العدد 4801 - الخميس 29 أكتوبر 2015م الموافق 15 محرم 1437هـ

نحو استهلاك وإنتاج مستدامين في المنطقة العربية

البيئة والتنمية - حسين أباظة 

تحديث: 12 مايو 2017

الاستهلاك المستدام في البلدان العربية هو موضوع التقرير السنوي للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد)، الذي يركز على أن الإدارة الرشيدة للموارد تتطلب تعديلاً في أنماط الاستهلاك وليس دائماً زيادة الإنتاج، وخصوصاً في مجالات المياه والطاقة والغذاء. وسيتم إطلاق التقرير، وإعلان نتائج استطلاع البيئة العربية الذي أجراه «أفد» في 22 بلداً لمعرفة مدى قبول الرأي العام العربي بتعديل العادات الاستهلاكية، خلال مؤتمر «أفد» السنوي الثامن الذي يعقد في بيروت في 16 و17 نوفمبر / تشرين الثاني 2015.

فيما يأتي إضاءة على التدابير التي يمكن أن تنتهجها الحكومات العربية للتحول إلى أنماط مستدامة في الإنتاج والاستهلاك.

إذا أرادت البلدان العربية أن تتحول تدريجيّاً إلى الاستهلاك والإنتاج المستدامين، فعلى كل بلد أن يحدد الإجراءات ذات الأولوية والظروف الممكّنة الضرورية لتسهيل ذلك التحول، على أساس الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الخاصة بالبلد. لكن الإجراءات الحكومية وتدخلات السياسات، على رغم أنها ضرورية، لن تكون كافية من دون إشراك مختلف الفاعلين والمعنيين في العالم العربي. وللمجتمع المدني والقطاع الخاص والجمهور دور مهم في إحداث تغيير في أنماط الاستهلاك والإنتاج وصولاً إلى استخدام الموارد الطبيعية الشحيحة بطريقة أكثر كفاءة واستدامة.

هنا تدابير يمكن للحكومات أن تختار منها لتحديد تدخلاتها.

الحوكمة الرشيدة

من الضروري توافر نظام حوكمة قوي يعزز الشفافية والمساءلة ومشاركة المعنيين، من أجل دعم أنماط الاستهلاك والإنتاج الأكثر استدامة والتحول إلى اقتصاد أخضر. ومكافحة الفساد هي أيضاً شرط أساسي لقيام حوكمة قوية وكفوءة. وفضلاً عن تعزيز مقاربة شاملة لصنع السياسة والقرار، يجب أن تضمن الحوكمة الرشيدة توزيعاً منصفاً للمداخيل والثروة وإشراك النساء والشباب. لقد كان ذلك من العوامل الرئيسية التي أدت إلى سلسلة من الاضطرابات والثورات في عدة بلدان عربية. إن إشراك شرائح مختلفة من السكان في عملية صنع القرار وتعزيز العدالة والإنصاف الاجتماعي يساهم في قبول إجراءات السياسات المقترحة وتنفيذها بنجاح، ويقوي الشعور بمُلكية القرار والنجاح والانتماء إلى البلد، ما يزيد إنتاجية العمال ويعزز الموقف الإيجابي تجاه الحكومة وقراراتها. ومن شأن تبني نهج تشاركي في تصميم وتنفيذ إجراءات وسياسات تساهم في تحقيق استهلاك وإنتاج مستدامين أن يضمن اعتبار المصالح المختلفة للجهات المعنية في المجتمع. ويجب تزويد المسئولين وموظفي الخدمة المدنية وصانعي السياسة بالمعلومات وتدريبهم وبناء قدراتهم على تحليل التحديات وتقييم الفرص، وضمان التنسيق بين الهيئات المختلفة لتجنب السياسات المكررة وغير الكفوءة والمتعارضة.

إذا تمت مراجعة الهيكلة الإدارية لبعض الهيئات العامة وإصلاحها، وأنشئت هيئات جديدة أوكلت إليها مهمات متخصصة تتعلق بالاستهلاك والإنتاج المستدامين، فذلك يسهّل إلى حد كبير إدخال الأدوات وإجراءات السياسات الضرورية لتخضير الاقتصاد وتحقيق تنمية مستدامة. ومن الأدوات التي يمكن استخدامها التقييمات البيئية الاستراتيجية، وتقييم الأثر على مستوى المشروع، وتحديد مؤشرات التنمية المستدامة، وتحليل دورة الحياة، والمحاسبة البيئية والاقتصادية المتكاملة، ومراجعة الإنفاق البيئي.

صنع السياسة المتكاملة

من الضروري دمج الاعتبارات البيئية والاجتماعية مع السياسات الماكرواقتصادية والقطاعية لتحقيق تنمية مستدامة. ويشمل صنع السياسة المتكامل تعميم أنماط الاستهلاك والإنتاج المستدامين وتخضير الاقتصاد. هذا التكامل ضروري لتصميم استراتيجيات حكومية شاملة ولصياغة الخطط والبرامج والمشاريع. ومن شأن نظام حوكمة قوي ورشيد أن يسهل تحقيق هذا التكامل وتنفيذ الاستراتيجية والخطط والبرامج والمشاريع المقترحة. ويشمل التكامل تعزيز ممارسات أكثر استدامة في الإنتاج والاستهلاك وكفاءة الموارد، وتخفيف النفايات وصولاً إلى تجنبها، وإدخال التكنولوجيات الابتكارية واستخدامها، وتعزيز تنافسية المنتجات النهائية، وخلق فرص عمل.

ولابد من أخذ اعتبارات التماسك والإنصاف في الاعتبار عند صياغة سياسات تعزيز الاستهلاك والإنتاج المستدامين والانتقال إلى اقتصاد أخضر. ويجب أيضاً إيلاء اعتبار خاص للمجتمعات المحرومة والمهمشة، وأن يرافق إصلاح دعم أسعار المياه والطاقة والغذاء إدخال إجراءات تعويضية، مثل خلق فرص عمل وسكن معقول الكلفة ونظم نقل عام، فضلاً عن خدمات اجتماعية تشمل الحصول على خدمات صحية وتعليمية وثقافية وترفيهية. ويجب إدخال نظم المراقبة والتقييم لمراقبة كفاءة السياسات بشكل مستمر، وتقييم تأثيرها على شرائح الناس المختلفة ومدى شموليتها وفاعليتها في الانتقال إلى اقتصاد أكثر استدامة ومراعاة للبيئة.

وفي الإمكان رفع مستوى معيشة سكان الأرياف وإنتاجيتهم وشعورهم بالانتماء من خلال الاستثمارات في البنى التحتية والخدمات الاجتماعية والمادية التي تشتد حاجتهم إليها في مجالات كالصحة والصرف الصحي والتعليم.

إطار العمل التنظيمي

توافر القوانين والأنظمة وسيلة قوية وفعالة لدعم وتشجيع الانتقال إلى أنماط استهلاك وإنتاج أكثر استدامة في العالم العربي. فالترخيص للمنتجات التي تزرع بطريقة مستدامة، واعتماد ملصقات التصنيف البيئي، وملصقات كفاءة الطاقة، هي أدوات محتملة يمكن وضعها موضع التنفيذ من خلال الأنظمة. وقد تبنى أكثر من نصف البلدان العربية معايير كفاءة الطاقة بحد أدنى للأجهزة الكهربائية المنزلية. لكن المشكلة تكمن في مراقبة هذه المعايير وفرض استعمالها. وقد تشمل الإجراءات التنظيمية أيضاً اعتماد «كودات» ومعدات البناء الأخضر التي تعزز كفاءة الطاقة والمياه. ويزداد شيوع كودات البناء الإلزامية واعتماد أو تقوية معايير مكيفات الهواء في المنطقة. وقد تبنت بلدان عربية كثيرة أشكالاً إلزامية أو طوعية من أنظمة كفاءة الطاقة في البناء، ومنها الإمارات وقطر والكويت ولبنان.

ويمكن تصميم الأنظمة لتوجيه إنتاج الغذاء نحو منتجات ذات قيمة غذائية أكبر وبأسعار معقولة للمستهلكين مع تخفيض البصمة البيئية للمنتجات الغذائية. ويعتبر ضعف آليات الامتثال والمراقبة من التحديات الرئيسية التي تواجه فعالية الأنظمة في المنطقة العربية. كما تمثل الموارد المالية والقدرات اللازمة لتصميم وإدارة هيكلية تنظيمية وطنية عقبة رئيسية في كثير من البلدان العربية.

الحوافز القائمة على السوق

يجب تصميم الحوافز الاقتصادية لدعم آليات التحكم التنظيمية، واختيارها بعناية لكي تؤثر في السلوك باتجاه أنماط إنتاج واستهلاك أكثر استدامة. كما يجب تصميم نظام حوافز لتشجيع مشاركة القطاع الخاص واستثماراته في المشاريع الاجتماعية ومشاريع البنى التحتية والخضراء.

هناك حاجة لإصلاح مجمل النظام المالي والضريبي لتحقيق هذا الهدف. من الضروري، على سبيل المثال، تحويل النظام الضريبي من فرض ضرائب على الوظائف والمداخيل إلى فرض ضرائب على الممارسات غير المستدامة، وتصميمه بحيث يطبق مبدأ الملوث يدفع، ويحاول أن يعكس كامل كلفة الموارد الطبيعية، ويدخل العوامل البيئية والاجتماعية الخارجية في الحسبان. ويجب ألا يمثل النظام الضريبي المقترح عبئاً إضافيّاً على المواطنين، وخصوصاً العائلات المنخفضة الدخل والفقيرة، وأن يحاول تحقيق حياد الإيرادات الذي لا يخفض إيرادات الحكومات.

تشمل الأدوات الاقتصادية الضرائب، ورسوم التلوث، والاعتمادات والحسومات، وهبات الأبحاث والتطوير، وإصلاح دعم الأسعار، والدعم الأخضر. ومن الأدوات الأخرى تعرفات التغذية بالتيار لتعزيز القدرة التنافسية لمصادر الطاقة المتجددة في قطاع الأعمال وتشجيع بناء بنيتها التحتية. كما أن الدفع مقابل خدمات النظام الإيكولوجي، لتعزيز الحفاظ عليه وحماية التنوع البيولوجي، هو أداة اقتصادية أخرى تساهم في الإدارة المستدامة للموارد الطبيعية.

وبشكل أكثر تحديداً، يجب على الحكومات أن تصلح نظام الدعم لتشجيع التوزيع والاستخدام الكفوءين للموارد وتثبيط أنماط الاستهلاك والإنتاج غير المستدامة. هذا مهم بشكل خاص؛ لأن الدعم في عدة بلدان عربية يمثل عبئاً على الموازنات الحكومية، وفي حالات كثيرة يفشل في بلوغ شرائح السكان المستهدفة التي صُمم لدعمها. وسيخفض هذا الاصلاح الضغط على الموازنات الحكومية، ويساهم في إطلاق الموارد المالية لتوفير الخدمات الاجتماعية الملحّة وتمويل النشاطات والاستثمارات البيئية في الموارد البشرية والأبحاث والتطوير. إن تدابير دعم أسعار المياه والكهرباء والوقود والغذاء وجمع النفايات هي كلها أمثلة على مدى الانحرافات في الأسواق المحلية ومساهمتها في أنماط غير مستدامة للإنتاج والاستهلاك تحتاج إلى تصحيح.

تنمية الموارد البشرية

الاستثمار في تنمية الموارد البشرية عامل رئيسي في إحداث تحول نوعي نحو أنماط استهلاك وإنتاج مستدامة، ودعم الجهود الحكومية لتحقيق تنمية مستدامة. والاستثمار في الرأسمال البشري، من خلال نظام تعليمي محسن يدمج اعتبارات الاستدامة في جميع التخصصات، هو شرط أساسي لتوفير الكوادر اللازمة على جميع المستويات، أكانت إدارية أو تقنية أو ماهرة، لدعم الانتقال إلى اقتصاد أخضر ومستدام. ومن شأن جمهور واع ومتعلم أن يقطع شوطاً بعيداً في دعم الانتقال إلى اقتصاد أكثر استدامة واخضراراً يستخدم الموارد بطريقة متعقلة وأكثر كفاءة.

التمويل وتسهيل الاستثمارات

من المهم إعادة توجيه الموارد المالية تدريجيّاً نحو خطط وبرامج ونشاطات تنموية مستدامة. وتشمل آليات التمويل الابتكارية اعتماد برامج القروض الميسرة والخطط الائتمانية وصناديق التغطية ورأسمال المجازفة الاجتماعي واعتمادات الكربون والتمويل الصغير.

ومن المهم أيضاً التشديد على أن تستهدف أدوات التمويل التي تقرها الحكومات الشركات الصغيرة والمتوسطة؛ لأنها تمثل نسبة كبيرة من الشركات العاملة في العالم العربي.

يجب استعمال أدوات التمويل لحفز الطلب المحلي والاستثمارات والممارسات المتعلقة بالاستهلاك والإنتاج المستدامين، من خلال دعم المخططات الاستهلاكية لشراء السلع الخضراء المنتجة محليّاً والكفوءة والمقتصدة في استهلاك الطاقة، بما في ذلك الطاقة المتجددة والمنتجات العضوية والسلع والسيارات الصديقة للبيئة.

الأبحاث والتطوير

التكنولوجيات والممارسات الابتكارية ضرورية لدعم الانتقال إلى اقتصاد مستدام. وقد كانت قدرة العرب على البحث والتطوير منخفضة جداً بسبب عوامل كثيرة، تشمل الافتقار إلى استثمارات في هذا المجال الذي تخصص له البلدان العربية عموماً نسبة صغيرة من ناتجها المحلي الإجمالي. على سبيل المثال، خصصت مصر العام 2011 نحو 0,43 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي للبحث والتطوير، في حين خصصت له كوريا الجنوبية نحو 4,4 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي العام 2014، وخصصت السلطات الإسرائيلية 3,9 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي العام 2012.

يجب أن يتغير هذا الوضع إذا كان العالم العربي يريد تحقيق تحول نوعي حقيقي نحو أنماط استهلاك وإنتاج أكثر استدامة. كما يجب بذل الجهود لتشجيع مشاركة القطاع الخاص في البحث والتطوير، ويمكن تحقيق ذلك بتوفير حوافز من خلال تخفيضات وحسومات ضريبية على الاستثمار في هذا المجال.

ومن المهم أيضاً تحويل التركيز من الاتكال على التكنولوجيات والمنتجات والخبرات المستوردة، والتوجه إلى تطوير تكنولوجيات ومنتجات محلية تناسب الظروف المحلية ويمكن تصديرها لتوليد عائدات من النقد الأجنبي.

ويجب أن يتركز البحث والتطوير في مجالات المياه والغذاء والطاقة على أولويات عربية، مثل تكنولوجيات تحلية المياه ومعالجة مياه الصرف بالطاقة الشمسية، ومعدات الري الموفرة للمياه، ومكونات البناء الأخضر.

المشتريات العامة الخضراء

يمكن أن يكون الإنفاق الحكومي أداة فعالة في حفز أنماط الاستهلاك والإنتاج المستدامة في العالم العربي، من خلال توجيهه نحو منتجات وخدمات خضراء. وبصرف النظر عما تمثله المشتريات العامة الخضراء للقطاع العام والقطاع الخاص، فهي ستخلق الأسواق للمنتجات الخضراء كما تخلق طلباً عليها.

وتشمل المنتجات العامة الخضراء المكاتب والمدارس والمستشفيات والأبنية الحكومة الأخرى، ونظم النقل، والبنية التحتية العامة، ومواد البناء، والمعدات واللوازم المكتبية، وسواها.

وسيؤدي تعزيز المشتريات والممارسات العامة الخضراء في العالم العربي إلى مساهمة كبرى في استعمال الموارد بشكل أكثر استدامة وكفاءة في القطاعين. كما يمكن أن يؤثر في السوق بالتشجيع على إنتاج أنظف واستهلاك أكفأ من خلال شراء منتجات مقتصدة بالموارد ومصنوعة محليّاً.

الوعي العام ونشر المعلومات

تشكل التوعية ونشر المعلومات أدوات فعالة لدعم الجهود الحكومية في تحديد وتعميم الفوائد الناجمة عن أنماط الاستهلاك المستدام للصحة والبيئة والاقتصاد. وكما أوضح استطلاع المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد)، فإن أنماط الاستهلاك غير المستدام تعزى في حالات كثيرة إلى انعدام الوعي حول التداعيات السلبية لأنماط الاستهلاك المفرط والمهدر على الصحة والبيئة واستعمال الموارد.

هذه الأدوات يمكن أن تكون في شكل حملات على الإنترنت ووسائل الاتصال الاجتماعي والإعلانات والمنشورات. كما يمكن أن تكون في شكل مواد تعليمية وتقارير ونشرات إعلانية وكتيبات توزع في المدارس والمرافق التجارية والعامة. وتعتبر المحاضرات والندوات ومشاورات الخبراء مواقع مناسبة للتوعية. لكن يجب تصميم حزم الاتصالات هذه بحيث تستهدف مجموعات مختلفة بلغة بسيطة وبطريقة تلبي مصالحها وأولوياتها وهمومها.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً