ربطت المدارس الإغريقية السياسة، بمدرسة الأخلاق، والمعنى يشير إلى أن أي فعل سياسي، ينبغي أن يكون نبيلاً ومحكوماً بمنظومة قيمية، تمنعه من الانفلات، لكن التعريف الشائع للسياسة، باعتبارها فنَّ الممكن، أحدث تغييراً في وظيفتها، وجعلها مرتبطة بقانون المنفعة. لقد غدت السياسة عملاً برغماتيّاً، وغدت البرغماتية صفة ملازمة للسياسي الناجح.
ومع نشوء الإمبراطوريات والدول، وتعقد وظائف الحكم، ارتبط المفهوم السياسي، ارتباطاً عضويّاً، بفن إدارة الدولة، وأمست مهمة العلوم السياسية، الاهتمام بسياسات الدول، وبميكانيزمات إدارة الدولة، وعلاقتها بمجتمعها، وأيضاً سياساتها تجاه الخارج.
تصيغ الدول سياساتها، بناء على جملة من المعطيات الذاتية والموضوعية، ويمارس السياسيون تنفيذ أجنداتهم، في الداخل والخارج بكل ما هو ممكن، وكل شيء مشروع من أجل تحقيق تلك الأجندات، فالقسر والإكراه، والتلويح بالجزرة والعصا، أدوات لا يتردد القادة السياسيون في استخدامها، متى ما مكنتهم من تنفيذ أهدافهم.
وعبر التاريخ، شنت الحروب من أجل تحقيق غايات سياسية محددة، وتُشن الحروب عادة، عندما يفشل القادة السياسيون، في تحقيق أهدافهم من خلال المفاوضات، ولذلك تعتبر الحروب أعلى أشكال المفاوضات، وأكثرها سخونة، إذ يفرض الطرف الأقوى شروطه، من خلال فوهات البنادق. وعلى هذا الأساس، فإن الحروب هي في المجمل أدوات في خدمة السياسة، فعلى رغم اختلاف النظريات وثرائها، حول أسباب اندلاع الحروب، فإنها في النهاية، وعلى رغم اختلاف مساربها، تلتقي جميعاً، عند السياسة كعامل رئيسي لاندلاع الحروب.
قيل في تفسير أسباب الحرب، إن الدول الكبرى، تشن الحروب من أجل السيطرة على ثروات الشعوب، وبشكل خاص المواد الخام، والاستيلاء على الممرات والمعابر الاستراتيجية، وينسحب ذلك على الحروب الاستعمارية، وقيل إنها تتم بدوافع دينية، كحال الحروب الصليبية، لكن آخرين، أصروا على أن الحروب تشن لأسباب اقتصادية، إما مدفوعة بنزوع التوسع، أو بسبب ندرة الموارد، وربط بعض المنظرين، أسباب الحرب بالأزمات الداخلية.
إن الحكومات التي تتعرض لأزمات داخلية حادة تلجأ إلى شن حروب خارجية، من أجل تسعير المشاعر القومية، بإيجاد عدو خارجي، يجتمع حول مواجهته جميع أفراد الأمة.
وميز الفلاسفة بين الحرب العدوانية والحرب العادلة، فالحرب العدوانية، هي بطبيعتها استعمارية وعنصرية وتوسعية، وتمثل عدواناً من القوي على الضعيف. أما الحرب العادلة، فتهدف إلى الدفاع عن النفس، ورد العدوان، والانتصار للكرامة الإنسانية، وتدخل في نطاقها حروب التحرير، وهناك من صنف الحروب الاستباقية، في خانة الحرب العادلة؛ لأنها تأتي رداً على عدوان محتمل.
لكن هناك من رفض مناقشة أسباب الحروب، وفق المعايير القيمية، ورأى أن مهمة الباحث والمحلل، هي المساعدة على فهم الظروف التي تشتعل فيها الحروب، وليس اتخاذ موقف منها؛ لأن التفسير القيمي، يمثل موقفاً، والموقف يمثل انحيازاً، والانحياز يتنافى مع الحياد والطبيعة العلمية، التي ينبغي أن يتحلى بها الباحث.
رأى كثير من المفكرين، أن الحروب ستستمر، مادام النوع الإنساني مستمرّاً، ورفض آخرون هذه الفكرة، ورأوا في اندلاع الحروب دليلاً على غياب العدل، وعدم توصل الإنسانية، إلى نظام يحفظ الأمن والسلم في العالم، في حين فسر آخرون، ظاهرة الحرب، بوقوف (غائية) خلفها لحفظ التوازن، بين ندرة الموارد، وبين عدد السكان. وشبهوها بظاهرة الكوارث والأوبئة التي تضطلع بتثبيت هذا النوع من التوازن، لكن هذه القراءة ينقصها وعي التطورات الهائلة التي حدثت في العلوم البيولوجية، في العقود الأخيرة، وما حققه التطور البشري من طفرات على صعيد توفير الغذاء للبشر.
في نظريات الدورة التاريخية، هناك قراءات من النوع الحتمي للحروب، يشير بعضها إلى أن البشرية، تشهد حتماً حرباً كبرى كل مئة عام، لكن الفترة الزمنية هذه ليست موضع اتفاق، فهناك من ذكر أنها تحدث كل خمسمئة عام، ومن قال كل مئتين، ومن قال كل مئة عام، لكن أحداث القرن العشرين، دحضت نظريات الدورة التاريخية، إذ شهد القرن الماضي حربين عالميتين مدمرتين، هما أكثر الحروب فتكاً وتدميراً في التاريخ الإنساني.
نجادل هنا، ومن خلال الرصد التاريخي، أنه ليس يكفي أن تكون القوة العظمى هي الأقوى اقتصاديّاً، بل إن الحرب شرط لازم، لتتويج هذه القوة، على رأس صناعة القرارات الأممية، وتأسيس نظام عالمي جديد. فهذا النظام يصنعه في الغالب المنتصرون، كما حدث في الحربين الكونيتين.
ودليلنا على ذلك، أن الأزمات الاقتصادية قد أودت بالاتحاد السوفياتي، مساهمة، بنهاية الثمانينات من القرن الماضي، في سقوط جدار برلين، والكتلة الاشتراكية، ولاحقاً الاتحاد السوفياتي.
لكن لحظة تتويج الولايات المتحدة، كقطب عالمي أوحد، لم تتحقق إلّا بعد هزيمة الجيش العراقي، في حرب الخليج الثانية، بقيادة الولايات المتحدة، وبزعامة الرئيس جورج بوش الأب، وكانت مرحلة استثنائية في التاريخ الإنساني، لم تعمر طويلاً. فالعلاقات الدولية، حين تنفرد بالهيمنة عليها، قوة وحيدة تعيد حضور قانون الغابة، ويختل فيها الأمن، ويسود فيها الانفلات، وقد تناولنا ذلك بشيء من التفصيل في أحاديث سابقة.
عودة التعددية القطبية، بعودة قيصر روسيا بقوة إلى المسرح الدولي، لن تكون استثناء عن القاعدة، فهذه العودة لن تكون حقيقية، ما لم تتوج بنصر عسكري حاسم، تحققه روسيا في ميدان أو أكثر، من ميادين الصراع الدولي، ولعل هذه القراءة تفسر لنا، أسباب الأزمة الأوكرانية، وأيضاً التدخل الروسي في سورية، تحت لافتة مكافحة الإرهاب.
وفي كل الأحوال، فإن مجال الحرب هو السياسة، والعلاقة بين السياسة والحرب، هي علاقة جدل، ولسوف تستمر الحروب إلى الأبد، مادام صراع الإرادات مستمراً، معبرة عن اختلال في توازنات القوة، واختلافات في المواقف والرؤى السياسية.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 4794 - الخميس 22 أكتوبر 2015م الموافق 08 محرم 1437هـ