العدد 4803 - السبت 31 أكتوبر 2015م الموافق 17 محرم 1437هـ

رؤية بعمق في الأعمال التركيبية للفنان الأميركي راشد جونسون

«رجال قلقون» يستكشف الهويَّة الإفريقية الأميركية...

راشد جونسون أمام إحدى لوحاته
راشد جونسون أمام إحدى لوحاته

يُحيلنا الفنُّ المفاهيمي (Conceptual Art) إلى منتصف ستينيات القرن الماضي، باشتغاله على «مادَّة العالم بشكل مباشر»؛ وتضمين تلك المادة قيمة/عملية فكرية ما، وفوق ذلك كله، يبتغي وسيلته للتحرُّر من الأساليب التقليدية للفنان، تلك التي تظل مُتوقعة ومنظورة. ابتغاءٌ آخر يتوخَّاه ذلك التوجُّه أو التيار في سعيه إلى أن تصبح «الفكرة هي الهدف الحقيقي للفن بدلاً من الأثر الفني»؛ بحسب إشارة محسن عطية في كتابه «الفنان والجمهور».

الفنان الأميركي من أصل إفريقي، راشد جونسون، واحد من الفنانين العالميين الذين كرَّسوا إمكاناتهم تعميقاً لهذا الجانب من الفن. يأتي العرض الفني الشخصي والأول «رجال قلقون» في منهاتن بنيويورك؛ حيث يقيم، استكشافاً للهوية الإفريقية الأميركية، من خلال مجموعة من الأعمال التي تتوغَّل في حوار ثري مع عدد من الفنانين، واستجلاء أعمال فنية مغايرة.

سيكون المشاهد أمام ما تبدو أنها خربشات رسوم. ورق الحائط يدخل ضمن تكوين العمل الفنيّ، النباتات المنزلية، وحتى الأصوات الصاخبة التي تنبعث من موسيقى تصويرية استلَّها من فيلم «The Watermelon Man»، الذي تم إطلاقه في حقبة سبعينات القرن الماضي.

كاميرون شاو، من صحيفة «نيويورك تايمز»، وتقرير نشر يوم الأربعاء الماضي (28 أكتوبر/تشرين الأول 2015)، تورد «الوسط» أهم ما جاء فيه، مع تصرُّف في تعريف بعض الشخصيات التي أشار إليها التقرير، وإضاءة على فيلم تم الاستشهاد به في سياق الأعمال الفنية التي حواها معرض جونسون؛ علاوة على جانب تعريفي بالفنان.

عرض منهاتن الجديد للفنان التشكيلي الأميركي راشد جونسون يستكشف الهوية الإفريقية الأميركية، في الوقت الذي ينخرط في حوار ثري مع فنانين آخرين وأشكال فنية مغايرة، بما في ذلك العمل الذي يمكن مشاهدته في مكان آخر من المدينة. في ما يأتي جولة بصرية في «رجال قلقون» والتأثيرات والسطوة التي خلَّفها.

نقف عند إشارة جون بيرغر في كتابه «طرق المشاهدة» (لجون بيرغر كتاب آخر بعنوان: «Understanding a Photograph» «فهم الصورة» يتوجَّه فيه إلى محبِّي التصوير، ويتحدَّث عن كيفية تعلُّمه وفهم آلياته)، والتي مفادها، أن معنى الصُور قد تغيَّر، وذلك من خلال ما نراه إلى جانبها. في الفضاء الذي تكون فيه. الإنترنت يُبالغ في إمكانات النظر والتفكير في الأعمال الفنية، مع كوكبة من الصور - تلك التي هي على صلة أو على الضد من ذلك - تظل في مُتناول يدك. ولكن إذا نظرنا على نطاق واسع ضمن العالم الحقيقي (بعيداً عن العالم الافتراضي الذي تتيحه شبكة الانترنت) يمكن أن تكون تلك الصور مجرَّد نتاج.

أعمال من نباتات... تضميد التاريخ!

«رجال قلقون»، معرض للأعمال الفنية لراشد جونسون، في مركز الرسم بـ «سوهو»، ينطلق ابتداء من 20 ديسمبر/كانون الأول 2015، يجمع بين رسومات مُخرْبشة، ورق الحائط المتموِّج، النباتات المنزلية، وأصوات صاخبة تنبعث من موسيقى تصويرية. إنه خروج على الأعمال التجميعية/التركيبية التي عُرف بها جونسون، نقف عليه باقتفاء الحسِّ العالي الذي تم تكثيفه في تجارب سابقة، تُرجعنا إلى المعرض الشخصيِّ لجونسون الذي دشَّنه في متحف الفن المعاصر بشيكاغو العام 2012 وحمل عنوان «رسالة إلى أهلنا». الشقة متميِّزة تلك التي يتم حشْرها بالأعمال التركيبية. وعبْر استدراج العين إلى تلك العيِّنة من الأعمال المسطَّحة، يعمد جونسون إلى ما يشبه تضميد التاريخ ليكشف عن الكيفيَّة التي كانت تُعرض وتُتصوَّر فيها هويات السود.

سلسلة من اللوحات التي عُلِّقت أو تركت بشكل فضفاض، ورسمت بالصابون الأسود والشمع، تظل مُفعمة بالحيوية، أطلق عليها جونسون مسمَّى «الحيِّز الحاضر»، أن تكون رجلاً أسودَ في أميركا: وُسِم وامتاز بالخشية. تبدو الصور حاجة مُلحَّة؛ ربما لطبيعة تلك المراحل التي تعكس جانباً من تفاصيلها، وبحكم المرحلة التي يشهدها السُود اليوم، في مفاصل لا يبدو أن كثيراً من الأمور قد تغيَّرت في واقعهم. لوحات تظل مُقترنة بالضرورة، والقبض على طبيعة الزمن الذي وُجدت هذه اللوحات لتعكسه. يتعامل جونسون في تجربته هذه مع مواد لا تتطلَّب اللجوء إلى الحشْو. الوجوه شبه ممتلئة لدرجة قدرتها على احتواء الإطارات البيضاء، وكأن ذلك التلازم أمر لا مفرَّ منه (بين الوجوه السوداء، والإطارات البيضاء، يمكن لنا أن نقف على بزوغ تاريخ من التحدِّي والصبر والذهاب إلى تقديم مزيد من التضحيات، من أجل يوم أبيض في عالم يُمتهن فيه السُود).

تلغيم الأعمال بالعلامات الثقافية

ثبَّت جونسون اللوحات على خلفية تعود إلى سبعينات الماضي. ورق الجدران تم صنعه من صورة متكرِّرة لوالد جونسون، جيمي جونسون، وموسيقى تصويرية لأغنية ميلفين فان بيبلز «الحب... تلك هي أميركا»، من فيلمه «The Watermelon Man». تلك المعالجة والمزْج تظلان سمَة مشتركة لأعمال جونسون، والذي كثيراً ما يُلغِّم قيمة أعماله بتلك العلامات الثقافية التي لازمته خارج شيكاغو. إلا أن أعماله الجديدة يشُوبها الحزْن واليأس، ويمكن أن تقرأ تلك الأعمال باعتبارها فهْماً شعبياً مختزلاً لهوية الذكور السود.

معرض «أرشيبالد موتلي: جاز عصر الحداثة» في متحف ويتني للفن الأميركي، يُتيح عدسة واحدة نستطيع من خلالها رؤية عرض «رجال قلقون». صور موتلي التي أنجزها في وقت مبكِّر - تتطابق مع صور جدَّته التي تعود إلى العام 1922 - في سعيه إلى أن تعكس بشكل عميق القضايا التي تشغله، كتحدٍ للنمطية في تصوير حياة السُود. كتب موتلي: «آمل بصدق مع التقدُّم الذي أحرزه الزنجيُّ، أن يكون مُمثلاً مستقبلياً بحصته التي يستحق من الكرامة والصدق والنزاهة، والذكاء والفهم». هذا الموقف الجاد نراه يتناقض في أعمال موتلي الخاصة في وقت لاحق، لكن عمل جونسون يمكن قراءة جوهره، باعتباره فشلاً هذه المرَّة - وأكثر من أي وقت مضى - في الوصول إلى الثقافة الشعبية الأميركية.

يشار إلى أن أرشيبالد موتلي الابن ولد في في شيكاغو، وتعلَّم بشكل ذاتي أساسيات الرسم وممارسة أسلوبه. دشَّن معرضه الشخصي الأول في العام 1928 في نيويورك؛ حيث احتوى جانباً من افتتانه بجوانب ومفاصل من الثقافة الأميركية الإفريقية، والتي تضَّنت الموسيقى، الشعوذة، والتصوُّف. بعد فوزه بمنحة زمالة غوغنهايم في العام 1929، سافر ودرس في باريس، وبعد عودته، انضم إلى مدرسة «Ashcan» والتي لم تُكرِّس نفسها لأي عرق.

مسحات... تلطيخات... خدوش جونسون، وخلْطه الصابون الأسود بالشمع، تتيح له تكوين كُتلة مُشكِّلة بقعة ذات تداخل في ثنايا العمل. وبتلك الخلفية المُجْدبة، والبلاط الأبيض، يصعب في بعض الأحيان النظر إلى العمل، مثل شيء مفضوح... مكشوف، وليس مقصوداً أن يسترعي النظر إليه.

معالجة المواد... التاريخ

في الوقت نفسه، يمكن القول، إن معالجة جونسون لهذه المواد، مرتبطة بشكل عميق مع تاريخ اللوحة؛ وخاصة اللوحة أحادية اللون (الأسْود)، وهو تكنيك يُمكن إحالته بشكل أكثر وضوحاً إلى عمل سابق له «اندلاق كوني» وهو سلسلة تم إنجازها بالصابون الأسْود والشمع. يحتوي مشهد «ألبيرتو بوري: صدمة الرسم» بمتحف غوغنهايم، على عديد الأمثلة من لوحات القطران التي أبدع فيها الفنان الإيطالي؛ إذ تكمن تقنيته في توظيفات اللون الأسود، الذي يبدو تحت السطح وبشكل مرئي. يصبح اللون الأسود نوعاً من الاستقراء، مع فروق دقيقة تكاد لا تُدرك، بحيث يمكنه أن يُظهر المبتذل والرخيص في هيئة غنىً، من خلال التكوينات والطبقات، وليس مجرَّد فعل إجرائي لتثبيت النفي أو الغياب.

الرسام الإيطالي ألبرتو بورّي، المولود في العام 1917م، والذي كان أسير حرب في تكساس، تركت تلك التجربة أثرها في توجُّهه وتكوينه واختياره الخامات لأعماله الفنية، وعُرف باختياره لمواد هي أقرب إلى النفايات، والقطع المُهملة.

في المعرض الشخصي نفسه، استخدم جونسون صورة والده التي تعود إلى العام 1977 في أعمال تركيبية سابقة، وهو العام الذي ولد فيه الفنان، تظهره وهو يرتدي زي التايكوندو، وهو رابط الجأش ومنفتحاً، مُتخذاً وضعية الجلوس أمام مجموعة من الكتب والمعدَّات الإلكترونية التي دخلت في تكوين وتصنيع بعض الأعمال النحتية لجونسون، وتقدِّم طريقة لفهم والده كرجل واسع النطاق في ذوقه الشخصي، ورجل مقاومة يعمد إلى تسطيح مُعظم الخوف في عمله «رجال قلقون». تسطيح يضع أولئك الرجال أمام خطر مميت.

الأبيض في تحوُّله إلى اللون الأسْود

صورة جوردون باركس «الفُهود السود»، والتي برزت مؤخراً كجزء من معرض ويتني الافتتاحي، تمثل نقطة تحوُّل بالنسبة إلى «الذكورة السوداء» في وسائل الإعلام. الهوية الجماعية الهائلة للفهود في صورة باركس هي بمثابة مُحصّلات فردية انتقائية استُمدّت من والد جونسون. تم التقاط صورة باركس في العام نفسه الذي أُطلق فيه فيلم «The Watermelon Man»، وهو من إخراج ميلفين فان بيبلز، ومن إنتاج جون بينيت، وكتبه، هيلمان روشير، ومن بطولة غودفري كامبريدج، استل بارسونز، هوارد كين، دورفيل مارتن، كاي كيمبرلي، مانتان مورلاند، وموسيقى ملفين فان بيبلز. تمَّ عرضه في 27 مايو/أيار 1970، وتبلغ مدَّته 98 دقيقة، وحقَّق نحو مليون ومئة ألف دولار في شباك التذاكر في كل من أميركا وكندا. الفيلم درامي - كوميدي، يحكي قصة رجل مبيعات تأمين أبيض (جيف غيربر) في حقبة الستينات من القرن الماضي؛ حيث يصحو ذات صباح ليجد نفسه وقد تحوَّل إلى اللون الأسود. تم بناء فرضية الفيلم استلهاماً من رواية «المسخ» لكافكا، ومن السيرة الذاتية لجون هوارد «أسود مثلي»، أميركي من مدينة دالاس يقوم بتغيير لون بشرته البيضاء، ليعيش حياة السُود، في زمن هيمن عليه التمييز والعنصرية، وغلبة الإهانة في واقع السُود بأميركا؛ حيث غربته... خطواته في شوارع ميسيسيبي، لويزيانا، وألاباما وجورجيا».

«رسالة إلى أهلنا»

يُذكر أن المعرض الشخصي الأول «رجال قلقون»، الذي يُقدِّمه متحف الفن المعاصر في شيكاغو، وهي المدينة التي وُلد فيها الفنان الأميركي راشد جونسون، المقيم حالياً في نيويورك، يأتي بمناسبة الذكرى الرابعة عشرة على انطلاقته الفنية. في المعرض أعمال تمَّت بشكل حاذق ضمن مجموعة واسعة من الوسائط، التصوير، الرسم، النحت، وأشرطة الفيديو. تستحتضر أعماله جانباً من طفولته في أسلوب وصفه بأنه «اختطاف الأليف»، في توظيف يعمد إليه الفنان بتحويل المواد اليومية كالنباتات، الكتب ألبومات التسجيل، الصور، وحتى زبدة الشيا، وهي عبارة عن دهن ذي لون عاجي يُستخرج من جوزة شجرة الشيا الإفريقية عن طريق الكسر والغليان والخلط. تُستعمل بشكل كبير في مُستحضرات التجميل والترطيب والمراهم. وشجرة الشيا أو الكاريتي تنبت فقط في غرب إفريقيا، وتنتج نوعاً من البذور أو المكسرات تصنع منه نساء إفريقيا زبدة تستعمل عندهن منذ آلاف السنين في ترطيب الجسم، كما وظَّف جونسون الصابون لتعميق وتعبئة الناحية المفاهيمية، واستدراج الإقناع البصري، ذلك الذي يتحدّى الطرق الراسخة في النظر إلى تجربة السُود، ومحاولة تأكيد تعدُّدها.

يستكشف جونسون مادية المواد التي يستخدمها في أعماله للتحقُّق من بناء الهوية؛ سواء في الجانب البصري أو المفاهيمي، بممارسة غارقة في التجربة الفردية، في الوقت الذي يقوم فيه باستدعاء المرجعيات الثقافية المشتركة.

في جميع أعماله، يدخل في حوار مع الشخصيات الإبداعية والفكرية الأميركية من السُود، والتأثير الذي أحدثته في الحياة العامة الأميركية. وعمله «رسالة إلى أهلنا» عبارة عن معرض يختبر فيه جونسون مدى تطوُّر عمله على امتداد حياته المهنية التي امتدَّت إلى أربعة عشر عاماً.

ضوء

ولد المصوِّر الاجتماعي السياسي الأميركي من أصل إفريقي راشد جونسون في العام 1977. يتركَّز عمله في إنتاج الفن المفاهيمي لمرحلة ما بعد السُود. تلقَّى جونسون أول اهتمام من قبل النقاد حين تم تضمين نماذج من أعماله في معرض «أسلوب حرّ»، برعاية ثيلما غولدن في ستوديو بمنطقة هارلم العام 2001، وكان وقتها في الرابعة والعشرين من عمره.

درس في كلية كولومبيا بشيكاغو، ومدرسة الفن في المدينة نفسها. تم عرض أعماله في جميع أنحاء العالم، وتحتفظ بعض المتاحف الفنية العالمية الرائدة بعدد من أعماله.

بالإضافة إلى التصوير، حيث بدأ جونسون، يعرض أعمالاً صوتية (معظمها من الموسيقى)، الفيديو وفن النحت. عُرف بتوجُّهه نحو النتاجات الفنية غير العادية، وكذلك الأساليب التي يتبعها. كما عُرف بجمعه علوماً ومعارف مختلفة ترتبط بتاريخ السُود، بحيث تطغى المواد الموظَّفة في أعماله، لتبدو مُستقلَّة في بنية العمل. وصل إلى الترشُّح النهائي لجائزة «هوغو بوس» في العام 2012.

عُرضت أعماله في: معهد الفنون بشيكاغو. متحف ويتني للفن الأميركي بنيويورك؛ معهد ديترويت للفنون. مركز ووكر للفن بمينيابوليس. متحف كوركوران للفنون بالعاصمة (واشنطن)، معهد التصوير المعاصر بنيويورك؛ متحف بروكلين للفنون بنيويورك؛ ومتحف الفن المعاصر في شيكاغو.

نباتات منزلية ضمن تكوين لوحة جونسون
نباتات منزلية ضمن تكوين لوحة جونسون
«رسالة إلى أهلنا» في معرض بشيكاغو
«رسالة إلى أهلنا» في معرض بشيكاغو




التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 2:18 ص

      اشهالهرير

      الواحد اذا بغى يصير فنان وماعنده الموهبة يسوي هالهرير ويقولون عنه فنان

اقرأ ايضاً