العدد 4795 - الجمعة 23 أكتوبر 2015م الموافق 09 محرم 1437هـ

سيرةُ كتاب: رواية «حين تركنا الجسر» لعبدالرحمن منيف

صورة رواية حين تركنا الجسر
صورة رواية حين تركنا الجسر

تكمن متعة قراءة الروايات الرمزية في خروجها عن المألوف طارحةً الكثير من إشارات التعجب والاستفهام، كألغازٍ تدفعك لإيجاد مفاتيح أسرارها. فهي ليست مجرد كلمات قصة عابرة واضحة المعالم والمعاني والصور، بل فيها تحد واضح لقدرة القارئ على الغوص في أعماقها لفهم ما وراء النص ليتمكن من تفسيره، ولكل قارئ - وإن تقاربت الأفكار أحياناً - تفسيره الخاص القائم على ثقافته وسعة معارفه ومدى انفتاح تفكيره. وكلما كبُرت هامة الكاتب ازدادت حدة التحدي.

لست من هواة الصيد! ولو لم أكن أعرف الكاتب الذي يُعد من كبار الروائيين والكُتاب العرب لعزفت عن مواصلة القراءة بعد بضع صفحات من البداية. لكن من يكتب هو هامة عالية، من يكتب هو عبدالرحمن منيف، وكي تُفهم الرواية لابد من الخروج عن سطحية النص.

الرواية تحكي قصة الصياد «زكي النداوي» وكلبه «وردان» والبطة الملكية الخيالية العصية على بندقيته. زكي من عاش زمن الهزيمة والصدمة واليأس والخيبة المتداخلة في حديثه مع نفسه بعبثيةِ الإنسان الضائع الذي يتفوه بالحماقات التي لا تجد سوى تبول كلبه وردان حالما يسمعها، وكذلك يفعل حينما يستمع لِحِكَمِ إنسانٍ فاشل، حالهُ كحالِ أمة أضاعت أعشاشها متخبطة تبحث بلا بصيرة عن مخرج آلام ولادتها العسيرة «العجز يسري في الدم، وسيأتي يوم لا ينسل رجال الأمة إلا الأقزام والمشوهين، الأقزام والمشوهون لا يعرفون إلا أن يموتوا رخيصين»، بعكس كل الطيور «الطيور مخلوقات جسورة، وتختلف عن الإنسان. فهي لا تتخلى عن أعشاشها» لا تثنيها العواصف أو الرياح ولا الثلوج أو الأمطار، ولا تُرهِبها بنادق الصيادين المتربصة. زكي رغم محبته لكلبه إلا أنه كان يعامله بسادية مفرطة فيضربه حيناً ويشد أذنيه وذيله حيناً آخرى ناهيك عن شتى أنواع الشتائم، تصرفات تعكس نفسه المعذبة بنار الهزيمة. لم يسلم كلبه وردان فقط من ذلك، بل مارس زكي بحق نفسه «المازوخية» من تقريع وشتم وعتب وحسرة. وفي ظل هذا الصراع النفسي المرير، يهرب زكي من واقعه وراء حلم كاذب لا يناله «ما أتعس الإنسان عندما يحاول إلقاء فشله على وهمٍ ما» تجسد في بطة أسطورية خلقها كإلهٍ تاهَ عنهُ هدفهُ. يبحث عنها في أحلامه وفي رحلات صيده، فوق الأشجار، وبين قصب المستنقعات. يسأل عن مواقع البط بغموض كي لا ينكشف سر بحثه ويُسرقَ منه حلمه الجميل الكاذب، وكلما دوت رصاصة في الأصداء سقط قلبه خوفاً من أن يكون أحد الصيادين قد سبقه إليها. يصِفُها بأسوء الكلمات، كيف لا!؟ فهو يعرف في قرارة نفسه أنه يجري خلف هدف لا وجود له، خلف حلم عصي المنال يسعى وراءه كل فاشل. كانت قريبة من عيني وهمه إلا أنها هربت، كيف ينالها وهي وهم! زكي في حالة شك دائم بحقيقة وجودها، طالما سأل كلبه هل رأيتها مثلي يا وردان! لكنه ينظر لزكي ببلاهة ويتركه مستهزئاً ليقوم بفعلته المتكررة ألا وهي التبول أينما ناسبه المكان. بعد أن تركوا الجسر الذي كاد أن ينقلهم للانتصار على العدو، جاءت الأوامر الصارمة الصادمة بالإنسحاب! ليعيش كل ذاك الجيل عار الهزيمة. الجسر! كيف لم ينسفوا ذلك الجسر الذي يرمز للعلاقة بين الإنسان والوطن الغصيب الضائع، كيف لا ينسف ذلك الجسر المقيت الذي نشأ بينه وبين من أصدر أوامر الانسحاب. الكل كان شريكاً في الهزيمة، لذا توجب نسف الجسر. فالجسور تقرب بين الشواطئ بمحبة كمن يمسك بكلتا يديه أرضاً ليقرب بين ضفتين، وكذلك جسور الرواية التي أراد أن يخبرنا عنها عبدالرحمن منيف فهي إن لم تُصل بين البشر، إن كانت عقيمة مهترئة، فلابد من نسفها ليتم بناء جسور جديدة على أسس سليمة غير مشوشة. كل الجسور التي صادفها زكي وإن كانت صامدة في وجه التيار إلا أنها مهترئة وسيتم جرفها ذات يوم من قِبل نهرٍ جرّار لتقام على أنقاضها جسور حقيقية كالتي أقامتها باقي الأمم المتحضرة.

رغم سوداوية زكي وبذاءة لسانه وعبثيته واختلال نفسه، وصبر كلبه وردان. إلا أنه يفيق من حلم صيدٍ كاذب وانتهاء صبرٍ تمثل بمقتل كلبه وردان حين صدمته صخرة بين الحشائش، تلك الصخرة مثلت صحوة الحقيقة. «إن للجسور أرواحاً، والجسور التي لا يبرها البشر لا يمكن أن تكون أمينة». يعود زكي لواقعه ليعيش حياته وسط زحام البشر وحزن وجوههم، إلا أنه شاهد جسوراً في عيون الرجال ومتأكد من أنهم سينسفون جسورَ أحلامٍ مكسورة، ليقيموا بنيان الأمة على أُسُسِ جسورِ تواصلٍ متينة.

إن الشعور بالهزيمة واليأس يقودان للتهلكة، فذلك كمن يركض وراء سراب كاذب فوق واقع مهترء معرضاً صاحبه للوقوع في تيارِ تاريخٍ هادرٍ جارف ستُطوى صفحاته ويغلفها النسيان. إلا أن عبدالرحمن منيف ورغم كل هذا اليأس ختم روايته بذكاء يعكس نفس الرواي المتمسكة بالأمل، فعلى الجميع السير بخطاً ثابتة نحو بناء الذات لاستعادة الإنسان الكامن فينا بشكل سوي، ومد جسور التواصل بين مختلف شواطئ النفوس البشرية فذلك حبل النجاة لتحقيق النهضة والتنمية واسترداد ضفافٍ وأراضٍ مغتصبة.

وليد النعيمي
وليد النعيمي

العدد 4795 - الجمعة 23 أكتوبر 2015م الموافق 09 محرم 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 2:31 ص

      جسور

      الاستاذ وليد خطواتك الحثيثة في توصيل الأفكار يكمن فيه النور لأذهاننا
      جميلة هي افكارك. شكراً لك. ام عطاء

اقرأ ايضاً