العدد 4802 - الجمعة 30 أكتوبر 2015م الموافق 16 محرم 1437هـ

باموك في «شيء غريب في رأسي» ملحمة الحياة في إسطنبول

بائع البوظة: على العاطفة أن تكون في الصوت...

يتجاوز الروائيُّ التركي الحاصل على جائزة نوبل في الأدب العام 2006، أورهان باموك في روايته الصادرة في العام 2014 «شيء غريب في رأسي» عيِّنات وأوساط شخصياته التي غالباً ما تكون ضمن الأوساط الأرستقراطية. يمكن الوقوف على ذلك في روايته «جودت بيك وأبناؤه» التي صدرت في العام 1982. الرواية التي جاءت في 500 صفحة، مشفوعة بملحق لشجرة العائلة الخاصة بالشخصيات، تتوجَّه هذه المرة إلى الطبقات المُهمَّشة. طبقة العمَّال والمهاجرين والوافدين من قرى وبلدات الأناضول، إلى إسطنبول، المدينة التي تضمُّ ملايين من البشر، بحثاً عن إيقاع حياة مختلف ومُريح. بحثاً عن رفاهية ولو كانت عابرة.

تظل الرواية في فضائها الأساس ضمن عالم افتراضي، ولكنه ليس عصيِّاً على التمثُّل والوقوع. وتظل في المقام الأول موَاصَلة لاشتغال باموك على ما أُطلق عليه «ملحمة الحياة في إسطنبول»، بذلك الرصد الدقيق، الذي يتطلَّب منه اشتغالاً بحثياً على أكثر من مستوى يسبق الشروع في كتابة أي من أعماله ضمن هذا المشروع.

دوايت غارنر، كتب مراجعة في صحيفة «نيويورك تايمز»، يوم الثلثاء (20 أكتوبر/تشرين الأول 2015)، ننشر أهم ما جاء فيها؛ فضلاً عن الاتكاء بشكل عابر على عدد من المراجعات.

الكلمة التركية التي تُوصل إلى معنى «ميلانخوليا»: الانقباض وتغلُّب الغم والحزن هي: «Huzun» (نجدها قريبة من العربية من حيث صوتيتها وقريبة بعض الشيء من نطقها: «حزن»)، تتسرَّب إلى كتابة أورهان باموك. موسيقى جاز معيَّنة مستثناة من ذلك الحزن (في التماس الحزن الخفيف، ذلك الذي يتولَّد من السعادة الماضية والأحلام صعبة التحقُّق)، وعلينا ألَّا ننسى أن عدداً قليلاً من الفنانين يستدعون إلى الأذهان حُزناً مَشُوباً بالحلاوة. نعم بالحلاوة دونما كلل.

« شيء غريب في رأسي» هي أول رواية لباموك منذ روايته «متحف البراءة» الصادرة في العام 2009 (5 سنوات كان القرَّاء في انتظار أحد أعماله. طبيعة العمل بحجمه الضخم، والملاحق التي ضمَّته، يمكن أن يفسِّر ذلك الاحتجاب طوال تلك السنوات)، التي تعتبر مُفتتحاً لملحمة صغرى عن الحياة في إسطنبول على مدى نصف القرن الماضي؛ حيث تطفو المدينة على ذلك النوع من الحزن المشُوب بالحلاوة.

اختفاء الباعة الجائلين

ترصد «شيء غريب في رأسي» بشكل رئيسي قصة بائع جائل في شوارع المدينة. الشخصية المحورية تتحدَّد في مولود كاراتاس الذي يجوب أحياء إسطنبول ليلاً منادياً، ومروِّجاً لبضاعته: بوظة... بوظة... بوظة»، المشروب التركي الساخن الذي يدخل في صنعه اللبن، ومرتبط بنظرة رومانسية للحياة العثمانية. المشروب نفسه يحوي نسبة قليلة من الكحول. كأنه بالصيغة التي يتم تقديمه بها، بغلبة اللبن عليه، يكون خارج المساءلة. (في الحديث (‏كل مُسْكر حرام‏)‏‏، باعتبار أن الدِّين يُحرِّم المُسْكر. لكن علينا أن نعرف هنا أن المذهب الحنفي، نسبة إلى أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفيّ (80 - 150هـ / 699-767م) أول الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة، والذي اشتهر بالأخذ بالقياس، له حكم يجوِّز شراب العنب ما لم يذهب بالعقل). تجدر الإشارة هنا إلى أن غالبية الأتراك المسلمين يتبعون المذهب الحنفي، كما أنه المذهب الرسمي في فترة السلطنة العثمانية.

من البوظة ما يتم صنعه من القمح أيضاً، وهي ذات لون أصفر وسميك، وكثيراً ما تعلوه القرفة والحمّص. البوظة بتلك النسبة المنخفضة من الكحول بحسب تعبير إحدى الشخصيات في الرواية هي «اختراع من شخص بحيث يمكن للمسلمين شرب الكحول».

لاحظَ باموك أن معظم باعة البوظة اختفوا من إسطنبول. وفي الفترة ما بين ستينات وسبعينات القرن الماضي، كان «مولود» من بين آخر سلالات بائعي البوظة. قال له أحد الزبائن: «لديك صوت جميل، مثل المؤذِّن» فيردُّ عليه «إنها العاطفة في صوت البائع. البائع الذي يبيع البوظة حقاً».

الرواية ليست مجرَّد قصة «مولود»؛ إذ تتعلق بأصوات مُتعدِّدة، تتصارع فيها لغة الأزمنة، الحيوات التي اهترأت؛ وغالباً ما تكون شخصياتها ظريفة جداً. معظمها أفراد من أسرة «مولود» الممتدة.

يصِلون إلى إسطنبول من القرى الفقيرة في منطقة وسط الأناضول بتركيا. ينتقلون إلى منازل منهارة على مشارف المدينة قبل أن يجرفهم ويقصيهم التحديث الذي طرأ على المدينة، بتلك المباني السكنية الشاهقة، وتُحدِث الإرباك اللازم والطبيعي بفعل ذلك التحوُّل. من تلك الحفنة من الناس، يُثير باموك قضية تدفق أجيال من المهاجرين المكتنزين بالأمل، باتجاه المدينة المزدحمة.

على حافة السرْد

30 عاماً هي الفترة الزمنية التي يتحرَّك فيها فضاء الرواية. تاريخ قصة، أو قصة تاريخ عائلتي أكتاش وكراتاش، التي ترتبط بصلة القرابة من خلال الشقيقين، حسن ومصطفى، ابتداء من هجرتهما في سبعينات القرن الماضي من وسط الأناضول إلى حيين في إسطنبول.

الشخصية الرئيسية في الرواية (مولود)، يترعرع في ظل والده في إسطنبول، بعد التحاقه بالمدرسة، ويهجرها ملتحقاً بالعمل مع والده، ليستقل بعد وفاته كبائع لبن جائل.

للمناسبات صُدَفُها الجميلة والقبيحة أيضاً. قُدِّر في أحد الأعراس، أن يتعلَّق «مولود» بفتاة (سميحة) التي شدَّته عيونها. تمضي الرواية، بمواصلة «مولود» كتابة رسائل الحب لها، لتمتدَّ لسنوات، وصولاً إلى استعدادها لإقامة علاقة معه. جانب من عقدة الرواية يكمن في أن سميحة ليست هي التي ادَّخرها يوماً للوصْل، وعلَّق آمالاً عليها كي تكون رفيقته إلى إسطنبول؛ حيث - كما يتوهم - تتحقَّق الأحلام، بعيداً عن قريته المكتظة بالفقر والبؤس والخيبة. شقيقتها (راحية) هي من سترافقه، وهي التي كانت تتسلَّم رسائل «مولود». هنا يضعنا باموك أمام ابن عمه، كي يفسِّر الخطأ أو الإرباك الذي حدث، ذلك أن سليمان يرغب في سميحة. من هنا تبدأ رحلة الاغتراب والغرابة، لا تنفك تلاحقه على امتداد أحداث الرواية.

يظل الفقر ملازماً له بعد زواجه بـ «راحية»، التي أنجب منها طفلان، لتقضي في المولود الثالث أثناء محاولتها القيام بعملية إجهاض. بتعاقب السنوات، تدور الكرَّة ليتزوج بسميحة. هنا اغتراب آخر، وغرابة أيضاً باكتشافه الفارق الكبير بين الأختين، تلك التي وضعته أمام إرباك انتقاله إلى إسطنبول ولم تكُ هي، بطيبتها، والأخرى التي تمنَّاها بصلفها وكثيرِ عنادها. بين الارتباط بالمدينة وحبه لها، وارتباطه بـ «راحية». في الاثنين يتجلَّى الإرباك وفي صور عديدة.

ترنيمة الفوضى

يتركَّز الموضوع الرئيسي في رواية باموك في ما أثاره بقوَّة في روايته الجميلة «ثلج» التي صدرت في العام 2004، وهو الاضطراب العقلي. الحياة التي تمضي بين مناطق الجذب والاصطراع بين القيم الغربية والشرقية، بين شك العلمانيين والمعتقد الديني. لكن الحياة الروحية لأبطال رواية باموك تظل سطحية، ويتبدَّى ذلك في ذلك التنازع والصراع والتمزُّق بين القرية التي جاءوا منها، والمدينة التي ظلوا تحت سطوتها.

يبقى الكتاب في وجه من وجوهه، ترنيمة لفوضى الحياة بما تتركه من آثار في الجانب البدني والعقلي، كما أنه يريد القول، بأنه ليس بالتجانس يمكن أن يتم فرض الإيمان.

هناك الكثير مما يحدث في «شيء غريب في رأسي»: الولادات في الوقت المناسب، وهنالك الوفيات المفاجئة... الحزازات والاحتيال، كما أن هناك قدْراً من وجعَ القلب. وفي القلب من الرواية، ثمة قصة حب غير تقليدية.

لايزال باموك كاتباً له مكانته المُحترمة، فواحدة من هداياه الكبيرة في هذا الكتاب، ذلك المزيج الواضح الذي يحتوي على كمية كبيرة من الأبحاث، ترتبط بعدد من القضايا، وفي حال تأهُّب واستعداد هو، بتناوله موضوعات ترتبط بالجانب الإنساني بأسلوب نثري لن تجد ما يشير إلى أي شكل من أشكال الخلل أو التداعي فيه.

هنالك استحضار للفترة الذهبية العثمانية، تلك التي تتعلَّق بأطعمة الشوارع، وما بعدها. فيها وصف دقيق، مع عدم إهمال تفاصيل تتعلَّق بالأواني والأطباق. كما يركِّز على بعض الطبقات الاجتماعية، وأنواع الطعام الذي تتناوله، سواء ذلك الذي يتم داخل المنازل، أو خارجها.

ضوء

يُذكر أن أورهان باموك، كاتب وروائي تركي فاز بجائزة نوبل للأداب في العام 2006. من مواليد مدينة إسطنبول في 7 يونيو/حزيران العام 1952، وينتمي لأسرة تركية مثقفة. درس العمارة والصحافة قبل أن يتجه إلى الأدب والكتابة. يُعدُّ أحد أهمِّ الكتَّاب المعاصرين في تركيا، وترجمت أعماله إلى 34 لغة حتى الآن، ويقرأه الناس في أكثر من 100 دولة. في فبراير/شباط 2003 صرَّح باموك لمجلة سويسرية بأن «مليون أرمني، و30 ألف كردي قتلوا على هذه الأرض، لكن لا أحد غيري يجرؤ على قول ذلك».

له عدد من الروايات من بينها: «جودت بك وأبناؤه» (رواية) صدرت العام 1982، «المنزل الهادئ» (رواية) صدرت العام 1991، «القلعة البيضاء» (رواية) 1995، «الكتاب الأسوَد» (رواية)، 1997، «ورد في دمشق» (رواية)، 2000، «الحياة الجديدة» (رواية)، 2001، «اسمي أحمر» (رواية)، 2003، «ثلج» (رواية)، 2004. كما أن له كتاباً واحداً عن حياته حمل عنوان «إسطنبول» (رواية) وصدرت العام 2003، «متحف البراءة» (رواية) صدرت بالتركية العام 2008، وباللغة الإنجليزية العام 2009.

أورهان باموك
أورهان باموك




التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً