العدد 4802 - الجمعة 30 أكتوبر 2015م الموافق 16 محرم 1437هـ

«أبتسم وأمضي بكعْبٍ عالٍ» لنهلة أبوالفتح... أن تصاحب مرضاً

أن تصاحب المرض المزمن الذي تعلم ألّا شفاء منه، وأنه ملازمٌ لك طول عمرك. أن تُماشي صديقاً أنانياً قدمَ إليك ليقاسمك جسدك، وينام ويصحو معك وألزمك بصداقته الغير موعودة ولا المأذونة.

أن تلاعبه، وتضحك معه، وتبحث عمّا يحب ويكره بكل الوسائل المتاحة أمامك. أن تبتسم معه طوال نهارك وليلك. هكذا تتعايش نهلة أبو الفتح مع مرض التصلب العصبي المتعدد، الذي تحكي لنا تجربتها معه في كتابٍ «أبتسم وأمضي بكعب عالٍ» الذي يضم 30 فصلاً، التجول فيها سهل بخطوات سريعة لكنّها تُلزمك بالتفكّر في كلٍّ منها.

أن تفقد الإحساس في أعضاء مختلفة من جسدك، واحداً تلو الآخر. اليوم يدك وبالأمس قدمك، وغد أو بعد غد جوارح أخرى منك. كلّها فِعالُ صاحبٍ مُتهكّم واحد، لا يُعجبه العجب. يُسقط الأشياء من بين يديك أمام الناس ليُحرجك، ويتعمّد إسقاطها من يدك وأنت وحيد ليؤذيك. يمسح من ذاكرتك أسماء الأصدقاء كي تبقى معه وحده، يسرق منك تركيزك وأرقاماً مهمة عديدة، حتى أنّه لا يترك في فضاء عقلك مساحة خالصة لك دونَه فيتجرأ حتى على سلب رقم حذائك من ذلك الفضاء. ويستحوذ صاحب نهلة على الإحساس بأقدامها، فترتدي مراتٍ حذاءً بمقاس يصغرهما وآُخر بمقاس يكبرهما حتى تتورّمان دون أن تلحظ ذلك.

وتتوالى المفاجآت على حياة الكاتبة مع هذا الصاحب الذي يتدثّر كلّ فترة بمزاج مختلف تماماً. وما أن تعتاد على مزاجه الجديد، حتى يسوء مزاجه فجأة، ويبتكر أساليب جديدة في التعامل معها. ومع ذلك كلّه تصمد أبوالفتح إزاء التحديات التي لا تنتهي للصاحب إيّاه. وكما تقول في كتابها «وكأنّي في رهان لإثبات قدرتي على البقاء في مواجهة مرض غريب الأطوار، يفاجئني في كل مرة بموقف جديد»، تستمر نهلة في لين المعشر مع هذا الصاحب الذي لا يعرف للسِلم طريقاً، وتبتسم.

وتشير في أكثر من موقع من سيرتها مع المرض إلى اختلاف التشخيصات له على حسب الطبيب. وكأنها تقول كما يُنقذك طبيب، يقتلك آخر. يُطبّبك أحدهم ويمنحك الأمل ليقطفه منك آخر ويُقعدك مريضاً. ولذلك لم تعتمد كمصابة بالمرض على الأطباء في علاجها، وبحثتْ كثيراً بكل مافي وسعها للحصول على كل المعلومات التي تُسلّحها ضدّ أذاه ومايترك في النفس من آثار. وتقول في الصفحة 49 من الكتاب «وقد وجدت أن العالم بأسرِه يدرك أن الاهتمام بالحالة النفسية تعادل ثلث العلاج وأن الثلث الثاني هو الغذاء، وأخيراً العلاج الطبي! ولكن هنا يعتبر العلاج الطبي هو العلاج الوحيد للمريض، وأن الغذاء والحالة النفسية مجرد متطلبات ثانوية يختارها المريض إن رغب في ذلك». وتذكر أبو الفتح في الكتاب عواقب أخطاء تشخيصية مرّ بها مصابون بذات المرض، فقد أحدهم القدرة على المشي، وآخرون عانوا من صعوبات في المشي والنطق لتأخر حصولهم على الدواء. وغيرهم نزلت بهم مضاعفاتٌ بعد جرعات دوائية، وأنهم بحاجة لدفعات غير منقطعة من الأمل والتفاؤل ليتعايشوا مع المرض دون أن تنتكس حالاتهم، ما جعل نهلة تضخّ للجميع من ابتساماتها المملوءة بالرضا ونصائحها الـمُدعّمة بذكر تجربتها والثقة بالله المعافي. وتقول «من المضحك المبكي أن تعيش في الظلام، واختراع المصباح موجود».

ويرى قارئ الكتاب بصورة واضحة أن الكاتبة لا تبحث عن عطفٍ أبداً، بل تودّ وبكل محبّة أن تبثّ التفاؤل وترسم البسمة على شفاه من يحتاجها، وتُذكّر أن الله معنا، وأن ضوءاً في هذه الدنيا لا ينطفئ مهما طال ظلامها. و ستظل تبتسم وتمضي بكعب عالٍ مسايِرةً لصاحبٍ مُتباهٍ بمزاجاته المبتكرة واختلاسه لإحساسها بقدميها.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 2:53 ص

      بتوفيق انشاء الله

    • زائر 3 | 6:04 ص

      جولة شيقة ومثمرة

      استمتعت بالتعريف بالكتاب وفقكم الله لكل خير...
      عبدالعزيز البدر — السعودية

    • زائر 2 | 5:28 ص

      تستاهل الأستاذة خديجة هارون

      احسنتِ الأختيار استاذة واصلي
      موفقة يا رب

    • زائر 1 | 4:13 ص

      معاني انسانية جميلة

      كلمات تشعر من خلالها بعظمة وسمو الانسان الذي يجابه التحديات ، الانسانية تتجسد عند الابتلاء ، موضوع جميل استمتعت بقراءته

اقرأ ايضاً