العدد 4806 - الثلثاء 03 نوفمبر 2015م الموافق 20 محرم 1437هـ

«لحظة المادلين» التي استعاد منها بروست مراحل كاملة... غيَّرت العالم

غلاف رواية «البحث عن الزمن المفقود»
غلاف رواية «البحث عن الزمن المفقود»

لطعم كعك المادلين حكاية تذكُّرٍ عميق. تدخل فيه مراحل تكون فيه الذاكرة جامحة تقبض على التفاصيل. تظل مرتبطة بفكرة الزمن والعلاقة معه. تلك التي قُدِّمت له بفندق وهو على سريره ينتظر الفطور. أرجعته الكعكة المغموسة في الشاي بعد أن لامست حلْقه إلى تفاصيل ولحظات من طفولته، والمكان الذي نشأ فيه (كومبراي). يتذكر ذلك وصْفاً، بأنه لمجرد أن رأى قطعة المادلين، انتابه شعور بأنه عاش اللحظة نفسها من قبل، يُعْمِل آلة تفكيره، وينشِّط ذاكرته ليستعيد مرحلة بتفاصيلها من خلال ذلك الطعم الذي ذكّره بعمته حين كانت تقدمها إليه في الصباح مع الشاي حيث كان يقضي عندها الفرص والعطل الصيفية. حضرت في الجزء الأول من سباعيته «البحث عن الزمن المفقود»، «إلى سوان»، وهي الرواية نفسها التي كان مقرراً لها أن تنشر العام 1913 غير أن رفض العديد من الناشرين لها حال دون ذلك. وبعد أن قدمت الرواية إلى الأديب الفرنسي أندريه جيد لمراجعتها كتب إلى بروست قائلاً: «كل الذين رفضوا نشر هذه الرواية ملزمون بتقديم الاعتذار عن الخطأ الذي وقعوا فيه، وتقديم التهاني إلى بروست فلعدة أيام كنت لا أستطيع وضع الكتاب من يدي».

انتماؤه للطبقة الوسطى دفعه لكشف وتشريح شخصيات من الطبقة الأرستقراطية لكن ذلك لم يحل دون أن ينتخب شخصياته من الطبقات الدنيا، الخدم على سبيل المثال. أمر آخر، يمكن ملاحظته بجلاء، وهو تصدّي بروست للقضايا الحقوقية في وقت مبكّر وفي فترة مضطربة من تاريخ فرنسا بدفاعه الشهير مع مجموعة من أدباء عصره عن اليهودي ألفريد دريفوس (وهو المنتمي إلى الروم الكاثوليك) التي كان لها تأثير في إرباك فرنسا العام 1890، بعد اتهامه ظلماً بالخيانة. كان مشغولاً بموضوعات الحب في كثير مما كتب. يظل يراه «المسافة التي نقطعها خلال وقت يقاس بوحدة القلب».

وهو الذي عانى مرضاً جعله طريح الفراش لسنوات حتى وفاته لم يتردد في القول: «يمكننا فقط أن نشفى من الألم حتى نقاسيه إلى نهايته».

وظل يرى بعيون متجددة في رحلة بحثه عن الحقيقة: «الرحلة الحقيقية ليست في أن ترى طبيعة جديدة، بل في أن ترى بعينين جديدتين». كثيرون يَرَوْن أن بروست لم يكن بحاجة إلى كعك المادلين كي تكون ذاكرته خارقة، وكي يكون الطعم مدخله إلى إنجاز واحد من أعظم الأعمال الإبداعية في تاريخ الأدب الإنساني؛ لكن الطعم هو تماماً مثل الشرارة التي توقد الهامد من المكان والحياة أيضاً. يكفي أنه قدَّم «البحث عن الزمن المفقود» الذي تمكّن كثيرون من اكتشافه والقبض عليه.

سيمون هفر، وتقرير في صحيفة «التلغراف» في عددها بتاريخ 27 أكتوبر/تشرين الأول، نورد أهم ما جاء فيه، مع هوامش وتوضيحات ارتأى المحرر ضرورتها.

فاغنر... بروست

عمل مارسيل بروست يقارب واحداً من الأعمال التي حظيت باحترام كبير أنجزه ريتشارد فاغنر (مؤلف موسيقى وكاتب مسرحي ألماني، ولد في لايبزغ، ألمانيا العام 1813، وتوفى في البندقية بإيطاليا العام 1883): كلاهما صنع واحداً من الأعمال الشهيرة على مستوى العالم بذلك العمق الممتد على نطاق واسع، العمق الذي يدفع الناس إلى التردُّد في استكشافهما. لا يجب أن يكون التعقيد عائقاً أمام الفضول الفكري، وخصوصاً مع إمكانية تحقق المتعة والاستنارة، اللتين يمكن أن يمنحهما فنانان بحجم بروست وفاغنر. فاغنر أنجز نحو 16 ساعة من الدراما والموسيقى في أربع أوبرات منفصلة، وهي واحدة من أعظم الإنجازات في تاريخ موسيقى العالم، وهي أيضاً واحدة من أكثر الأعمال التي لاقت مكافأة وتقديراً. وبالمثل، فإن سلسلة رواية «البحث عن الزمن المفقود»، وبشهادة نقاد وجدوا فيها واحدة من أعظم الأعمال من حيث لغتها وعوالمها، في كل العصور. بدأ بروست كتابة سلسلة الرواية التي تتكون من سبعة مجلدات في العام 1909 بالفرنسية، وبلغ مجموع صفحاتها نحو 3200 صفحة؛ حيث تترك سلسلة الرواية للقارئ الفهم المتغيّر لطبيعة الواقع، والعلاقات البشرية والتصورات.

كان وقتها بروست في الحادية والخمسين من عمره. بمعنى ما كان أحد ضحايا الحرب الفرنسية البروسية التي وقعت ما بين العام 1870 و 1871: ولد في وقت لم يمضِ عليه زمن طويل بعد رفع الحصار عن باريس، ولم تسهم ثروة أمه الكبيرة في مواجهة تلك الظروف العصيبة، للعثور على ما يكفي من الغذاء للحفاظ على حياتها أثناء الحمل. ولد طفلها ببنية ضعيفة وكانت هنالك خشية من ألاَّ يتمكن من العيش.

ارتداء مجموعة من المعاطف

عانى طوال حياته من اعتلال في الصحة. في السيرة الذاتية لبروست، التي كتبت منذ أكثر من نصف قرن، يضمّن جورج بينتر السيرة، حكاية حفل زفاف شقيق بروست (روبرت) في العام 1905؛ إذ قرر روبرت أن يتزوج في الشتاء، ورأى بروست في التوقيت احتمال أن يجعله فريسة لجميع الأمراض في باريس. ولضمان ألا يتعرض إلى نزلة برد اتفق مع خيَّاطه أن يصنع له مجموعة من المعاطف، لبسها واحداً فوق الآخر وبدا تماماً مثل دمية روسية، ما جعله ضخماً بتلك المعاطف، لدرجة أنه لم يتمكن من الاستواء في جلسته في المكان الذي خصص له محاذاة ممر في الكنيسة. للمفارقة، هذا النوع من الحساسية السخيفة هي التي جعلت منه روائياً عظيماً. روايات تصور العالم الذي نشأ فيه.

كان والده أحد الأطباء الأكثر نجاحاً في فرنسا، وتم تكريمه للجهود التي بذلها في هذا الحقل. يكفي أن نعرف أنه اخترع الحاجز الوقائي - حلقة من الحجْر الصحي حول المنطقة المصابة - ما ساعد على منع انتشار وباء الكوليرا: اللعنة التي أصيبت بها جميع المدن الأوروبية في أواخر القرن التاسع عشر.

ينتمي بروست إلى الطبقة الوسطى التي لها علاقات اجتماعية مع الطبقة الأرستقراطية والنخبة الفنية في باريس، وعندما بدأ مارسيل نشر رواياته قبل الحرب العظمى، تضمنت شخصيات كانت حاضرة ضمن دائرته، سعى إلى التعريف بها من بين عديد الشخصيات. بعض تلك الشخصيات أعرب عن غضبه للأوصاف التي تناولها بروست، وشعر آخرون أنهم جرحوا لأنه لم يأتِ على ذكر لهم.

كانت رواياته مؤثرة بشكل كبير على الكتَّاب في جميع أنحاء العالم، ذلك أنها تضمنت فكرة الكتابة عن «تيارات الوعي».

ومن خلال راوي بروست الذي له موطيء قدم في كل مكان، فإن رواياته تتابع بقدر كبير من التفصيل ليس فقط من خلال ما يمكن النظر إليه أو معاينته، ولكن أيضاً من خلال ما تم تذكُّره من خلال أولئك الرواة، والروابط المتكررة والمستمرة بين الإدراك والذاكرة. حتى أولئك الذين لم يقرأوا رواياته على بيِّنة من رحلة الذاكرة تلك التي يذهب من خلالها الراوي لتذوق كعكة الماندلين المغموسة في الشاي؛ حين شعر بأنه «عاش هذه اللحظة من قبل».

بروست المدافع عن الحقوق

بعض سيرتدع عن قراءة عمل من هذا القبيل بطوله الهائل الذي يبدو أنه يحوي القليل من التأثير: ولكن التأثير ثابت، وتم وصفه في أدق التفاصيل. دراسة شخصيات - ليس فقط الأرستقراطيين المتغطرسين؛ ولكن أيضاً الشخصيات السخيفة من المتباهين؛ علاوة على الذين هم ضمن وظائف الخدم، وفي سلسلة الرواية منارات من التَّماس مع حالات الحنوّ والإنسانية، في عالم يبدو في كثير من الأحيان قاسياً وغير إنساني؛ ومثل ذلك التناول يظل لافتاً للنظر. الفترة التي كتب عنها بروست كانت شديدة الاضطراب في فرنسا، مع واقع شهد نسبة عالية من المواليد في عالمه المفكك بعد سقوط النظام الملكي البونابرتي في العام 1870.

هذا الحدث العصري المميز في فرنسا، وقضية محاكمة الفرنسي اليهودي ألفريد دريفوس، التي كان لها تأثير في إرباك فرنسا العام 1890، بعد اتهامه ظلماً بالخيانة؛ حيث تصدَّى للقضية عدد من الكتّاب والعلماء والفنانين؛ وكان بروست من بينهم إلى جانب إميل زولا، جول رينار، جورج سوريل، كلود مونيه، أناتول فرانس، وإميل دوركهايم؛ حيث طالب زولا في رسالة بتبرئة دريفوس الذي اعتبره ضحية مؤامرة معادية للسامية، والدعوة إلى إعادة محاكمته؛ علاوة على كل ذلك، نحن إزاء تميز في السرد لا يمكن لذائقة أن تضرب صفحاً عنه.

كانت والدة بروست يهودية، على رغم أنه نشأ على ديانة الروم الكاثوليك، إلا أنه اتخذ موقفاً خارج انتمائه الديني دفاعاً عن دريفوس: لكن روايته لم تخلُ من الملاحظات المعادية للسامية. خلاصة روايته في الحرب العظمى، تصوِّر العالم كما لو أنه عالم آخر تماماً. واحد من الأسباب الكثيرة لقراءة هذه الروايات (السلسلة) هي الصورة التي لا تُنسى برسمها عالماً ستدمره الحرب إلى الأبد.

تمَّت ترجمة سلسلة الروايات إلى الانجليزية مرتين، مرة بعنوان «ذكرى الأشياء السابقة»، في الفترة ما بين 1922 و 1931، من قبل سكوت مونكريف في ستة مجلدات، بينما ظهرت ترجمة في سبعة مجلدات بعنوان «الموت قبل الانتهاء من الماضي»؛ وتم تنقيح الترجمة فيما بعد من قبل مونكريف نفسه، وبتغيير في العنوان «البحث عن الزمن المفقود»، وهو العنوان الذي جعلها أكثر حرفية وإلهاماً. وإذا كنت تتحدث الفرنسية اقرأ السلسلة بنصها الأصلي، لأن فرنسية بروست واضحة وجميلة على نحو خارق. قد تستغرق منك القراءة شهوراً، ولكنها ستمنحك شعوراً من شأنه أن يغيِّر نظرتك بشكل تام عن الحياة.

ضوء

ولد مارسيل بروست لعائلة غنية في 10 يوليو/تموز 1871، وتوفي في 18 نوفمبر/تشرين الثاني 1922. روائي فرنسي عاش في أواخر القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين. درس القانون والأدب. من أبرز أعماله سلسلة روايات «البحث عن الزمن المفقود»، والتي تتألف من سبعة أجزاء نشرت بين عامي 1913 و1927، وهي اليوم تعتبر من أشهر الأعمال الأدبية الفرنسية. تستعرض كتاباته تأثير الماضي على الحاضر. وصفه غراهام غرين بـ «الروائي الأعظم في القرن العشرين»، أما جورج سومرست موم فأطلق عليه لقب روائي الخيال الأكبر «حتى الآن». كان بروست ناقداً ومترجماً واجتماعياً أيضاً.

ارتباطاته الاجتماعية جعلته يرتاد غرف الضيوف الفخمة لدى النبلاء. قام بروست بكتابة عدد من المقالات للصحف الباريسية. نشر أيضاً القصص مثل «المتع والأيام» (1896). عانى من مرض الربو منذ طفولته، وأصبح مبتعداً عن المجتمع مع حلول العام 1897، بعدما ازدادت حالته الصحية سوءاً. كما أثَّرت وفاة والدته في العام 1905 على جعله أكثر انعزالاً.

توفي قبل أن يتمكن من استكمال تنقيح مشاريعه والمجلدات الثلاثة الأخيرة التي نشرت بعد وفاته، وحررها شقيقه روبرت.

مارسيل بروست فترة شبابه - صورة لبروست تعود إلى العام 1887
مارسيل بروست فترة شبابه - صورة لبروست تعود إلى العام 1887
كعك المادلين
كعك المادلين




التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً