لم يقتصر التلاقح الفكري على نطاق الفلسفة بل شمل الرياضيات ومنهم اقليدس الصوري (من مدينة صور) وهو «صاحب المدخل المشهور إلى علم الهندسة المعروف بكتاب الأركان، وصاحب كتاب المعروضات، وكتاب المناظر، وكتاب تآليف اللحون، وغير ذلك» (ص86). وشمل التلاقح علوم رصد حركات النجوم والكواكب و»منهم ميطن وأفطيمن الراصدان للكواكب بمدينة الاسكندرية من بلاد مصر وكانا قبل بطليموس بخمس مئة سنة وإحدى وسبعين سنة» (ص88). وبطليموس هو صاحب كتاب المجسطي الذي أثر على الفضل بين حاتم التبريزي ومحمد بن جابر البتاني (ص91).
على هذا المنوال يقرأ صاعد الأندلسي تاريخ الأفكار من الهند إلى اليونان ومن اليونان إلى مصر وصولا إلى العرب وبدء الفتوحات الإسلامية ومباشرة الترجمة والتلاقح ابتداء من عهد حفيد معاوية (خالد بن يزيد بن معاوية) في العصر الأموي إلى عهد المأمون في العصر العباسي وانتهاء إلى عهد الحكم في العصر الأندلسي (الفترة الأموية). وتم خلال المجرى الزمني المذكور نقل الأفكار وتبادلها من الهند وفارس وبلاد اليونان إضافة إلى احتواء الأفكار واستيعابها من بلاد الشام ومصر، وتشكلت من مجموعها منظومات فكرية اشتملت على مختلف حقول المعرفة. فالعلوم برأي صاعد تطورت على مراحل وجاءت من مصادر مختلفة لذلك ينتقد كل من هاجم كتب الأوائل لأنه من دونها كان الإنسان يعيش في الجهل وأقرب إلى حياة البهائم. وبرأيه أن أهم ثلاثة كتب لعبت دورها في تطور الأفكار حتى تاريخه هي: كتاب المجسطي لبطليموس الذي يبحث في هيئة الفلك، وكتاب أرسطو في علم المنطق، وكتاب سيبويه في علم النحو. فهذه الكتب التأسيسية ساهمت في دفع العلوم نحو التطور في مجالات مختلفة شملت الجغرافيا والمنطق واللغة.
اعتمد صاعد في دراسته لطبقات المعرفة عند الأمم على مصادر إسلامية محددة تخصصت في تأريخ العلوم وانتقالها وترجمتها فأكثر من الاستشهاد بها لأنها معنية بموضوع بحثه فاستخدم مؤلفات البلخي والهمداني والخوارزمي والمسعودي والكندي وحنين بن اسحق والفارابي والرازي (الفيلسوف) لتنظيم معلوماته. واستقى أخبار مصر قبل الفتح من كتاب الوصيفي، وأخبار العرب قبل الإسلام من مؤلفات هشام بن محمد الكلبي عن الأنساب والقبائل إضافة إلى كتاب المعارف لابن قتيبة، واستفاد من بعض القصائد لشعراء من الفترتين الجاهلية والإسلامية فيها إشارات إلى العادات الاجتماعية. لكنه مثلا لم يذكر الطبري كمصدر لكتابه لأنه لا يخدمه في قراءة فكرة التطور في حقلي المعرفة والعلوم واكتفى بالإشارة إليه عرضا في سياق مقارنته بابن حزم من ناحية كثرة كتاباته وضخامة مؤلفاته.
أهم محتويات كتاب صاعد دراسته الطويلة عن تاريخ الأفكار عند العرب وتطورها وصولا إلى يعقوب بن إسحق الكندي (توفي 260 هجرية873م) الذي يعتبره «فيلسوف العرب» ويرى أن كتبه في المنطق غير نافعة «لأنها خالية من صناعة التحليل التي لا سبيل إلى معرفة الحق من الباطل في كل مطلوب إلا بها» (ص136). وبعده أحمد بن محمد السرخسي (توفي 286 هجرية899م) وهو تلميذ الكندي وله مؤلفات في الموسيقى والمنطق «وغير ذلك حسنة العبارة جيدة الاختصار» (ص137). وهو يعتبر محمد بن زكريا الرازي (توفي 320 هجرية932م) من تلامذة ابن ربن الطبري وأحد المهرة «في علم المنطق والهندسة وغيرها من علوم الفلسفة (...) إلا أنه لم يوغل في العلم ولا فهم غرضه الأقصى فاضطرب لذلك رأيه وتقلد آراء سخيفة وانتحل مذاهب خبيثة» (ص137).
يمتدح قاضي طليطلة فلسفة محمد بن نصر الفارابي (توفي 339 هجرية950م) فهو «فيلسوف المسلمين بالحقيقة» إذ شرح الفلسفة وكشف غامضها و»جمع ما تحتاج إليه منها في كتب صحيحة العبارة لطيفة الإشارة منبّهة على ما أغفله الكندي وغيره من صناعة التحليل وإيحاء التعاليم» (ص138). وعاصر الفارابي متى بن يونس الذي عاش في بغداد في خلافة الراضي واعتمد على كتبه العلماء في دراسة علم المنطق «لقرب مأخذها وكثرة شرحها» (ص140).
يتوقف صاعد عند الفارابي كأهم فيلسوف مسلم إلى زمانه كما توقف عند ارسطو كأهم فيلسوف يوناني وينتقل إلى دراسة أفكار من اشتهر بأحكام بعض أجزاء الفلسفة. فالفلاسفة عنده ينقسمون إلى نمطين: فهناك من اهتم بكلية الفلسفة وكتب في مختلف فروعها كالكندي والرازي والفارابي وهناك من أهتم بأجزاء منها ويعدون بالعشرات، قام بذكر المشاهير منهم وصولا للحديث عن مدارس الأندلس وتياراتها الفكرية إلى العام 460 هجرية (1067م).
على رغم دقة قاضي طليطلة في متابعة التفاصيل تاه عن ذهنه العديد من الأسماء. فهو مثلا لم يذكر ابن سينا (توفي 428 هجرية1036م) على رغم شهرة الأخير وحضوره الفكري وتأثيره على رجال عصره وأسبقيته على ابن حزم. كذلك لم يأتِ على ذكر المعتزلة ومؤلفات قادة فرقها إلا في سياقات عارضة، ولم يشر إلى السجال الفكري الثري فلسفيا وفقهيا بين فقهاء وعلماء الإسلام وكان له صداه الكبير في المغرب والأندلس. كذلك تجاهل كتب «أخوان الصفا» وما أثارته من ردود فعل ومواجهات كلامية في المشرق ولم يذكرهم إلا في سياق عرضي حين تحدث عن رحلة الكرماني (عمرو بن عبدالرحمن بن أحمد بن علي) وهو من أهل قرطبة «وأحد الراسخين في علم العدد والهندسة» إلى ديار المشرق وانتهى «منها إلى حران من بلاد الجزيرة وعني هناك بطلب الهندسة والطب ثم رجع إلى الأندلس واستوطن مدينة سرقسطة من ثغرها وجلب معه الرسائل المعروفة برسائل أخوان الصفا، ولا نعلم أحدا أدخلها الأندلس قبله» (ص172).
يبدو من ملاحظات صاعد على الفلاسفة أنه ليس مطلعا كفاية على كتبهم بل قرأ عنها في الكتابات السجالية أو التي أرخت لتطور الفكر وتتابع حلقاته في العالم الإسلامي وجواره. وإشاراته النقدية ليست دليلا على اكتمال تحصيله العلمي في هذا الحقل بدليل جهله لمنظومات فرق المعتزلة واختلافها عن بعضها وعدم معرفته بفحوى رسائل أخوان الصفا فاكتفى بالإشارة إلى وصولها بلاد الأندلس.
تختلط المسائل الفلسفية في ذهن قاضي طليطلة كما اختلط عليه التقسيم الجغرافي للحضارات بالتقسيم الأقوامي والقبلي إلى مسائل خلط اللغة بالأخلاق وأدخالها بالدين. ولهذه الأسباب احتار في تنظيم معلوماته وضاع بين منهجين: أما اتباع التسلسل الزمني للحضارات وأما التسلسل الجهوي (من الشرق إلى الغرب) بدءا بالتتابع من الصين إلى الأندلس. وتعقد الأمر معه بعد ظهور الإسلام فباتت هناك حضارات الفرس وبلاد الرافدين والشام ومصر قبل الإسلام وبعده فعزم على اتباع التسلسل الجهوي فأسقط الصين من طبقة العلم وانطلق من الهند ثم فارس على رغم أنه وضع في تقسيمه الزمني السابق الفرس كأول الحضارات.
لا تقلل الملاحظات من قيمة كتاب صاعد الأندلسي الفكرية والتأريخية فهو استفاد من رسالة أستاذه ابن حزم في تأريخ العلوم في الأندلس وأضاف عليها الكثير. كذلك أسس نظرية تاريخية - جغرافية لنشوء الحضارات وتطورها واتصالها وانتقالها من المشرق إلى المغرب مركزا على مسألة التلاقح والاحتكاك وتأثير الثقافات على بعضها بعضا. كذلك أرّخ نظرية التتابع الزمني لنشوء الفلسفة الإسلامية وهي نظرية تاريخية لاتزال حاضرة إلى زماننا. فصاعد يعتبر خطوة فكرية نوعية إلى الأمام في عصر «أمراء الطوائف» وهي خطوة فلسفية تاريخية ما كان لها أن تقوم لولا القفزة الفقهية الفلسفية التي حققها ابن حزم وأطلقت بعده دورة ثقافية لم تتوقف إلا بعد اشتداد الضغوط الإفرنجية على الأطراف والثغور الإسلامية في الأندلس.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2471 - الخميس 11 يونيو 2009م الموافق 17 جمادى الآخرة 1430هـ