تبدو مدينة كربلاء العربية الإسلامية، بموقعها الفريد المتميّز، سُرة العراق للناظر المتمعن في خريطته السياسية، والمدينة في عراقتها التاريخية تضرب بجذورها إلى عصر الحضارة البابلية ( الألفية الثالثة، ق . م)، وتعددت تعريفات أسمها الذي عُرفت به منذ ذلك العصر الموغل في القِدم، ويبدو لي أن تعريف العلاّمة اللغوي المسيحي الكبير انستاس الكرملي (ت 1947) هو الأصوب، إذ يُعرّف اسمها بأنه مركب من مقطعين: «كرب»، بمعنى حرم أو مقدس، و«لاه» أو «إل» بمعنى الله، وبالتالي يغدو معنى الاسم «حرم الله» أو «مقدس الله»، وشاءت الأقدار أن يستشهد فيها الإمام الحُسين (ع) الذي يضم ثراها جسده الطاهر لتصبح اسماً على مسمى، وكانت القرية وقت واقعة الطف أشبه ببلدة زراعية مندثرة، لكن سرعان ما اُعيد إعمارها وتوسع في أعقاب الواقعة بقفزات مُذهلة على امتداد القرون التالية، حتى غدت من أكبر المدن العراقية، فبلغ عدد سكانها مطلع القرن العشرين نحو 60 ألف نسمة، فيما ينوف اليوم على مليون نسمة، غالبيتهم من العرب على رغم طابع المدينة الكوزمبوليتي بحكم كونها مقصد ملايين الزوار من مختلف الأقطار العربية والاسلامية وأصقاع العالم.
وبهذه الصفة ربما اعتقد كثرة من العرب والمسلمين أن كربلاء ليست سوى مدينة دينية عادية محافظة في عاداتها وتقاليدها لا يميزها عن غيرها من المدن العربية والاسلامية سوى أنها تخص أتباع الطائفة الشيعية لوجود ضريح الإمام الحسين (ع) فيها، في حين تُعد لمن يعرفها جيداً من أهم المدن العراقية والعربية حضاريّاً، لعبت ماضياً وحاضراً دوراً مهمّاً في نهضة العراق على مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية.
وإذا ما نحّينا جانباً إسهامها الكبير في الدخل الوطني من السياحة والانتاجين الزراعي والصناعي فهي ضمن صدارة المدن العراقية التي برز منها لفيف من النخبة العراقية في شتى التخصصات العلمية والأدبية والفنية من أدباء وروائيين ونقّاد وشعراء كبار وفنانين وعلماء في مختلف المجالات، بما في ذلك الفن الغنائي (على سبيل المثال هي مسقط رأس المطربة الكبيرة الراحلة زهور حسين وفنانين آخرين)، وعلماء في الطب والفيزياء والكيمياء والهندسة والآثار.
أضف إلى ذلك شارك أبناء وبنات المدينة في كل هبات وانتفاضات الشعب العراقي سواء ضد الاحتلال الانجليزي أم ضد الأنظمة الاستبدادية المتعاقبة وقدمت، في هذا الشأن تضحيات هائلة.
قبل بضعة أشهر تلقيت كتاباً أهداني إياه الصديق الكربلائي القاص والناشط السياسي سلام القريني بعنوان: «نادي الكتّاب في كتاب» يلقي إطلالة عابرة مكثّفة على ما تنبض به هذه المدينة العربية من حيوية متدفقة في شتى مجالات الثقافة والابداع والفكر والسياسة والاقتصاد علاوة على الأنشطة الدينية.
يستهل المؤلف كتابه بمقدمة عن الدور الذي يسهم به النادي منذ تأسيسه قبل اربع سنوات في تنشيط الثقافة داخل كربلاء واستضافته رموزها الابداعية الفنية والأدبية والثقافية والسياسية فضلاً عن الرموز العراقية بوجه عام، كما كان لتعاون مؤسسات المجتمع المدني مع نادي الكتّاب في المحافظة، مثل نقابات المعلمين، والصحافيين، واتحاد الادباء والكتّاب دور في تأسيس وتفعيل انشطة النادي، ولم يغفل النادي الاحتفال أيضاً بالمناسبات الدينية والوطنية كما جاء في كلمة جاسم عاصي، ومن الفعاليات التي احتضنها النادي: محاضرة عن ثورة 14 تموز (أيلول) للباحث عقيل الناصري، ومحاضرة عن الشهيد باقر الصدر للباحث علي التميمي، ومحاضرة للقيادي السابق في حزب الدعوة الذي انشق عنه متحولاً للتيار العلماني ضياء الشكرجي، ومحاضرة للعميد السابق لكلية الادارة والاقتصاد حاكم الربيعي عن اليسار. كما كان من اكثر عناوين الفعاليات لفتاً للانتباه: حوار بين غلغامش وثورات الشباب لناجح المعموري، الارهاب والقانون الدولي لقيصر المسعودي، أدب السجون للكاتب صباح حسن العقيلي.
ووصف الصديق فرقد عز الدين هذا الكتاب في مداخلته قائلاً: « يقدم صورة من اتجاه واحد للتعذيب ؛لأن كل التعذيب لم يره أحد كاملاً، فالنظام كان مقتدراً على ابتداع أنواع اخرى جديدة كل يوم».
وهناك اُمسيات اخرى متميزة استضاف فيها النادي مجموعة متنوعة من الروائيين والشعراء والشخصيات المثقفة المرموقة في المشهد العراقي، مثل شيخ الصحافة الأدبية ناظم السعود، وخيال الجواهري ابنة شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري، والباحث المسرحي عبدالرزاق عبدالكريم الذي شرح كيف تتحول شوارع المدينة إلى مسارح مكشوفة تجسد واقعة الطف خلال موسم عاشوراء، وهذا الباحث الذي يعود إليه الفضل في تأسيس «فرقة مسرح كربلاء» لديه مشروع طموح لتطوير المسرح الحسيني بآليات فكرية وفنية حداثوية تتخطى التقليدية.
ولعل ما يُلفت النظر أيضاً في أنشطة النادي أن الافلام الطويلة والقصيرة للهواة لها حضور في فعالياته وتُقدم مداخلات نقدية حولها، ولا يستثني النادي من اُمسياته الرموز النسائية المتميزة في مختلف ضروب المعرفة والإبداع.
وإذا كان من الصعوبة بمكان في هذه العجالة استعراض مجمل الفعاليات التي تناولها كتاب القريني، فمن باب أولى تناول خريطة المشهد الثقافي للمدينة برمته، فعلاوة على أنشطة نادي الكتّاب التي اقتصرنا على نماذج منها، هنالك عشرات المؤسسات الثقافية والدينية التي تزخر بها المدينة، نُذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: ملتقى الرافدين للثقافة والحضارة والذي استضاف مؤخراً القاص البحريني أحمد المؤذن، ومهرجان ربيع الشهادة العالمي الذي تنظمه العتبتان المقدستان الحسينية والعباسية ويتضمن معرضاً للفنون التشكيلية وآخر للخط العربي ومسابقة للأفلام، وقد استضاف العام الماضي الزميل قاسم حسين، والمؤتمر السنوي الدولي لحفظ التراث والمخطوط، واستضاف في دورته الأخيرة الزميل وسام السبع.
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 4795 - الجمعة 23 أكتوبر 2015م الموافق 09 محرم 1437هـ
شكرا
مقال ممتع ورائع ... سلمت يا ابا هيثم
10
موضوع شيق..سلمت