يكاد لا يخلو خبرٌ في الصحف أو نشرات الأخبار إلاَّ واسم الأكْرَاد حاضر فيه. وفي أغلب الأحيان، يحضر الأكْرَاد كجزء من مشكلة، أو كجزء من حل، أو حتى كجزء من مأساة، كما حصل في مدينة حلبچة العراقية قبل 27 عاماً، وحصل في عين العرب السورية قبل عام. وربما في زحمة الحدث السياسي والأمني والعسكري، تغيب عنا حقيقة هذا المكوِّن الإثني؛ أصوله الانثروبولوجية ومعتقداته الدينية والثقافية، وحواضنه الجغرافية. وهي أشياء يبقى فهمها ضرورة، لرؤية المشهد الكُرْدِي على حقيقته.
في هذا الملف، تفتح «الوسط» نافذة على الأكْرَاد: تاريخهم وثقافتهم وأديانهم. وقد احتاج البحث في الشأن الكُرْدي، الاطلاع على عشرات المصادر التاريخية، والبحوث الحديثة، وذلك بُغية تكوين صورة أشمل عن هذا المكوِّن الأساسي في الأرض العربية والإسلامية.
مدخل
المنطقة العربية تتشظى، لتُضرَب الهوية الجامعة، فتفور الأرض بما فيها من تناقضات إثنية وطائفية، صار لِزاماً على ساكني هذه الأرض أن يعرفوا بعضهم جيداً، توخياً لمستقبل جديد، فُرِضَ عليهم، حيث باتوا يرون أنفسهم باعتبارهم طوائف ومِلَلا ونِحَلا، لا قومية عربية متجانسة ولا أمة إسلامية واحدة. لذلك صار ضرورياً أن يعرف العربي جاره الكُرْدي والأمازيغي والزركشي. وأن يعرف المسلم جاره المسيحي واليهودي والبهائي والأزيدي، إلى آخرها من التقسيمات الإثنية والمذهبية. فالمعرفة الحقَّة تمنح جيرة هادئة، والشعور يُنتِج الألفة.
مَنْ هم الأكْرَاد؟
جاء في لسان العرب لابن منظور حول لفظة الكُرْد ومعناها، بأنهم «جيل من الناس معروف، والجمع أكْرَاد». لكن مما ذُكِر أيضاً أن لفظة الكُرْد تعني «المَشارَةُ من المزارع» وأنها مشتقة «من المُكارَدَة، وهي المطاردة»، وهذان معنَيَان ربما يعطيانا مؤشرات لأصل التسمية، وهو أنهم قوم اشتغلوا بالزراعة لكنهم أيضاً كانوا قوماً رُحَّل، دفعتهم الظروف الاقتصادية والسياسية لأن يكونوا أهل تجارة ووفادة على غير مكان من الأمصار المتعددة.
وقد ذكر عباس العزاوي في عشائر العراق أن الأكْرَاد كغيرهم من الأقوام التي تدرّجت في الحضارة والنشوء الاجتماعي، «فقد نزحوا إلى المدن وسكناها، ومالوا إليها بألفة وقبول تامَّيْن، فلم يستنكروا ذلك، ولا عارضوا كما يشاهد في العناصر البدوية فإنهم مالوا خطوة إثر خطوة حتى وصلوا إلى الزرع، ثم إلى الغرس وتعهد المغروسات ثم تأسيس القرية وهكذا تدرَّجوا حتى فقهوا الحياة المدنية، ولكنهم لا يزالون حتى في أرقى المدن محافظين على بعض العوائد، والتقاليد القومية الموروثة». وهو ما يؤكد جذورهم وتحولاتهم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية.
الأصول الإثنية للأكْرَاد
ذكر الألوسي نقلاً عن أبي عمر بن عبد البر صاحب كتاب الاستيعاب أن الكُرْد أو الأكْرَاد هم «من نسل عمرو مزيقيا بن عامر بن ماء السماء» وأنهم «وقعوا إلى أرض العَجَم فتناسلوا بها وكثر ولدهم». وفي مورد آخر عُرِّفوا على أن جدهم هو «كُرْد بن عمرو مزيقيا بن عامر ماء السماء» وأن عامر هذا هو عربي وأنه ابن حارثة الغِطْرِيف (أي السيد الشريف) بن امرئ القيس البطريق بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، ويقال له الأسد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، ويُسمَّى عامراً وهو عند الأكثر ابن شالخ بن ارفخشذ بن سام بن نوح، وقيل: من ولد هود، وقيل: هو هود نفسه».
وقد أشارت المصادر التاريخية إلى أن قحطان هو من ذرية نبي الله إسماعيل بن إبراهيم، «وأنه قحطان بن الهميسع بن تيم بن نبت بن إسماعيل، والذي رجَّحه ابن حَجَر أن قبائل اليَمَن كلها ومنها قبيلة عمرو مزيقيا من ولد إسماعيل». ومما يُشير إليه نور الدين علي السمهودي أن الأوس والخزرج هم «من أولاد ثعلبة العنقاء بن عمرو مزيقيا المذكور».
ويذكر الحموي في معجم البلدان في حديثه عن قلعة إربل أمراً جديراً بالتأمل، فهو يشير إلى أنها «تُعد من أعمال الموصل، وبينهما مسيرة يومين» حيث كان في ربضها مدينة كبيرة بناها «الأمير مظفر الدين كوكبرى بن زين الدين كوجك علي» وأن «أكثر أهلها أكْرَاد قد استعربوا» وهو ما يزيد الجدل حول أصولهم، إن كانت عربية أم فارسية.
لكن المسعودي يقول إلى أن الأكْرَاد هم «من ربيعَة بن نزار بن بكر بن وَائِل، انفردوا فِي الْجبَال قَدِيما لحالٍ دعتهم إِلى ذلك، فجاوروا الفُرس فحالت لغتهم إِلى العَجمة، وولدَ كلّ نوع مِنْهُم لُغَة لَهُم كُرْدِيَّة». وهناك رأي آخر أنهم من ولد «مُضر بن نزار» وثالث أشار إلى «أَنهم من ولد كُرد بن مرد بن صَعْصَعَة (بن هوَازن) انفردوا قَدِيماً لدماءٍ كَانَت بَينهم وَبَين غسّان». ورابع قال «انهم من ولد ربيعَة بن مُضر اعتصموا بالجبال طلباً للمياه والمرعى، فحالوا عَن الرعية لمن جاورهم من الأُمم». أما الفرس فيرون بأن الأكْرَاد هم «من ولد كرد ابْن إِسفنديار بن منوجهر».
وقد وجدتُ قولاً للسيدمحسن الأمين ذكره في أعيان الشيعة عند حديثه عن بن قليج الدنبلي أن الأخير ينتسب إلى قبيلة تسمّى دنبل وهي «قبيلة من الأكْرَاد بنواحي الموصل تنتهي سلسلة نسبها إلى البرامكة وزراء بني العباس لأن جدّهم الأعلى هو يحيى البرمكي وزير هارون الرشيد».
لكن أقوى الآراء تشير إلى أنهم ينتسبون إلى «كُرْد بن مرد بن عَمْرو بن صعصعة بن مُعَاوِيَة بن بكر بن هَوَازن بن مَنْصُور بن عِكرمة بن خَصَفة بن قيس عَيلان بن مُضر بن نِزار بن معدّ بن عدنان»، مع أن ابن الشحنة قال: عربٌ وتنبطوا، ليبقى الختام أنهم ليس فُرْساً ولا عرباً في حاضرهم، لكنهم آريون، أو كما قال الألوسي: «وإنما نعرف جيلاً من الناس يقال لهم أكْرَاد من غير إضافة إلى عرب أو عَجَم».
الهوية الكُرْدِيَّة
تشكَّلت الهوية الكُرْدِيَّة كغيرها من الهويات في العالم، منطلقة من وجود القواسم الثقافية والجُدُوديَّة والتاريخ المشترك، والأرض التاريخية. ومن الصعوبة بمكان أن نحصر الهوية الكُرْدِيَّة بالسنوات المتأخرة، فقد دخل الأكْرَاد بشكل متوال في اعتناق الأديان التي وُجِدَت في المنطقة ومن بينها الدِّين الإسلامي خلال حقب مختلفة. لذلك ظهر منهم صحابة وفقهاء ومؤرخون وقادة وبلغاء. وقد أورد الألوسي في روح المعاني يقول: «وقد كان منهم (أي الأكْرَاد) كثير من أهل الفضل، بل ثَبَتَ لبعضهم الصّحبة. قال الحافظ ابن حجر في الإصابة في تمييز الصحابة في حرف الجيم: جابان والد ميمون روى ابن منده من طريق أبي سعيد مولى بني هاشم عن أبي خلدة سمعت ميمون بن جابان الكُرْدي عن أبيه أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم غير مرة حتى بلغ عشراً وذكر الحديث».
كما برز منهم علماء كبار كأبي عمر عثمان بن عمر الكُرْدي المعروف بابن الحاجب، المتوفى سنة 646 هـ حيث «نبغ في كثير من العلوم العربية والإسلامية ومنها علم النحو، فألَّفَ فيه رسالة موجزة، اشتهرت باسم الكافية، وهي على اختصارها وشدة وجازتها، جمعت أهم مسائل النحو، وحَوَت جُلّ مقاصده، وقد تسابق العلماء من بعد ابن الحاجب، إلى شرح هذه الرسالة وتوضيح مجملها ومن شروحها شرح لمؤلفها نفسه» كما ذكر ذلك رضي الدين الأستراباذي في شرح الرضي على الكافية.
لكن ومع توالي السنين، وظهور مفهوم جديد للدولة والكَيْنَنَة، وموجة القومية القادمة من أوروبا علي يد جيسيبي ماتزيني (1805م - 1872م) الذي كان له تأثير كبير في قيام الدولة الإيطالية، وامتد تأثيره إلى أوروبا والعالم كله، ثم ما حلَّ بالمنطقة من تقسيمات سياسية خلال صراع الإمبراطوريات، بدأ النَّفَس الكُرْدي يظهر، وإلاَّ فإنهم و»خلال الفترة من 1258 إلى 1509 لم يكن للكُرْد دور في الأحداث الجارية في المنطقة» كما أشار الباحث الكُرْدي شيرزاد أحمد النجار، دون أن يعني ذلك أنهم كانوا بعيدين عن التشكُّل ضمن «العديد من الإمارات الكُرْدِيَّة شبه المستقلة كـ بوتان، هكاري، بادينان، سوران، بابان في الإمبراطورية العثمانية، وأردلان وموكريان في الإمبراطورية الصفوية» كما يشير نادر انتصار في كتابه المعنون بـ Kurdish Ethnonationalism
إلاَّ أن المفْصَل المهم الذي أيقظ الشعور القومي للأكْرَاد هو استيلاء السلطان العثماني سليم الأول على شمال العراق بعد هزيمة الصفويين في معركة جالديران المعروفة سنة 1514م، والتي وقعت على الحدود التركية الإيرانية ما بين خوي وباتنوس. حيث أن استيلاء السلطان العثماني على مناطق ما عُرِفَ آنذاك بـ عراق العَجَم ومناطق في أذربيجان وكافة المناطق الكُرْدِيَّة في شمال العراق أو ما سُمِّي حينها بـ عراق العرب، ومناطق في الشام؛ قد جعل الشعوب الكُرْدِيَّة مشطورة ما بين عدة دول، الأمر الذي جعل الأكْرَاد يطمحون إلى إعادة لَمِّ شملهم من جديد. وقد ازدادت هذه المطالبات مع حلول القرن التاسع عشر، عندما نادى الأكْرَاد بشعار الانفصال عن الدولة العثمانية.
وفي الوقت الذي كان فيه الشيخ عبدالله الديني يقوم بثورة لتوحيد الشعوب الكُرْدِيَّة والاستقلال في دولة قائمة بذاتها في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، كان هناك بديع الزمان سعيد النورسي الكُرْدِي في الأناضول يقود نضالاً دينياً ضد الخط العلماني الأتاتوركي، منتصراً للسلطان عبدالحميد الثاني كما يذكر الورداني في فرق أهل السنة، رغم أن حركة الشيخ الديني وشيوخ بارزان والشيخ سعيد في الشمال، والشيخ محمود برزنجي كانت ثورات بقيادات دينية كما يذكر ذلك مارتن فان برونسين، وهو ما يعكس حالة من عدم الاستقرار في التوجهات القومية الكُرْدِيَّة في تلك الفترة.
ديانات الكُرْد
لقد اعتنق الأكْرَاد حالهم حال الإثنيات الموجودة في المنطقة، سواء كانوا عرباً أم فرساً أم أمازيغ وغيرهم الديانات السماوية، وحتى الأرضية. ففي الوقت الذي كانوا قد دخلوا فيها للإسلام، دخلوا أيضاً في المسيحية واليهودية ودخلوا في الأزِيْدِيَّة (أو اليَزِيْدِيَّة) والكاكائية والعلي اللهية.
أكْرَاد أزِيْدِيُّون/ يَزِيْدِيُّون
فيما خص انتشار الديانة الأزِيْدِيَّة (أو اليَزِيْدِيَّة) بين الشعوب الكُرْدِيَّة، يذكر المستشرق الفرنسي توماس بوا أنه وما بين القرن الثاني عشر وحتى السادس عشر، كان الأزِيْدِيُّون (أو اليَزِيْدِيّين) يغطون «جزءًا كبيراً من كردستان وجميع مناطق شمال ما بين النهرين ومساحة واسعة من سورية» مع إشارة إلى انتشار الديانة الزرادشتية القديمة حيث نقل عن البعض انتساب الأزِيْدِيّين/ اليَزِيْدِيّين لها.
وإذا ما علمنا أن كلمة الأزِيْدِيّين/ اليَزِيْدِيّين «مشتقة من المفردة (يزيد) أو (يزدان)، وهي لقب من ألقاب الإله الأكبر لدى قدماء الفرس، أو أنها مشتقة من اسم مدينة يزدم» الفارسية، فإن المسألة تحتاج إلى تأمل فيما خصّ انثروبولوجيا الإنسان الكُرْدِي وتأسيساته الثقافية، وخصوصاً أن الديانة الأزِيْدِيَّة هي من الديانات القديمة جداً، وبالتالي لا يُعلَم تاريخ تمددها في داخل الشعوب الكُرْدِيَّة.
أكْرَاد مسيحيون
ويذكر ألكسندر أداموف في ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها أن المغول عندما اقتحموا أراضي ما بين النهرين في القرن الثالث عشر ثم مجيء تيمور لنك في أواسط القرن الرابع عشر وتدميرهم الكنائس اضطر السناطرة إلى اللجوء نحو «قلاع جبال كردستان الصعبة المنال واستمروا مختبئين هناك، إلى أن احتل السلطان العثماني سليم الأول ما بين النهرين في 1515م، فواتت الجرأة بعضهم على مغادرة ملاجئهم الجبلية والاستقرار في سهول ما بين النهرين وفي فارس المجاورة لها». وربما كان ذلك سبباً في أن يتأثر الأكْرَاد ويعتنقوا الديانة المسيحية.
وقد وجدتُ أن حركة خاتش للمسيحيين الكُرْد تُشكِّل اليوم واحدة من أهل المؤسسات التي ينتظم فيها الأكْرَاد المسيحيون. وعند قراءة التاريخ وبالتحديد تاريخ الجزيرة الفراتية التي تضم شمال شرق سورية وشمال غرب العراق وجنوب شرق تركيا (محافظة نينوى وصلاح الدين وكركوك وأربيل ودهوك وجزء من الأنبار لغاية حديثة العراقية، ثم نزولاً عند محافظة الحسكة ودير الزور والرقة السورية) سنرى أنه وحتى نهاية القرن التاسع عشر، كان المسيحيون يُشكِّلون الأغلبية فيها. وعندما جاءت القبائل العربية والكُرْدِيَّة دخلت جماعات كبيرة من الأكْرَاد في المسيحية الآشورية. لذا، نرى أن الآشوريين السوريين وجدوا في الأحزاب الكُرْدِيَّة السورية، وفي وحدات حماية الشعب الكُرْدِيَّة الفصائل الأكثر انسجاماً معها خلال الصراع الذي اندلع في محافظتَيْ الحسكة والقامشلي السوريَّتيْن كي ينضموا إليه.
أكْرَاد يهود
قد لا يُشكِّل الأكْرَاد اليهود رقماً مهماً في مجموع الشعوب الكُرْدِيَّة، إلاَّ أن النظر في أمرهم يبقى ضرورياً كونه مرتبطا بأمرين؛ الأول: العلاقة التقليدية التي حَكَمَت أغلب يهود العالم بدولة إسرائيل منذ العام 1948م. والثاني: هو الخلل الحاصل في الهوية اليهودية. وفيما خصّ الأمر الأول فإن أغلب الأكْرَاد اليهود من العراق وتركيا وإيران قد هاجروا إلى إسرائيل منذ قيامها، وكان عددهم حينها لا يزيد عن الـ 3000 فرد. لكن أعدادهم اليوم أكبر بكثير من ذلك، حيث تُقدَّر أعدادهم بـ 150 ألف كُرْدِي يهودي يعيشون في إسرائيل بعضهم تقلَّدوا مناصب مهمة كـ وزير الدفاع الأسبق إسحاق مردخاي.
أما فيما خص الخلل في الهوية الكُرْدِيَّة، فإن الذي يحصل في إسرائيل هو عدم وجود فصل واضح ما بين علمانية الدولة ويهوديتها ومُلحقات شَأنَيْ العلمانية واليهودية، فضلاً عن التقسيم العنصري ما بين يهود غربيين آشكيناز ويهود شرقيين سفارديم، في الوقت الذي ينتسب فيه اليهود إلى أماكن مُتعدّدة من دول العالم وأقاليمه، الأمر الذي جعل العلاقة بين قوميّة جغرافيّة وأخرى دينية لأن تكون رجراجة.
وبحسب الديمقراطية الليبرالية، فإن شتَّان بين تذويب الديمقراطية في اليهودية وبين تذويب اليهودية في الديمقراطية. هذا الأمر انعكس بشكل كبير على الأكْرَاد. ففي الوقت الذي يعتدّ الأكْرَاد بلغتهم وانتمائهم القومي وجدوا أنفسهم في حالة اضطراب في الهوية مع محاولتهم الاندماج في المجتمع اليهودي.
أكْرَاد مسلمون
يعتبر المذهب السُّني هو الغالب على الشعوب الكُرْدِيَّة، ضمن شقَّيْه الحنفي والشافعي، أما الأقلية، فهي شيعية، يُسمَّون الكُرْدفيلية أو الفيليون الأكْرَاد. وتشير المصادر التاريخية إلى أن لـ زيد بن علي دوراً في نشر التشيع في شهروز شمال العراق. وقد ناصر الأكْرَاد في الجبل وخراسان دعوات أبي مسلم أمين آل محمد (كما يُسمَّى) وأبوسلمة الخلال إرجاع الخلافة من الأمويين إلى بني علي. كما قام موسى بن السري الأحول الهمذاني في سنة 131 هـ بالدعوة لآل بيت محمد بحلوان، وأسّس حكومة فيها. كما قامت عدّة دول تأمّر فيها الأكْرَاد، كـ دولة بني عيّار، وحكومة الأتباكية وحكومة ولاة بشت كوه.
وقد ذكِرَت القبائل الكُرْدِيَّة الفيلية التي ظهر فيها التشيُّع من القرون الأولى من الإسلام وهي: البشنوية والبرزيكان والجاوانيين والدنابلة والسرنجان كما يذكر الطريحي. لكن من الأشياء اللافتة هنا، أن الكُرْد الفيليين ومن الناحية الجغرافية يسكنون في المناطق الوسطى والجنوبية حيث الأكثرية الشيعية، وهو أمر يعيد تفسير النظرة إلى الهوية الكُرْدِيَّة، الحائرة ما بين القومية والدين/المذهب.
الأكْرَاد والتصوُّف
شكَّل التصوّف جانباً مهماً في المذاهب الإسلامية الكُرْدِيَّة كطرق روحية، تدعو إلى صفاء النفس والوصول إلى الله عبر تطهيرها وإقامة الطقوس الخاصة. وقد كانت الطريقة السهرورية هي الغالبة في أوقات سابقة على عُموم الشعوب الكُرْدِيَّة، لكن جَبَّتها طرق صوفية أخرى كالطريقة القادرية، التي استمدّت قوتها من زعيمها عبدالقادر الجيلاني (471 هـ - 561 هـ). إلاَّ أن الزمن قد أنتج طرقاً أخرى مثل الطريقة النقشبندية والتي تعزّزت على يد الشيخ خالد النقشبندي الميكايلي «من قبائل الجاف من فرع آلي بكي» كما يذكر العزاوي.
ورغم أهمية البحث عن تفريعات التصوُّف لدى الأكْرَاد، إلاَّ أن الأهم منه هو دراسة جوهر الميول الكُرْدِيَّة نحو التصوُّف. فتاريخياً كانت بيئة الأكْرَاد هي الجبال والطرق الموصلة إليها، البعيدة عن التجمعات السُّكانية الكبيرة، وبالتالي كانت هناك طبيعة اجتماعية وثقافية خاصة لدى الأكْرَاد، تقوم على ركيزة الوحدة والانزواء، وهو ما أهَّل الأكْرَاد لأن يتلقوا التصوُّف بمزيد من التبيِئَة والتماهي في آن واحد. بل الأكثر من ذلك، فإن الشعوب الكُرْدِيَّة دأبت على تكييف العديد من المعتقدات التي جاءتها كي تتحوَّل إلى صور من التصوُّف أو متأثرة بها. وهو أمر أشار إليه العديد من الباحثين، ليس في الجانب الإسلامي فقط، بل منذ تأثرهم بـ المزديَّة ومروراً باليهودية والمسيحية وانتهاءً إلى الإسلام وإلى عصرنا الحاضر.
اللغة الكُرْدِيَّة
تعتبر اللغة الكُرْدِيَّة من اللغات الهندوأوروبية (ضمن مدار يمتد من غرب أوروبا إلى شرق الهند) وتُكتَب بالخط اللاتيني والعربي في آن واحد. فهناك 31 حرفاً في جانب لغوي منها كما في البهدنانية (الكرمانجية)، وهناك 38 حرفاً في جانب لغوي آخر كما في السورانية، وهي تكتب بالأبجدية العربية مع فروقات تفصيلية.
لكن من الإشكالات الثقافية عند الأكْرَاد، أنهم لا يتحدثون بلغة كُرْدِيَّة قومية واحدة بل بأربع لغات، بالإضافة إلى عشرات اللهجات الأخرى. وقد نشرت مجلة ميزوبوتاميا الكُرْدِيَّة تحقيقاً في هذا المجال أشارت فيه إلى أن «هنالك 4 لغات مختلفة رغم تقاربها بدرجات متنوعة» يتحدّث بها الكُرْد.
فالمناطق الشرقية من كردستان العراق كالسليمانية وأربيل وكردستان الإيرانية يتحدثون اللغة السورانية، ويبلغ عدد متحدثيها الـ 25 في المئة من الأكْرَاد. وفي المناطق الشمالية من كردستان العراق مثل دهوك وفي داخل تركيا يتحدثون اللغة البهدنانية (أو الكرمانجية) ويبلغ عدد متحدثيها الـ 60 في المئة من الأكْرَاد (بحسب دراسة زين الاسماعيل). وأكْرَاد مناطق خانقين ومندلي وأكْرَاد كرمنشاه يتحدثون اللغة الخانقينية (أو الكرمنشاهية) وجزء من أكْرَاد تركيا يتحدثون اللغة الزازائية. أما الأكْرَاد الفيليون فإنهم يتحدثون بلغة الكيلك المنتشرة في إيران.
هذه المشكلة اللسانيَّة خلقت أزمة ثقافية وقومية بالغة الخطورة، كَوْن الانتصار لِلُغة على حساب الأخرى سيعني صراعاً كُرْدياً-كُرْدياً، وهو ما فسَّرته الاعتراضات التي واجهها قرار حكومة كردستان العراق إيقاف العمل باللغة البهدنانية لصالح السورانية قبل 9 سنوات، حيث وصَفَت عريضة مثقفين أكْرَاد تلك الخطوة بأنها «ستلحق ضرراً بالغاً بالتواصل اللغوي والثقافي الكُرْدي- الكُرْدي، كما أنها ستكون سبباً لتعميق التشرذم الكُرْدي وازدياد الحواجز بين أبناء الشعب الواحد الموزع بين 4 دول، عدا عن حرمان الأجيال في بهدينان نفسها من التعلم بلغة آبائهم وأجدادهم».
جغرافيا وديموغرافيا الأكْرَاد
يمكننا أن نحدِّد أماكن تواجد الأكْرَاد تاريخياً فيما سُمِّي بـ جبال الأكْرَاد، وهي الجبال «الحاجزة بين ديار العرب وديار العَجَم» كما جاء في المسالك. وبحسب القلقشندي في صبح الأعشي فإن ابتداءها من «جبال همذان وشهرزور، وانتهاءها صياصي الكفرة من بلاد التكفور، وهي مملكة سيس وما هو مضاف إليها مما بأيدي بيت لاون» ثم يشير فيُسمِّي بعض أماكن تواجدهم وهي دياوشت ودرانتك ودانترك ونهاوند إلى قرب شهرزور، وبجوار ديار الكلالية بجبال همذان، ونواحي شهرزور، ومكان بين شهرزور وبين أشنه من أذربيجان، وبلاد بسقاد، وبلاد الكركار، ودربند قراير، وبلاد الكرحين ودقوق الناقة، وبين الجبلين، ومن أعمال إربل، ومازنجان، وبيروه، وسحمة، والبلاد البرانية، وبلاد شعلاباد، وما ذكرد والرستاق، وجولمرك، وبلاد مركوان، وبلاد كواردات، وبلاد الدّينار، وبلاد العمادية وقلعة هارون، والقمرانية وكهف داود. وهي كلها أماكن ذكرها القلقشندي.
وفي التوصيف العام الحديث هم يسكنون ما بين آسيا الوسطى مروراً بالمناطق الشرقية الشمالية لسورية، وبشمال العراق وجبل سنجار وحتى مناطق سنندج في إيران، حيث كردستان الإيرانية، مع شتات في المهجر وفي شمال آسيا.
أما تعداد الأكراد بمجموعهم الكُلِّي يُقارب الـ 35 مليون نسمة، يعيش منهم 15 مليون في تركيا (42.8 في المئة من مجموع الأكْرَاد)، و 5 ملايين في كردستان الإيرانية (14.2 في المئة من مجموع الأكْرَاد)، وفي كردستان العراق 4 ملايين ونصف المليون (12.8 في المئة من مجموع الأكْرَاد)، وفي سورية نحو مليوني كُرْدي (5.7 في المئة من مجموع الأكْرَاد). كما يوجد نثار منهم في بعض جمهوريات آسيا الوسطى وفي المهجر الأوروبي، وفي منطقة الهلال الخصيب خارج سورية.
في محصلة هذا الحديث، يبقى الأكْرَاد أحد المكونات المهمة، وضمن الشعوب المتجذرة في هذه المنطقة. وقد عانت هذه الشعوب خلال مسيرتها كغيرها من الإثنيات الأخرى، التي كانت الرياح تأتي في صالحها حينها، وفي غير ذلك تارة أخرى، في ظل الوَهَج القومي لها، وذلك في ظل غياب التوافق الصحيح لمفهوم الدولة الحاضنة للجميع.
العدد 4800 - الأربعاء 28 أكتوبر 2015م الموافق 14 محرم 1437هـ