سجَّاد حسين. فتى بنغلاديشي قدَّر الله له أن يعيش أربعة عشر عاماً فقط. ففي يوم الجمعة الماضي، وعند الساعة 01:55 فجراً، أُلقِيَت قنابل «محلية الصنع» على تجمع ديني يخص ذكرى عاشوراء في حسينية دالان في العاصمة البنغلاديشية (دكا)، فقتِلَ سجَّاد وأصيب معه 100 آخرون، عديدٌ منهم جروحهم خطرة. وهي المرة الأولى التي تُستَهدَف فيها مواكب العزاء في بنغلاديش.
وعلى رغم أن الحادث اُستغِلَّ سياسيّاً ما بين الأحزاب المتخاصمة في ذلك البلد لإلقاء الاتهامات هنا وهناك، فإن المأساة لقيت اهتماماً استثنائيّاً من الحكومة والمعارضة، واعتبروا الحادث ضرباً تحت حزام الوطنية. هذا الاهتمام لم يُقلِّله عدد المسلمين الشيعة في بنغلاديش الذين لا يزيد عدد نفوسهم على 400 ألف من أصل 160 مليون بنغلاديشي ما يعني أنهم لا يتجاوزون 0.25 في المئة، وهو أمر جدير بأن يُشار إليه.
والحقيقة أنني تفاجأت جدّاً خلال متابعتي لمواقع إخبارية بنغلاديشية بحجم التعاطف الوطني مع الحادث وذوي الفقيد، وأهالي الضحايا المئة، الذين نُقِلوا إلى أكثر مستشفيات بنغلاديش تطوراً. ولم تكتفِ الدولة والأحزاب ومعها القوى المدنية كافة بالتنديد بما جرى، بل إن القائم بأعمال الأمين العام لحزب رابطة عوامي الحاكم قد زامن إعلانه إحياء ذكرى الزعيم التاريخي لبنغلاديش ومؤسسها الشيخ مجيب الرحمن (1920 - 1975) مع ما جرى في دالان واستهداف مواكب العزاء.
وزير الداخلية أسد الزمان خان قال للصحافيين: «لن نسمح أبداً للمسلحين برفع رؤوسهم»، وإن «الشرطة لديها لقطات فيديو للهجوم. وسيتم تحديد الجناة». وقد ألقت الشرطة القبض فعلاً على أربعة أشخاص اشتُبِه في تورطهم في تلك الجريمة. ثم زار مستشفى كلية الطب في داكا حيث يتلقَّى الجرحى العلاج فيه، يرافقه المفتش العام للشرطة شهيد الحق ومسئولون أمنيون.
الغريب أن الحادث وقع في الوقت ذاته الذي كان خطاب رئيسة الوزراء البنغلاديشية الشيخة حسينة في الأمم المتحدة يأخذ صداه في الإعلام والتي تحدثت فيه عن مواصلة «بنغلاديش للقيام بدورها في تعزيز ثقافة السلام واللاعنف ونهج عدم التسامح مع جميع أشكال الإرهاب والتطرف العنيف» وكأن الحادث شَدٌّ عكسي بامتياز.
وربما وجَّه الجناة (بقصد أو بدون قصد) رسائل مزدوجة للداخل والخارج، لخلط الأوراق؛ كون هذا العمل سيجعل كلاًّ من الهند (الحليف التقليدي لبنغلاديش) وإيران (لعلاقتها التجارية بدكا والدينية بالشيعة هناك) في واجهة المشهد. فدلهي ستخشى على الأقلية الهندوسية كما حصل في العام 2001، وإيران سترى نفسها معنية بما جرى دينيّاً، ما يزيد حضورها في ظل مساعي بنغلاديشية حثيثة للحصول على الغاز الإيراني عبر أنبوب يصل حتى البنغال الغربية.
في كل الأحوال، فإن الجهود والتعاطف الذي أبداه قادة البلاد والقوى المجتمعية هو مُقدَّر. لكن يبقى ما جرى يمثل إنذاراً للبنغلاديشيين، من أن هناك مَنْ يريد أن يشغلهم بأنفسهم ويزيد من أعبائهم الاقتصادية أعباءً اجتماعية وأمنية تُفاقم الأمر. عليهم أن يبحثوا عن المستفيد ليس في الداخل فقط، بل في الخارج الذي هَمَسَ في أذن الجاني بفتوى أو بتحريض سياسي، ليَعِدَهُ بما يُوعَد به الإرهابيون في العراق وتركيا وسورية وليبيا وتونس وبقية العالم.
على الساسة في دكا أن يتذكروا كزعماء للبلاد، أن بلادهم بها أقلية هندوسية لها مناسباتها كدورجا وكالي وسارسواتي بوجا. وإذا ما تُرِكَ الأمر فإنها قد تُستهدَف أيضاً أثناء إحيائها مقدساتها لتزداد النار أواراً. وعليهم أن يتذكروا أن لديهم بوذيين لهم مناسباتهم الخاصة كبوذا بورنيما، وكذلك المسيحيون في تجمعهم السنوي بعيد المسيح، وإذا ما استُهِدفوا، فهذا يعني أن الباب سينفتح على مصراعيه أمام الفوضى التي ستضرب السّلم الأهلي في كبده.
بنغلاديش التي انفصلت عن باكستان في العام 1971 كانت دواعيها في ذلك أنها لا تستطيع التعايش مع الباكستان الغربية؛ لأن الأخيرة تمارس الحَيْفَ الاقتصادي والسياسي والثقافي بحقها. لذلك اختارت الانفصال كي ينعم أهلها المتآلفون على الحسّ القومي والديني المتوافق عليه بوئام كما كان يُقال حينها. وهي اليوم، تدخل اختباراً عصيباً في التعامل مع أقلياتها، التي بدونهم تصبح دولة غير ميثاقية، ومجتمعها مجتمعاً مشروخاً ومثقوباً.
كان يمكن للهندوس بعد العام 1971 وهو عام الانفصال أن يختاروا الرحيل إلى الهند إلى جانب الكتلة الأكبر لهم هناك حيث مليار هندوسي لكنهم آثروا البقاء في أرض اختارها لهم ولأجدادهم القدر منذ مئات السنين. وكان يمكن للمسلمين الشيعة أن يرحلوا بعد الانفصال أيضاً إلى باكستان حيث يوجد 36 مليون باكستاني مسلم شيعي، لكنهم آثروا البقاء هم كذلك؛ لأنهم من هذه الأرض. فالجذور يصعب قلعها، كما ليس من السهل أن تُزرَع في تربة أخرى قد لا تلائمها.
في المحصلة، فإن هذه القوى المتطرفة العمياء، لا تريد أن تتحول بنغلاديش ضمن قائمة الدول الإحدى عشرة المتوقع تفوقها اقتصاديًّا. ولا ناتجها القومي أزيد من 241 مليار دولار. وهي لا تريد أن تبقى البلد ضمن أفضل الدول في منح المرأة لحقوقها. هذه هي المعركة الحقيقية، التي تحتاج إلى عِدَّة تناسبها.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4800 - الأربعاء 28 أكتوبر 2015م الموافق 14 محرم 1437هـ
تسلم ا.محمد
مقالاتك غنية
هكذا عودتنا
جزاك الله خيراً
جزاك الله خيراً استاذ، للأسف لقد مرّ خبر التفجير في بنغلاديش مرور الكرام فلم يتوقف عنده أحد ولم يأسى له أحد! ولو كان خبر التفجير في دول الخليج (الله يحفظ الجميع) لكان الخبر في الصفحات الأولى وفي كل وكالات الأنباء .. نحن هكذا هناك موت غالي الثمن و وهناك موت رخيص لا نلتفت له ..
رحم الله موتى وشهداء السلمين ..
لك الف تحية
اخ محمظ
ليش الطائفه الشيعه قليله بالنسبه للمسلمين وهم في تناقص
شكرا
بالفعل صاحب العمود ينقل القارئ من حدث الي حدث اخر في مختلف التوجهات ..لم يكن علي بالي بأني سوف اتطلع علي خبر يأتي من بنغلادس...لكن كاتب هذه الصحيفة يعرف كيف ينقلك من حدث الي حدث وبدون تكلف...الف شكر لصحيفة الوسط علي اختيارها للكتاب المفيدين المبدعين...
احم احم
والله زين امتابع اخبار بنغلادش ؟ انا ما اتوقعت في بحريني امتابع اخبار بنغلادش ولا اتوقع احد ايفكر يعرف بنغلادش
بصراحة هذه المقالة لم تأتي على البال ابدا
وهي مدعمة ببعض الارقام وعن دوله شحيحة المعلومات على الاقل بالنسبة لنا ، وهذا الذي يتميز به الاخ محمد ، والوسط التي لا تغفل عن حدث يمكن لم يذكره الاعلام لكثرة الاحداث العالمية الطاغية الحاضرة الطازجة والمتجددة في الاعلام ، والله يحق الحق و يخذل الباطل ان الباطل كان زهوقا ، وشكرا لاسرة الوسط ، وان شاء الله متميزة دوما .
لا حول ولا قوة الا بالله
بلد الامام الندوي يجب ان تبقى معتدلة
صباح الخير
رائع