ارتبط الانطباع العام عن ظاهرة العولمة بأنها تحديث للبلدان، وانفتاح على الأسواق، ونمو لقطاعات المال والأعمال والخدمات، وسرعة الانتقال إلى عصر التقانة والاتصالات، بيدَ أن هذا ليس كل شيء، إذ في المقابل هناك تمظهرات لتوحشها النيوليبرالي الذي يتسم بارتفاع منسوب الاستبداد والتسلط الأمني وتآكل الديمقراطية أو انعدامها وأزمات اقتصادية واجتماعية وحروب وفساد أصبح مكوناً رئيسيّاً من مكونات أنظمة الحكم، مع زيادة مشكلات الفقر والبؤس والتفاوت الاجتماعي وانعدام الأمن والاستقرار.
بالطبع البلدان العربية كانت ولاتزال مسرحاً مفتوحاً لتجليات العولمة النيوليبرالية التي استجابت واتسقت مع توجهات وممارسات الأنظمة السياسية الاستبدادية العسكرية منها والمدنية الغنائمية، وما أدت إليه من استحواذ على الدولة ومؤسساتها واقتصادها في سياق الخصخصة وتحصيل الريع وإعادة توزيعه تبعاً إلى العلاقة الرعوية التي تميزت بها، وعليه يمكن القول إن للعولمة تأثيراً بالغاً على أدوار الدولة العربية ووظائفها بحيث ألغت توجهها التنموي والتزامها الاجتماعي في بعض البلدان، كما تخلت عن فرض الضوابط على الاقتصاد وحركة الأسواق استناداً إلى رؤية اجتماعية تنموية تساهم في تحسين ظروف الفرد وتكافح الفقر وتحقق العدالة والرفاهية المنشودة.
وعليه، لا يمكن مناقشة الأجندة العالمية الجديدة للتنمية التي استغرقت ثلاث سنوات من المفاوضات والمشاورات دون إمعان النظر في تأثيرات العولمة ونتائجها على المجتمعات المحلية وخصوصاً أن القضايا التي تضمنتها الغايات والأهداف ذات صلة وثيقة بتلك الثأثيرات وما تمرُّ به المجتمعات من تطورات في أوضاعها وما تعانيه من مشكلات، ولهذا تبلورت رؤية فاحصة وناقدة من بعض المنظمات الأهلية العربية وعلى رأسها «شبكة المنظمات العربية غير الحكومية» للأهداف الـ «17» التي طرحتها الأمم المتحدة في إطار خطة طموحة، وأصدروا بياناً شرحوا فيه وجهة نظرهم واقتراحاتهم.
أجندة واسعة وغير ملزمة
فمن حيث مضمون الأجندة المستدامة للعام 2030 وجدوا أنها واسعة وغير مكتملة، وثمة ثغرات اعترت تحضيرها، يقولون: صحيح التشاور مع المجتمع المدني والأكاديميين والنشطاء كان واسعاً، إلا أن مشاركتهم كانت شكلية وتأثيرهم الفعلي كان محدوداً، والأهم أن دور الحكومات كان حاسماً ضمن آلية تفاوض دبلوماسي مفتوحة، ما جعل الغايات والأهداف كبيرة، وتبعاً لتوقعاتهم سيشكل ذلك صعوبة كبيرة في تحويلها إلى خطط تنمية شاملة ومتسقة بفعالية. ولم تُجر الاستفادة من التجربة السابقة التي غاب أثرها في الأجندة الجديدة، إضافة إلى ذلك غابت المؤشرات التي تسمح بقياس التقدم، وفي هذا ثغرة هامة قد تشكل تراجعاً عن الالتزامات الحالية الناجمة عن الاتفاقات الدولية لحقوق الإنسان.
أما لجهة متابعة الأهداف وقياس مدى تنفيذ الخطة فهي غير محددة بوضوح، وبالتالي هذا يسهل عدم الالتزام وعدم الإلزام، فالأجندة برأيهم تقتصر على مبادئ إرشادية طوعية من قبل الحكومات ووفقاً لأولويات استراتيجياتها الوطنية أو حتى لأولوية الأطراف الدولية وتنصلها من الالتزام بالتمويل، في مقابل أجندات ملزمة في المفاوضات التجارية الدولية التي تقدم مصالح الشركاء التجاريين الدوليين والشركات التجارية على المصالح والأولويات الوطنية وتضييق مجالات صنع السياسات الوطنية، وافتقاد آليات مراجعة مدى التزام الشركاء التنمويين.
إفراغ الفقر من مضمونه
إلى جانب ذلك، ذكروا أن الأجندة تعاني من ضعف في مقاربة حقوق الإنسان، على رغم تضمنها التزامات تنفيذ بعض الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمدنية، واستنتجوا أن هذا التوجه يعكس تزايد تأثير قطاع الأعمال على حوكمة منظمات الأمم المتحدة وآليات صنع القرار الدولي، مما أعدوه تراجعاً، وانتقدوا أدوات قياس الفقر التي أفرغت الفقر من مضمونه في الأجندة واعتبرته ظاهرة مرتبطة بالدخل دون الأخذ في الاعتبار الاحتياجات الأساسية الأخرى التي تدخل في صلب المقاربة الحقوقية لتعريف الفقر، والمسألة نفسها فيما يتعلق بالعمل اللائق كحق والتأكيد على أهمية حق الشعوب في إنهاء الاحتلال، فضلاً عن تغيب آليات استعراض حقوق الإنسان عن أي دور في الرصد وتنفيذ خطة التنمية الجديدة، وخلصوا إلى أن الخطة لم تجذر مبادئ حقوق الإنسان بل شكلت تراجعاً في بعض الالتزامات.
إهمال البعد السياسي
فيما يتعلق بالبعد السياسي المؤسسي في التنمية، والمتمثل في الحفاظ على السلام والأمن والحوكمة الديمقراطية، فقد لاحظو أنه أهمل، ولم تتغير الخطة التنموية في تركيزها على الركائز الثلاث للتنمية المستدامة، وهي الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، كما أغفل البعد الثقافي - القيمي وكلاهما له أهمية خاصة بمنطقتنا. وانتقدوا اعتماد تعزيز الشراكة الدولية في اطار «منظمة التجارة العالمية»، كونها الإدارة الأنجع لزيادة التأثير التنموي للتجارة، منوهين إلى خطورة تناسي النتائج المحتملة عند التحرير الكامل للأسواق الوطنية، وأشاروا إلى غياب أية معاهدة دولية تلزم قطاع الأعمال بعايير حقوق الإنسان، وخصوصاً أنه ثبت فشل مساهمتهم في تمويل التنمية في ظل غياب التشريعات وآلية الشفافية والمساءلة.
وخلصوا إلى أن مفهوم الشراكة تم تقزيمه في الأجندة الحالية وضاع الهدف «8» الخاص بالشراكة الدولية في الأجندة السابقة، حيث جرى إغراقه بقائمة طويلة من الأهداف التي ترد تحت عنوان «وسائل التنفيذ» والتي لا تميز بين مسئولية الطرف الدولي والأطراف الوطنية، وتحول مفهوم الشراكة نحو شراكات محورها قطاع الاعمال، والتقليل من أهداف تحقيق التجارة العادلة وتخفيف الديون وعدم الإشارة إلى تنظيم ومراقبة السياسات المالية وضبط حركة رؤوس الأموال من خلال فرض الضرائب عليها.
خلاصة الأمر، لم يكن موقف المنظمات الأهلية و»شبكة المنظمات العربية غير الحكومية» جله سلبيّاً فيما يتعلق بدورها ومستوجباتها، على رغم شعورها بالتراجع الكبير الذي لمسوه في لغة الوثيقة؛ كونها تحتمل تفسيرات واجتهادات قد تحرف الاتجاه العام عن تحقيق الأهداف الفعلية، وأكدوا أهمية اجتراح مقترحات تساعد في خروج المنطقة من أزماتها، ومساهمة جميع الأطراف في دعم السلم والاستقرار والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، مشددين على أهمية أن تلعب منظمات المجتمع المدني دوراً مهمّاً في مرحلة ما بعد إقرار «أجندة 2030» من خلال تأكيد غاياتها وأهدافها وتمويلها ومتابعتها، ورفض الانتقائية للأهداف أو تجزئتها، أو النظر إليها ككائن غريب إنما ادماجها في الخطط الوطنية وبما يتلاءم مع الأوضاع المحلية، فضلاً عن الضغط باتجاه تحديد مؤشرات ومعايير المراقبة والتنفيذ، ومساءلة قطاع الأعمال باعتماد سياسات ضريبية عادلة، وحماية اجتماعية شاملة وأجور، وهذا غير ممكن في ظل غياب الحوكمة الديمقراطية وتعزيز استقلالية القضاء وآليات التداول السلمي للسلطة، فوجود هذا وذاك يتيح المساءلة والمحاسبة.
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 4799 - الثلثاء 27 أكتوبر 2015م الموافق 13 محرم 1437هـ