العدد 4806 - الثلثاء 03 نوفمبر 2015م الموافق 20 محرم 1437هـ

بين القيمة والثمن

هناء بوحجي comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

استوقفتني معلومة قرأتها في دراسة بعنوان: «اتجاهات الاستهلاك في الخليج في 2014» تشير إلى أن الماركات العالمية تأتي في مقدمة الهدايا التي يتبادلها الناس في المناسبات كمعيار للتقدير، كما أن 82 في المئة من سكان الخليج يسعون إلى الحصول على الاعجاب من خلال الهدايا القيّمة، ويرون أن ارتفاع ثمن الهدية ينعكس أيضا على صورة ومكانة المهدي.

وبقليل من البحث، يؤكّد تقرير آخر أعدته «استشارات براين أند كو» أن الشرق الأوسط الذي جاء في المرتبة العاشرة في الإنفاق على سلع الرفاهية، وأنه على رغم تراجع الانفاق على هذه السلع في عدد من الأسواق بسبب التراجع الاقتصادي فإنه مرشح للزيادة خلال الفترة المقبلة في الشرق الأوسط وفي دول الخليج تحديداً، والتي تشهد انشاء مراكز التسوق الكبيرة التي تضم الماركات العالمية الكبرى وحددت الدراسة كلاًّ من السعودية والإمارات وقطر لتكون الأولى في مؤشر فرص الرفاهية.

ليس صعبا التحقق مما ساقته هاتان الدراستان، واقعيّاً، إذا علمنا أن دول الخليج أنفقت في 2014، ملياراً و200 مليون دولار فقط على مشتريات العطورات والبخور، بما يعادل 10 في المئة من سوق العطور العالمية، وانفردت السعودية بنصف هذا الرقم.

في دول الخليج، حديثة الثراء، تُرى بوضوح العلاقة العكسية بين الثروة المالية والقيمة الحقيقية للأفراد. فالثروة التي هبطت بشكل كثيف ومفاجئ كانت أسرع من الاستيعاب والهضم التدريجي الذي يظهر في التطور المستدام على الأفراد وبشكل عام، فنشأ جيل استهلاكي صار يبحث عن قيمته في شراء الملابس واقتناء السيارات والساعات والإكسسوارات الأخرى مرتفعة الثمن التي صارت تنتجها الماركات العالمية لهذه البقعة من الأرض، ولحقت بها شركات التقليد بدرجات اتقان مختلفة لتلبية الطلب المتزايد، اعتقاداً من مرتديها أنها تمنحهم القيمة التي قد يفتقرون اليها بمعناها الحقيقي. ولذلك لايزال الكثير من أبناء هذه الشعوب، حتى ممن تتاح لهم فرص تعليمية في مختلف الجامعات المتقدمة، يعودون وقد أنفقوا أموالا طائلة على اتقان مهارات ذات علاقة بالقيمة الشكلية المتمثلة في اتقان أساليب الحياة (الرّاقية) في الملبس والمأكل ونمط المعيشة، ومتكاسلين عن تحقيق الهدف الأساس واكتساب القيمة الحقيقية من الأموال التي أنفقت ثمناً للدراسة والتعليم، كمن يذهب إلى مطعم مرتفع الثمن ويطلب ما لذ وطاب ويكتفي بأكل السلطة تاركا الطبق الرئيس بعد أن دفع ثمنه.

بين القيمة والثمن مساحة كبيرة تدخل فيها وتتشابك عوامل كثيرة تختلف من شخص إلى آخر، من ثقافة إلى أخرى كما تتغير هذه العوامل بتغير الظروف المحيطة بها.

وعلى رغم أن الثمن يأتي معبراً بشكل أو بآخر عن قيمة الشيء أو الشخص أو الفكرة، وكلما كان أي منها نادراً غلا ثمنه وقيل عنه ثمين، سعراً ومعنى، إلا أن القيمة ليست بالضرورة قابلة للقياس بمعيار الثمن، وهذا ما يوهم الأثرياء بالاعتقاد بالقدرة على شراء أي شيء بالمال حتى قيمتهم التي تمنح المعنى من وجودهم أصلاً، فيسعون إلى المال بحثاً عن القيمة في كل ماهو غالي الثمن.

وميّزت العلوم الإنسانية بين معاني القيمة، ففي علم النفس تعتبر القيمة هي الموجّه الأساس والمرشد للسلوك الإنساني، وفي علم الاجتماع تعتبر القيم حقائق أساسية في البناء الاجتماعي، بينما تشعبت الفلسفة في تعريف القيمة بين قيمة ذاتية نسبية يسعى إليها الفرد لتحقيق غاية محددة أو غاية من ورائها، وقيمة مطلقة ثابتة تتخطى الزمان والمكان. أما في علم الاقتصاد فتعرّف القيمة بأنها المقدار الذي تضيفه سلعة أو خدمة ما للأشياء. وفيما يحدد الثمن في الاقتصاد عناصر تكلفة يضاف لها هامش ربح فإن القيمة لها معاييرها التي تتداخل فيها الرغبات وقائمة طويلة من الخلفيات الاجتماعية والنفسية والأخلاقية والسياسية وغيرها.

أحد الأصدقاء يصر على أن الإنسان ككل الأشياء لابد من أن يكون له ثمن يُشترى به مهما يكن عصيّاً على الشراء، فالمُشتري لا يكف يرفع الثمن حتى تتعادل كفتا الميزان. ولا تتم صفقة البيع والشراء إلا إذا اتفق البائع والمشتري بشكل معلن أو غير معلن على أن الثمن أصبح يعادل القيمة أو أنهما اقتربا من بعضهما بما يُرضي الطرفين.

وقد يكون محقّاً في ذلك؛ لكون الإنسان وهو الكائن شديد التعقيد له أولوياته وموازناته بين أموره ومعتقداته وخلفياته التي تكوّنه، ولأن ليس كل من يُشترى يفقد قيمته، فقد تُشترى القيمة كي يضيف صاحبها منها للمشترى. لكن لكثرة ما ارتبط شراء الأشخاص لدينا بتجريدهم من قيمتهم فيما بعد وربما العبث بها وتحويلها إلى شيء آخر، أصبحت صفقات البيع والشراء تثير الشك في نوايا المشتري والبائع على السواء. ولاأزال أتجادل مع هذا الصديق بأن للإنسان وضعه المختلف عما يُشترى من أفكار وأشياء وسلع وخدمات؛ لأن الإنسان يجب أن تكون له قيمة أصلا ويعي أهميتها؛ كي يسعّرها بالثمن المناسب الذي يمكّنه من تعظيم هذه القيمة لو استخدمت في المكان المناسب، ومع ذلك فإن بعض القيم قد لا تخضع لأي قياس، ولا سقف لها لكي تشترى بالمال. ولذلك قيل «لا تعلموا أولادكم أن يكونوا أغنياء بل علموهم كيف يكونوا سعداء، وعندما يكبرون سينظرون إلى قيمة الأشياء لا إلى ثمنها».

إقرأ أيضا لـ "هناء بوحجي "

العدد 4806 - الثلثاء 03 نوفمبر 2015م الموافق 20 محرم 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 9:12 ص

      أغلى ما فيه ملابسه

      حقيقة مرة
      أن يصبح أغلى ما في الانسان ملابسه التي يرتديها

    • زائر 3 | 6:57 ص

      تحية

      مقالاتك مميزة يا هناء

    • زائر 2 | 5:07 ص

      واقع مر

      مع الاسف مع الاسف. عندما يخلو الانسان من الداخل و يكون اجوفا يملأ فراغه الداخلي بالمظاهر الخارجية. اي يتظاهر في الشكل و ينافق في الحديث و يتباهي بالموهومات. مع الاسف الحضيض هو المستقبل. لا يبحثون في تجارب الغير. لا يريدون التعلم. يصحون عند ضرب الرأس بالأساس.

    • زائر 1 | 1:08 ص

      النفس راغبةٌ إذا رغَّبتها * وإذا تُرَدُ إلى قليل، تقنعُ

      لو أن الإنسان رُبي على الاهتمام بجوهره الإنساني ورَبى نفسه على ذلك، لكان تقييمه لنفسه وللآخرين منطقيا موضوعيا بعيدا عن خداع المظاهر الزائفة التي تخفي خلفها سرابا.
      وللنفس أخلاقٌ تدل على الفتى * أكان سخاءً ما أتى أم تساخيا.

اقرأ ايضاً