العدد 4798 - الإثنين 26 أكتوبر 2015م الموافق 12 محرم 1437هـ

عن «الببليومانيا» والولع بالكتب

وسام السبع wesam.alsebea [at] alwasatnews.com

يحيل مصطح «الببليومانيا» إلى معنى جميل هو «الولع الشديد بالكتب»، ومن علماء النفس من يعدّون هذه الظاهرة في السلوك مرضاً. وقد كتب فيه بعض الباحثين: الغريب أنه مرض يبتهج له المصابون.

و«الببليومانيا» داء يصيب شريحة المثقفين على الأغلب، لكن قد لا ينجو منه غير المشتغلين بكسب المعارف وطلابها من الناس العاديين، وقد شاهدتُّ من الناس من ضاق عليه منزله بالكتب المكدسة في زوايا وغرف البيت فلجأ يستغيث بالجيران ليعينوه على مهمة الاحتفاظ ببعض كتبه حتى يقضي الله أمرًا!!

لكن، هل يا ترى يُعد الولع بالكتب حالة مرضية فعلاً؟

لا أملك الجواب لهذا السؤال فأنا – إن صح أنه مرض – أحد ضحاياه المحظوظين، لكن لفت نظري ما كتبه محمد أمين البنهاوي في مقاربة نفسية للموضوع، يقول: «غالباً ما تمضي أعراض هذا المرض دون ملاحظة، وأكثر الأعراض انتشاراً بين المصابين هو الترحيب الجمّ بالكتاب لا لشيء سوى أنه كتاب، ويظهر ذلك في المرحلة الأولى من المرض، أما المرحلة الثانية فتتميز برغبة المصاب في تجميع أعداد هائلة من الكتب، وأكثرها قليل الاستخدام؛ مفترضاً أن قد يحتاج اليها يومًا ما، ويتبع ذلك حب وإعجاب وولع شديد بكل ما هو مطبوع... وينتهي الأمر عادة بميل المصاب إلى الإبقاء على الكتب (التافهة) أو ذات القيمة الضعيفة».

وهذا توصيف واقعي لا أملك له دفعاً، وأزيد عليها أن المثقفين يغلب عليهم حب العزلة والانسحاب من المجتمع والنأي بالنفس عن تيار الحياة، ولذلك من النادر أن تجد من لديه معارف كثيرة ومتابعات فكرية جادة ويملك - في الوقت ذاته - الخبرة الحياتية اللازمة للتعامل مع مواقف الحياة المختلفة؛ فالانهماك في مطالعة الكتب كثيراً ما يكون على حساب بناء خبرات الحياة، والتأني في هضم دروسها.

وفي هذا المعنى، يقول عباس محمود العقاد: «لا تغني الكتب عن تجارب الحياة، ولا تغني التجارب عن الكتب؛ لأننا نحتاج إلى قسط من التجربة لكي نفهم حق الفهم، أما أن التجارب لا تغني عن الكتب؛ فذلك لأن الكتب هي تجارب آلاف من السنين في مختلف الأمم والعصور، ولا يمكن أن تبلغ تجربة الفرد الواحد أكثر من عشرات السنين».

ويحفل التراث العربي القديم بنماذج من عشاق الكتب فمنهم من باع بيته، ومنهم من باع أثاث بيته، ومنهم من اضطر إلى بيع ثيابه طمعاً في شراء الكتب!

ومن أصدقائنا الببليومانيين المعاصرين المفكر الفرنسي الراحل روجيه جارودي (ت 2012) الذي قيل إن متوسط ما كان يقرأه في اليوم الواحد عشرة كتب! وقد قيل لسقراط، أما تخاف على عينيك من إدامة النظر في الكتب، فقال: إذا سلمت البصيرة لم أحفل بسقام البصر.

وكذلك كان القارئ والكاتب ونستون تشرشل (ت 1965) رئيس الوزراء البريطاني الأسبق الذي يبدو أن لديه فلسفة خاصة في التعامل مع الكتب، فهو يقول: «إذا لم تكن قادراً على قراءة كل كتبك فلاطفها، وحدق فيها، وافتحها كيفما اتفق، واقرأ من الجمل الأولى ما يشد نظرك، ورتب كتبك في رفوفها بيدك، رتبها على طريقتك الخاصة لتعرف أماكنها، ولتكن كتبك أصدقاءك ومعارفك».

ومن أشهر الببليومانيين أيضاً الورّاق العراقي الكبير الشيخ محمد طاهر السماوي (ت 1951) الذي كان ينسخ نفائس الكتب بخطه، وبعد وفاته اشترت مكتبة الإمام الحكيم العامة في النجف الأشرف قسماً من مكتبته الزاخرة بمخطوطات ثمينة.

ويروى أن السماوي كان قاضياً شرعيّاً نزيها، فما ارتشى في حكم قط، لكنه كان يحمد الله في سره أن بعض المدن التي عمل فيها في جنوب العراق لم تكن تعرف مقدار ولعه بالكتب المخطوطة وإلا فلو كان قد قدّم اليه - كما يقول - كتاب مخطوط على أنه رشوة لجار في الحكم!

وكانت للسماوي مكتبة عامرة بالمخطوطات، تشتمل على ألفى مجلد مطبوع، وألف من المخطوطات كثير منها بخط يده، وفيها كتب نفيسة، حسبما ذكر آغا بزرك الطهراني في «الذريعة». وبلغ من الخوف على مخطوطاته مبلغاً أدّى به إلى أن يتعلم فن التجليد؛ لأنه لم يكن يأتمن المجلّدين على كنوزه، فصار يجلدها بيده بجلدٍ أحمر.

وقد أثنى جرجي زيدان (ت 1914) على مكتبة السماوي، وقال انها «تجمع طائفة حسنة من المخطوطات وأكثرها في علم الفلك والرياضيات».

كذلك، من المعروفين بعشقهم للكتاب وجمعه الشيخ علي آل كاشف الغطاء (ت 1931)، الذي ورث مكتبة جدّ الأسرة الكبير الشيخ جعفر، وقد توسعت بما أضافه اليها من الكتب الحديثة حتى بلغ مجموع كتبها 8000 مجلد، وأما الكتب المخطوطة فهي ألف كتاب على ما يروي الخليلي في «موسوعة العتبات المقدسة».

وكذلك كان المير حامد حسين النقوي (ت 1889) أحد أبرز علماء القارة الهندية، وصاحب كتاب «عبقات الأنوار»، ولما كانت الكتب في مطلع القرن التاسع عشر ليست في متناول اليد؛ أنفق النقوي من وقته وماله الكثير في سبيل ملاحقة الكتب، وقد سافر في طلبها الى اليمن ومصر، بل كان يستغل سفره للحج في نسخ بعض الكتب في مكتبة المسجد الحرام أو المسجد النبوي.

وعندما جُمعت مكتبته بلغت أكثر من ثلاثين ألف كتاب بين مخطوط ومطبوع، وهي من أعظم مكتبات الهند الزاخرة بنفائس التراث الاسلامي وتُعرف اليوم بـ «المكتبة الناصرية».

إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"

العدد 4798 - الإثنين 26 أكتوبر 2015م الموافق 12 محرم 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 12:20 ص

      ليتني مصاب بداء القراءة

      هذا المرض الوحيد الذي اتمنى الاصابة به وهو الولع بالقراءة لكي اغذي نفسي وافيد الآخرين بما احصل عليه ولكن للاسف انا شخص ملول وقليل الرغبة في القراءة

    • زائر 3 | 12:17 ص

      جميل

      جميل يا أستاذ ... لا أفوت ماتكتبه اذا كان يحوي كلمة كتاب أو قراءة ... فغالبا ما تجيد الوصف بدقة في هذه المواضيع

    • زائر 5 زائر 3 | 5:13 ص

      اشكرك

      اشكرك ياصديقي.. هذا من حسن ظنك وجميل ذوقك. وسام

    • زائر 2 | 11:37 م

      مرض اعشقه

      انني احد المصابين بهذا المرض فلا شفيت منه أبد الدهر .

    • زائر 1 | 11:13 م

      آآآه ما أحلى رائحة الكتب!!!

      كنت منذ زمن قصير أعاني من هذا المرض ولكن في الآونة الأخيرة قررت أن أشتري ما سأقرأك فقط وإذا اكتشفت أنني أمتلك عددا من الكتب التي لن أرجع إليها اتبرع مباشرة بها إلى بياعي الكتب المستعملة حتى أجد في الوقت نفسه مساحة لكتبي الجديدة:)

اقرأ ايضاً