين من الحاجة إلى نقد تنظيري نحن نشكو من غياب نظرية نقدية عربية وهذا في حد ذاته إشكالية طرحت قبل سنوات في ملتقى نقدي في الرياض، فلا توجد نظرية نقدية عربية حتى الساعة وكل ما لدينا مؤسس على منجز نقدي من الشكلانين الروس ومن بعدهم ممن أتوا من مشاريع الحداثة إلى ما بعد الحداثة إلى منتج الحركة النقدية الفرنسية إلى التفكيك إلى السيميولوجيا إلى آخره من تلك النظريات النقدية، فكل ما لدينا هو تطبيقات مشتقة من تلك النظريات الغربية. لا توجد لدينا حتى الآن نظرية نقدية عربية، فمن الطبيعي أن يقف هذا الحراك النقدي إذا كان الناقد يضع مشروعه النقدي لفترة زمنية ثم يقف، فمن سيكمل بعده إذا لم يأت جيل جديد يحمل هذه الأمانة وعملية نقد النقد بطريقة حديثة متناسبة مع هذا العصر ورؤاه فلن يتحرك النقد قيد أنملة وسيقف عند قيد زمني ولن يتجاوزه، لا أقول لا توجد هناك إبداعات في التطبيقات، توجد إبداعات وتوجد جهود حثيثة وبعضها بحرينية أيضاً في الفترة المتأخرة، ولكن لا ترقى إلى عملية النقد التنظيري للآن لم نصل إلى هذا المستوى من النقد التنظيري، بحيث نجد أن هناك مشروعاً نقدياً عربيا يستحق أن يحتفى به، وأن يشكل عملية أساسية ومنهجاً نقدياً أستطيع أن أمشي على هذا المشروع والنظرية كمنهج نقدي لدراسة النص الأدبي، أتصور أن عملية نقد النقد هي عملية مستمرة ومتكاملة وهي بالمناسبة أيضاً قديمة جداً في التراث العربي، فهناك كتاب عبدالقاهر الجرجاني في أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز، ونقده للموروث البلاغي العربي، وهناك على الصعيد الفلسفي ابن رشد في تهافت التهافت في رده على تهافت الفلاسفة للإمام الغزالي، وهي عملية نقد النقد، نحن بحاجة إلى هذه المسألة بشكل ملحّ وأساسي لأن بواسطتها نستطيع أن نجدد أسئلتنا لا على صعيد التجارب الإبداعية فحسب، بل حتى على صعيد أسئلة الوعي بالعالم وبالوجود بشكل أكثر إبداعاً وأن نقدم رؤى جديدة لواقعنا اليومي.
قاسم حداد: «أشار الأخ فهد حسين إلى أي حد تحاول الأجيال أن تحاور التجارب السابقة، وأنا لا أميل إلى قصر الكلام على التجارب البحرينية، فالعالم الآن صار قرية صغيرة، جميعنا نتأثر بما نصل إليه، وحين ينقطع الحوار بعد انقطاع النقاد، كما أشار أمين صالح، يتوقف الحوار بين جيلنا وبين الأجيال الجديدة، فلا يوجد أفق مشترك، ليس بالمستوى الفني فحسب، بل على مستوى الهاجس الإبداعي، ومعظم التجارب الجديدة على صعيد الكتابة ككل تشعرك، بحسب تصرفها، بسرعة اكتمالها، ففي الوقت الذي كنا، حينما نكتب النص، ينتابنا القلق المقيم قبل نشره، لفرط المراجعات والتردد. نلاحظ أن عدداً كبيراً الآن لا يكترث بذلك، وإذا كنا نريد إنعاش هذه التجارب وإعطاءها حقيقة واضحة، لنكن واضحين. معظم هذه التجارب بدون أية كتابة نقدية جادة، تشعر أنها مكتملة، أو أنها تريد أن تشعر بالاكتمال. وهذه مفارقة بين ما كنا عليه وما هي عليه الآن، فعلى رغم جديتنا وحرصنا وقلقنا، فإننا كنا نشعر بحاجتنا إلى النقد وحين نفتقده نسعى إليه. أما الأجيال الحديثة، فعلى العكس من ذلك، على رغم هشاشة ما يكتبون، وركاكة ما يصنعون، وعدم جدية ما يفعلون.
هذه هي المشكلة، ثمة تجارب لا تكترث بالنقد ولا تكترث بالآراء الأخرى. بل تجدها تروّج لما ينشر، وأنا أعرف عناصر وأشخاصاً يكتبون النص وينشرونه بضربة زر الكمبيوتر (كلك)، قبل مراجعته وقراءته الثانية؛ لدرجة أنه بعد نشره، يتم تنبيه الكاتب لخطأ لغوي، مثلاً، فيعيد قراءته وتصويبه. هذا بالإضافة إلى موقف، أو مفهوم التجارب الجديدة، فالنص الجديد هو ما يضيف إلى ما تكتبه وإلى ما يكتبه الآخرون، هذا هو الجديد، وما يبرر نشره. معظم التجارب الراهنة لا تريد نقداً بالمعنى الأدبي للنقد الخالق للإبداع، النقد الصريح والجريء والواضح والمسئول، هي تجارب تريد نقداً يُعجب ويبارك ما تكتب. حتى عندما يتصل بك شخص، يلح عليك طالباً رأياً في كتابته ونشرها، وحين أرحب به، وأعطيه الوقت الكافي، ألاحظ أنه، قي الوقت نفسه، يكون هذا الكتاب قد ذهب إلى المطبعة وإلى النشر.
دعنا من الجانب الأخلاقي في هذا، المهم المسئولية الأدبية. فإذن لماذا يلح ويصرّ عليَّ لأن أقول رأيي؟ هذه السلوكيات موجودة بدرجات مختلفة، وتخلق فجوة حقيقة غير فعالة وسلبية في حقيقتها، وأنا أرى ركاماً من الكتابات واجتهادات ينقصها الوعي. وهناك خفّة حقيقية في النصوص، ما يجعل الإخوة هنا يبحثون عن النقد.
أعتقد أنه لا النقد التطبيقي ولا النقد التنظيري قادران على سدّ الثغرة، فالنقد التنظيري، مثلاً، يأتي إثر التجربة على القراءة العميقة للنصوص، وهذا يستدعي أن تكون هناك نصوص قوية لكي ينشأ النقد، وعندما ينشأ النقد على نصوص قوية حقيقية من هذه التجربة التطبيقة ينبثق التنظير، ولا يأتي التنظير بقرار، بل يأتي نتيجة رؤية وعمل متبلورين في الحركة الأدبية، ويحتاج إلى وعي.
ومثلما قال أمين صالح، النقد الأدبي درجة متقدمة من الإبداع، وهذا أيضاً يتطلب معرفة تضاهي، وربما تزيد على معرفة الشاعر، دون التقليل من ضرورة معرفة الشاعر. وهذا لا يتوافر في المحاولات (النقدية) التي تُكتب مؤخراً بشكل اجتماعي. ثمة نصوص اجتماعية يكتب عنها بوهم النقد، إنما هي ضربٌ من النشاط الاجتماعي. هذا ليس فعلاً جادّاً ولا يدوم. الدليل على ذلك أنه منذ 15 سنة لا تصادف تجربة تقنعك باستعدادها للتبلور.
الكتابة ليست ترفاً ولا هي وسيلة لغايات أخرى، فنحن، كثيراً ما نتكلم عن الإنسان كمناضل، ونقلل من دوره كأديب وككاتب. هذا هو الجارح في الموضوع الأدبي، وهذا هو الذي يفسر ضعف الجانب النقدي في سلوكنا الفكري. الكاتب عندنا لا يريد من الناقد أن يقول له رأياً سلبيّاً في النص، إذا كان ضعيفاً أو يحتاج إلى المراجعة؛ لكي يصلح للنشر. هذا إلى جانب مسئولية الصحافة. أذكر أنه في بداياتنا الأدبية، كان رئيس تحرير الصحيفة، آنذاك، يقرأ ما ننشره في «بريد القراء»، يقرأ نصوصنا، ويجيب عليها ويناقشها ويرفضها أيضاً، في سبيل تقويمها. وهذا ما أشار إليه أمين صالح، من أنه حينما كنا نكتب نصّاً، نشعر بالزهو، لكن نطلب من كل أصدقائنا قراءة وابداء رأيهم فيما نكتب، وأحياناً القراء القريبين منا قبل نشر هذا النص. الآن أرى أن هذه هي المشكلة الحقيقية في بنية الكتابة والنقد عليه. لا نلوم أن النقد يضعف ولا يتطور، بينما نلاحظ أن الكتاب لا يكترثون بما يقال جديّاً في ما يكتبونه؛ لأنهم يريدون المجاملة، أظن أن المسئولية مشتركة بين الشاعر والقارئ والناشر، كل هذه الأشياء يجب أن نضعها في الاعتبار، إذا أردنا فتح الآفاق أمام الكتابة والنقد.
ملاحظة أخيرة، على ما ورد هنا، لا أميل إلى توصيف الكاتب بأنه (بحريني) أو غير (بحريني)، لأن الكتابة الأدبية الآن تعد كل كاتب في البحرين هو كاتب بحريني، وكذلك لو أن كاتباً عربيّاً، ليس في البحرين، كتب عن كتابة في البحرين، فهو بالتالي يحسب إسهاماً أدبيّاً في التجربة البحرينية؛ لأننا نقرأ كل شيء بوصفه أدباً، سواء نحن كتبناه أو كان مكتوباً عن تجربتنا. والدليل على ذلك أن كل الكتب، التي ذكرت قبل قليل، هي بحرينية جغرافيّاً، لكنها لا تنتمي إلينا عصريّاً، ولا تعنينا إلا بوصفها تراثاً، وبالتالي نرى أن كثيراً من النقد (المعاصر) ذهب إلى غير مكانه تاريخيّاً.
منصورة عبدالأمير: ننتقل الآن للمتحدث الثالث وهو الأستاذ زكريا رضي، وزكريا منشغل بالكتابة النقدية، له عدة أوراق نقدية منها «سحق الزعفران»، و «الحوارية المؤجلة»، و «مكر الخطاب» و «الشخصية المرجعية». زكريا سيلقي الضوء على الموقف الذي يجب أن يقفه الناقد من المادة الأدبية والأهم من ذلك سيتحدث عن موقف الآخرين منه، عن العلاقة بين الناقد والكاتب (المثقف)، وعن العلاقة بين الناقد والقارئ إن وجدت. بعدها سينتقل زكريا لمفهوم نقد النقد وحضوره في المشهد النقدي البحريني.
الكتابة النقدية في أهم أشكالاتها
بعد انتهاء عرض الأوراق الأساسية تقدم الضيوف من نقاد ومبدعين ومثقفين بمجموعة من المداخلات، فأشار الناقد في مجال السرد عبد الإله رضي إلى مقولة تشابك المعرفة مع السلطة باللجوء إلى تكريس النقد الأكاديمي والتقليل من دور القارئ العادي في النقد، مؤكداً أن الأزمة ليست أزمة نقد بل أزمة قراءة، فلا تعول على ناقد ينقدك بل على قارئ يفهمك، فيما أشارت الأستاذة الأكاديمية بجامعة البحرين شرف المزعل إلى أهمية القراءة الناقدة وأن الافتقار إليها يسبب أزمة في جميع المجالات، من الاجتماع إلى السياسة إلى الأدب، فأزمة العقل الناقد ليست في الأدب فقط، بينما تساءلت الأكاديمية زهراء حرم عن ماهية النقد الأدبي مجيبة أنه الذائقة والمعيار، مشيرة إلى أن استمرار القراءة وتعزيزها يخلق القارئ العليم وبالتالي الناقد، مؤكدة أن الأدب ليس في الشعر والنثر محيلة إلى أهمية قراءة الخطاب بمعناه العام، بينما ذهبت الأكاديمية انتصار البناء إلى أهمية مثل هذه الجلسات في حلحلة أزمة النقد، مؤكدة أنها أزمة ثقافية، فما يكتب لا يضيف أي شيء، والجيد لا يتجاوز الصفحات، محيلة ذلك إلى عدم وجود نظرية نقدية عربية، فنحن ننقد النصوص بقوالب مستجلبة، حتى صار تطبيق هذه النظريات مكاناً للصراعات الأيدلوجية على المنهج النقدي وليس على النص الإبداعي.
أما القاص عبدالعزيز الموسوي فقد تساءل إذا لم تفضِ هذه الجهود المستعرضة في الندوة من رسائل وأطروحات إلى نقد، فما هو السبب؟ هل ثمة ضعف في التعاطي مع المناهج النقدية، أم السبب في الخلط بين الأدوات التي تعود إلى مدارس مختلفة في النقد، مقللا من أثر المسافة بين قراءة الناقد وقراءة القراء المختلفين.
فيما أكد الروائي عبدالرسول درويش أهمية عدم شخصنة الكتابة المؤدية إلى شخصنة النقد، فيجب على الناقد أن يفصل نفسه عن موقفه من المؤلف، وأن يعمل مقولة موت المؤلف، أما الشاعرة سوسن دهنيم فتساءلت من قال إن الكاتب الحديث لا يحتاج إلى الناقد، نحن نتساءل أين الناقد؟، وأشارت إلى أن ثمة قطيعة بين الأجيال الشعرية في الحضور والاستماع لبعضها بعضاً، بينما أكد المسرحي علي باقر أهمية النقد، متسائلاً: لماذا لا يلتقي المبدعون والنقاد معاً ويحملون على عاتقهم تقديم صورة نقدية مسئولة ومشرفة عن الأدب البحريني بأنواعه المختلفة من مسرح وشعر وقصة ورواية وغير ذلك.
أما الشاعرة جنان العود فأكدت أنه على رغم أهمية أن يكون هناك نص قوي ليوجد نقد قوي، فإن عصر القراءة السريعة والنت والفيس بوك ولَّد هذا التسرع في النشر، وشددت على أهمية ما أسمته بتعبيد طريق القارئ والناقد من خلال إيجاد آليات وشروط أدبية وفنية لعملية النشر لا بد من اجتيازها والتزام دور النشر بها.
أما الناقدة المسرحية زهراء المنصور فأشارت إلى أهمية النقد المسرحي وسياقه المختلف الذي يستند إلى الذائقة والفن معاً، ويعطيك أكثر من جهة للقراءة، ويستفيد من مختلف المناهج النقدية ومختلف الفنون، مؤكدة دور نقد النقد في الاطلاع على المدارس النقدية المختلفة وآراء النقاد الآخرين، وإعطاء الناقد صورة عن طبيعة تلقي نقده.
أما الكاتب محمد أبو حسن فقد تساءل كيف يستطيع النقد الخروج من إطار النص إلى الاشتباك مع البيئة والحالة الثقافية، وماذا نعني بالنقد الأدبي هل هي الحالة الإثرائية للنص من خلال موضوعه أم هي الصيغة التقويمية للنص من خلال المفاهيم والنظريات الأدبية.
العدد 4809 - الجمعة 06 نوفمبر 2015م الموافق 23 محرم 1437هـ