العدد 4802 - الجمعة 30 أكتوبر 2015م الموافق 16 محرم 1437هـ

سيرةُ كتاب: رواية «رجال في الشمس» لغسان كنفاني

السلاح والعتاد والقوة، إنْ صاحبهم الذكاء فتلك مكونات فتاكة، وإنْ نقصهم العقل والتعقل فإنها لكارثة على البشرية. وعلى النقيض من ذلك يكون اجتماع العقل والأخلاق مع الفكر والمعرفة والثقافة وحين يُبدع القلم بنشر كلماتهم فذلك إثراء للبشرية. هذا التجمع الخلاق يشكل خطراً كبيراً إن كان هناك عدوٌ متربصٌ هدفه تدمير شعبٍ وأمة، ذلك كان حال الشهيد الروائي الصحافي غسان كنفاني. فقد شكل عطاؤه قوة فكرية صبت في دعم الثورة الفلسطينية لتكون ثروة إنسانية صلبة مقلقة العدو الصهيوني. الذي لم يهدأ له بال حتى قتله بتفجير مركبته في بيروت عام 1972 وهو في ريعان شبابه حيث كان عمره حين استشهاده 36 سنة. إلا أن غسان كنفاني خلّف وراءه إرثاً فكرياً وثقافياً لا ينضب.

«رجالٌ في الشمس» الرواية الأولى لغسان كنفاني تناول من خلالها هموم شعبٍ شُرد من أرضه، في واقعة نساها أو حاول نسيانها حتى وصل الأمر بالبعض إلى اعتبار هذه الكارثة الإنسانية أمراً واقعاً ليس له مخرج. إلا أن دروس التاريخ تُظهر أن الحق لابد من أن يعود لأصحابه مهما طال الزمن أو قصر.

شخصيات الرواية تنتمي لمراحل عمرية مختلفة تحمل هم العودة، وتسعى للخروج من أزمة الفقر والبؤس المحيطة بها. أرض الكويت هي الخلاص! لكن كيف السبيل لها، فهناك حدود عصية المرور والطريق لها محكوم بألاعيب أيدي مهربين لا يعرفون الرحمة همهم الوحيد هو الربح السريع وتكديس الثروات على حساب جثث كثيرة لم يتمكن أصحابها من الوصول إلى بر الأمان.

أبوقيس الحالم بالعودة لشجيرات الزيتون التي يسمع همساتها كالزلزال كلما ألصق أذنيه بالأرض. حُلم العودة عصيٌ، والحاجة رغم كبر سنه تدفعه لخوض مغامرة تنتهي على أرض لن يعود منها، فقد سلم الروح في جحيم خزان العبور لأرض الأحلام. وأُلقيَ جسده ومن معه من رفاق سفره في مدافن مكب النفايات.

أسعد الشاب الثائر المناضل لتحرير بلده، لم يجد مناصاً من الهرب لحفظ حياته الملاحقة. وصل العراق بإعجوبة فقد اتفق مع مهربه -مجبراً- أن يلتقيا بعد الحدود فمن المستحيل مروره! عليه الالتفاف، وسيلاقيه هناك حتماً لإكمال المشوار، بعد مضي عدة ساعات كاد إن يتيهَ ويقضي نحبه في الصحراء وصل لموقع اللقاء لكنه لم يجد أحداً! سوى سيارة يقودها سياح أجانب كانوا سبيل خلاصه. نجا في الأولى لكن روحه لم تسلم من عبوره الثاني فسلمها للباري بعد خروجه من جحيم الأرض وناسها.

مروان رفيق الخزان الثالث كان يحلم أن يصبح طبيباً. مزقت الحاجة طموحه وأرغمته على الرحيل ليعيل أسرته وهو في المرحلة الثانوية، فقد أَجبرت حالهم أبيه على الزواج من امرأة ميسورة فقدت ساقها إثر غارة يهودية، بعد أن توقف مُعيلهم الأخ الأكبرالذي تزوج في الكويت عن إرسال النقود. حمل مروان همه وآماله بحياة جديدة لكنها انتهت قبل بدايتها.

الثلاثة أبوقيس وأسعد ومروان وصلوا البصرة في أوقات متقاربة، لجأوا لأبي العبد الذي طلب مبلغاً لم يكن باستطاعتهم دفعه. تلقف أبوالخيزران أبا قيس ومروان وعرض عليهم تهريبهم لقاء مبلغ أقل، انضم لهم أسعد في وقت لاحق. خطة العبور كما سماها أبوالخيزران بالحمام التركي وهم سموها الجحيم، فعليهم الاختباء في خزان صهريج أبي الخيزران قبل الحدود على أن يخرجوا بعد تجاوزها نجحت الخطة على الحدود العراقية، إلا أنها قادتهم لحتفهم على الحدود الكويتية، عندما رغب أحد موظفي الجمارك بمعرفة مغامرات أبي الخيزران العاطفية في البصرة.

أبطال الرواية الثلاثة نماذج تعكس مأساة الإنسان الفلسطيني في بدايات النكبة وما عاناه من حرمان وملاحقة واستغلال من الآخرين وبحق الآخرين. أبوالخيزران مثال للانتهازية التي ركبت معاناة الفقراء والمحتاجين، حتى أن شدة نفاقه تصل لحد الكذب على الذات، فبعد أن رمى الجثث في مكب النفايات استدار إليهم معاتباً متسائلاً «لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا؟ لماذا؟» وكأن به إسقاط لمبدء الانتهازي بكل ما يحمله من صفاقة حين يحمل الآخرين نتائج أفعاله كي لا يشعر بتأنيب الضمير. وأبوالعبد المهرب الكبير، من بيده مصير الفرج، يمتلك مفاتيح العبور إلى جنة الخليج ولا يخاف أن يُعاقب على أفعاله... حتى من رجال الأمن! كيف يهابهم وهم رجاله؟ جنة الخليج الواقعة تحت أشعة الشمس اللاهبة، ضربتها إنْ أصابت قاتلة، بها الخير وفيها يكمن الشر.

كم من أرواحٍ مُحقت، ليس في سبيل حرية وكرامة أوطانٍ مهدورة، بل على طريق هروبٍ إلى بقعة ما على الأرض تُؤمّن لقمة العيش بكرامة. تلتهمهم بحارٌ هائجة وشموسٌ قاتلة قبل وصولهم، وتتلاعب بهم أيدي من فقدوا إنسانيتهم.

من المهم معرفة الواقع المرير وتحليله وتفسيره، لكن العبرة بالمواصلة فمسيرة الإنسان إلى الرحمن طويلة.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً