العدد 4802 - الجمعة 30 أكتوبر 2015م الموافق 16 محرم 1437هـ

كرزكان وجاراتها: علاقة الساحل الغربي بالمدينة الدلمونية الأولى

المنامة - حسين محمد حسين 

تحديث: 12 مايو 2017

من خلال سلسلة المقالات السابقة، يتضح لنا وجود أربعة مراكز أساسية للاستيطان تميزت منذ حقبة العُبيد (4000 - 3500 ق. م.)، وحتى بداية تأسيس المدينة الدلمونية الأولى (قرابة العام 2300 ق.م). اثنان من هذه المراكز تقع على الساحل الشمالي للبحرين وهما باربار وموقع قلعة البحرين، واثنان على الساحل الغربي وهما كرزكان ورأس الجزائر. حيث أن فخار العُبيد عثر عليه بالقرب من رأس الجزائر، وفي كرزكان، وفي منطقة بين باربار والدراز، أما آثار الحقبة اللاحقة للعُبيد، أي جمدة نصر (3200 - 2700 ق. م.)، فقد عثر عليها في كل من كرزكان وباربار. أما الحقبة التالية لجمدة نصر، فهي حقبة تأسيس دلمون، والتي تميزت بوجود فخار مستورد خاص من حضارتي وادي الرافدين وأم النار، وقد عثر على هذا الفخار في المدينة الدلمونية الأولى التي تأسست في موقع قلعة البحرين، وكذلك في القبور الدلمونية المبكرة التي تتركز في شرق كرزكان وجنوب بوري (Laursen 2009، 2011).

يذكر أنه كان يوجد العديد من تلال القبور الدلمونية، تتركز في مجموعات، وتمتد جنوباً من شرق قرية كرزكان، وعلى طول الشريط الموازي للساحل الغربي، وصولاً لمنطقة أم جدر. وغالبيتها تقع بين مدينة حمد وقرى الساحل الغربي، كرزكان، والمالكية، وصدد، وشهركان، ودار كليب. وقد تم التنقيب في العديد منها، كما تم إزالة العديد منها. وتعتبر مجموعة تلال القبور الدلمونية التي تقع شرق كرزكان من أكبر وأهم هذه القبور من حيث التتابع الزمني؛ فقد عثر فيها على قبر يعود لحقبة جمدة نصر، ومجموعة قبور مبكرة تحتوي على فخار وادي الرافدين وأم النار، وهو الفخار الذي عثر عليه في بداية تأسيس دلمون. وبالتالي، فإن المدينة الدلمونية الأولى التي بُنيت في رأس القلعة، ليست المدينة الوحيدة، والمرجح وجود مستوطنات دلمونية تعود لنفس حقبة هذه المدينة وتقع على الساحل الغربي بالقرب من كرزكان.

دلمون وثقافة أم النار

عمليات التنقيب أو «البحث عن دلمون»، والتي بدأت منذ نهاية القرن التاسع عشر، سبقت عمليات التنقيب في المناطق الأخرى في الخليج العربي (Rice 1983)؛ ولذلك كانت الدراسات الأولى لا تربط دلمون - البحرين بثقافات أخرى في الخليج العربي بل تربطها بوادي السند وبلاد الرافدين. وبعد الدراسات التي نشرت عن ثقافة أم النار بدأت المقارنات تُعقد بين دلمون وأم النار.

وقد ظهرت ثقافة أم النار قرابة العام 2700 ق. م. على سواحل دولة الإمارات العربية وسلطنة عمان، وقد سُميت بهذا الاسم نسبة لجزيرة أم النار، ضمن إمارة أبو ظبي في دولة الإمارات العربية المتحدة، وهي تعتبر من أولى الدويلات التي نشأت على ساحل الخليج العربي والتي أسست لنفسها ثقافة واضحة خاصة بها والتي عرفت باسم ثقافة أم النار (2700 ق. م - 2000 ق. م.). هذه الثقافة، حتى وإن تأثرت بثقافات وادي السند والثقافات التي قامت في إيران ووسط أسيا بالإضافة لثقافة بلاد الرافدين، إلا أنها طورت لنفسها ثقافة خاصة تمثلت في طريقة البناء الخاصة بها، وبتطوير نوع خاص من الفخار، كما أنها تميزت بطريقة بناء قبور معينة (Potts 2005).

وبعد أن تم الكشف على أن نسبة كبيرة من الفخار الذي يوجد في المدينة الدلمونية الأولى في قلعة البحرين هو فخار ثقافة «أم النار»، تم إيجاد الرابط بين دلمون وأم النار، فاقترح Bibby أن هذه المدينة الدلمونية الأولى أو بالمعنى الأصح القرية (لأنها عبارة عن عددٍ من البيوت الغير مسورة)، قد تكون محطة أسسها تجار ينتمون لثقافة أم النار وذلك لتسهيل عملية التجارة بين مگن والجنوب الرافدي (Bibby 1986). أما Vogt فقد ذهب لأبعد من ذلك حيث اعتبر أن دلمون الأولى التي قامت في البحرين ما هي إلا امتداد لثقافة أم النار (Vogt 1996).

هذا وقد نشأت علاقة قوية بين دلمون وأم النار؛ فأم النار، كانت، جزءاً من حضارة «مگن» حيث مناجم النحاس التي تصدر لبلاد الرافدين عن طريق البحر، وكانت دلمون - البحرين تتوسط الطريق بين مگن والجنوب الرافدي. ولم يكن الفخار هو الرابط الوحيد بين دلمون وأم النار، فقد عثر على عدة قواسم مشتركة بين دلمون وأم النار منها طرق البناء، وحتى نموذج بناء القبور الدلمونية، يتشابه كثيراً مع قبور أم النار.

قبور أم النار في البحرين

عندما تم تقسيم تلال القبور الدلمونية في البحرين على أساس زمني، تم تقسيمهم إلى قسمين رئيسيين، تلال القبور المبكرة وتلال القبور المتأخرة (Lowe 1986). وتتميز تلال القبور المبكرة في البحرين، والتي عرفت باسم «تلال قبور أم النار»، عن تلال القبور المتأخرة والتي تحمل هوية ثقافة باربار أو دلمون - البحرين. حيث تتميز تلال القبور المبكرة بانخفاض ارتفاعها ومظهرها المستوي، ويميل شكلها على عدم الانتظام. ويتكون القبر من جزء أساسي هو حجرة اللحد حيث يوضع الميت، وتكون هذه الحجرة إما بيضاوية أو مستطيلة أو مربعة الشكل وليس لها غطاء علوي حيث تترك مفتوحة. ويحيط بغرفة اللحد جدار مستدير من الحجارة، ويتم ملأ الفراغ ما بين الجدار الدائري وغرفة اللحد بالحجارة والتي تتخذ أشكالاً مختلفة (Lowe 1986). أما طرق الدفن فهي موحدة في الخليج العربي وبلاد الرافدين مع وجود اختلافات بسيطة؛ ففي البحرين يوضع الميت في غرفة اللحد ممدداً على جانبه الأيمن موجهاً رأسه إلى الشمال الشرقي، وعادة ما تثبت يداه مقابل وجهه أو تحته مباشرة، ويعثر في الغالب إلى جانب الهيكل العظمي على عظام غنم وماعز عليها علامات حرق أو جرح (بوتس 2003، ج1: ص 340).

وتعتبر تلال القبور المبكرة، متزامنة مع فترة المدينة الدلمونية الأولى في قلعة البحرين وبالتحديد فإن تاريخها يعود للحقبة ما بين (2200 - 2050 ق. م.)، ويبلغ عددها قرابة 28000 تل. هذه التلال، أو القبور الدلمونية المبكرة، تتركز في مجموعات بصورة أساسية في شرق كرزكان وجنوب بوري، إلا أنها تنتشر بصورة متفرقة، فيوجد منها حتى في الرفاع ومناطق أخرى (Lowe 1986)، Laursen 2010، 2011)). هذه القبور يتشابه بناؤها مع نموذج بناء القبور في ثقافة أم النار، وهي تتميز، بالإضافة لشكلها، بأنها تحتوي على فخار خاص مستورد، إما من حضارة وادي الرافدين أو من ثقافة «أم النار» (Laursen 2009، 2011).

يذكر أن فخار أم النار وكذلك فخار وادي الرافدين، الذي عثر عليه في القبور الدلمونية المبكرة، عثر عليه أيضاً في المدينة الأولى التي تأسست في رأس القلعة؛ وبالتالي فإنه بالتزامن مع المدينة الدلمونية الأولى في رأس القلعة، ظهرت مواقع استيطان على الساحل الغربي، وبالتحديد بالقرب من ساحل كرزكان.

الخلاصة

المرجح، أن دولة دلمون بدأ تأسيسها مع تأسيس المدينة الأولى في موقع قلعة البحرين قرابة العام 2300 ق. م.، إلا أنه، من خلال ما عرضنا، يرجح أيضاً أن الاستيطان لم يكن حصرياً على منطقة قلعة البحرين بل ظهرت مستوطنات دلمونية أخرى، معاصرة للمدينة الدلمونية الأولى، وذلك على الساحل الغربي للبحرين، وبالتحديد بالقرب من ساحل كرزكان. يعتمد هذا الترجيح على وجود قبور دلمونية مبكرة منتشرة بالقرب من هذه المنطقة. ولكن، يبقى السؤال، إذا كانت هذه القبور المبكرة تخص مستوطنة دلمونية بالقرب منها على الساحل الغربي، فأين هي قبور الجماعات التي استوطنت موقع قلعة البحرين على الساحل الشمالي؟. هذا ما سوف نحاول الإجابة عليه في الحلقات القادمة.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً