مرَّ عامان، والمنبر خالٍ من عميده لموسميْن في محرَّم الحرام، بعد رحيل العلامة الخطيب والقاضي الشيخ أحمد خلف العصفور، في 12 أكتوبر/تشرين الأول 2014 (17 ذي الحجة 1435). من فضائه المُشبع بالحزن، وصوته العذب، وقدرته على رسم الألم والمحنة وتصويرها عبْر مدى ذلك الصوت الذي لم يشبه سواه. صوت يختزل المسافة بين تاريخ مُوجع، وسيرة فيها المُعجز من التضحية والبذل الذي لا يعرف المنَّة أو السأم.
«صدى الرحيل»... كلمات وفاء وعرفان، كتيِّب صدر بمناسبة الذكرى السنوية لرحيل العلَّامة العصفور، تضمَّن جانباً من سيرته، وكلمات التأبين التي ابتدأت بولي العهد، نائب القائد الأعلى، النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء، صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة، وانتهاء بعضو مجلس الشورى السابق، علي العصفور؛ علاوة على مقالات، ورثاء من قبل عدد من علماء الدِّين والشعراء.
المنبر الحسيني وقضايا الوحدة الإسلامية
طوال عقود، كان العلاَّمة العصفور يحرص في كثير من تناولاته ضمن فضاء المنبر الحسيني، وحتى منبر الجمعة، على تناول موضوعة الوحدة الإسلامية الجامعة لمكوِّنات الأمة، ويجد في تلك المناسبة (مناسبة استشهاد الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء)، فرصة للتلاحم والتآزر والتكاتف، وصدِّ الأصوات التي تدعو إلى الفرقة، وتهييج الرعاع للمساس باستقرار الأمة وتآلفها. وفي تناوله لهذا الموضوع في خطب الجمعة، كثيراً ما دعا خطباء المنبر الحسيني إلى الالتزام برسالة الحسين عليه السلام، والتركيز على القضايا التي تزخر بها النهضة الحسينية من الدعوة إلى الخير والمعروف، والحثِّ على الالتزام بقيم الدِّين والأخلاق، وطرح القضايا التي تجمع الكلمة، وتوحِّد المسلمين، وتلمُّ شمْل الأمة. كما كان كثيراً ما يستشهد، وبشيء من التأثر لغياب تلك المظاهر التي بدأت تنحسر وتتلاشى، بالتنوُّع الذي كانت تزخر به تلك المجالس التي يحضرها أبناء المذهبين الكريمين في العهود السابقة، مورداً في إحدى خطب الجمعة أنه «كان يقرأ مجلساً خاصاً بإخواننا من أهل السنة، الذين كان المأتم يمتلئ بهم»، متسائلاً: «أين هي تلك الأيام التي كانت تجمع أهل البحرين سنة وشيعة في مآتم العزاء؟».
تحذيره من الفكر التكفيري
لم يكن العلامة العصفور بمنأى عن الموضوعات التي تشغل حيِّزاً من الهمِّ والقلق لدى المسلمين على اختلاف مذاهبهم، وخصوصاً الآفة الكبرى، والوحش الذي عاث فساداً في بنية استقرار وتفكير وأداء العالمين العربي والإسلامي، ألا وهو التكفير الذي لم يكتفِ بأكوام من الفتاوى المُستخلَصة من تاريخ مريض؛ بل تجاوزها إلى إباحة الدم الحرام - بشكل عملي - وانتهاك الحرمات، وإشاعة الرعب، والتحريض على الإبادات، وصولاً إلى تعميمها في أكثر من قِطْر، والتفنُّن في إتيانها، مما لم يأتِ به السابقون ولا اللاحقون سواهم؛ ناهيك عن مكنة إعلامية تفحُّ وتحرِّض على كراهية مكونات بات تكفيرها أسهل من ابتلاع كبسولة!
مشيراً العلامة العصفور إلى أن «هذا الفكر المنحرف كان يشكِّل خطراً حقيقياً يهدِّد سلامة الإسلام والفكر الإسلامي، ولكنه الآن في هذه الأوقات بات أكثر خطراً وأعظم ضرراً؛ إذ أعطى أيضاً صورة مشوَّهة للدين الإسلامي لباقي الأمم»، والأمور ضمن هذا المنحى في تصاعد وتعقيد، ولها من الحاضنات الكثير، ومن الأموال مدَد تطيل أمد ممارساته وجنونه.
وبشأن الموضوع الطائفي الذي ينخر في بنية أي أمة، كانت له وقفات في هذا الشأن، وخصوصاً ما مرَّت وتمرُّ به بلاده من تحوُّلات لم تكن معهودة في التعاطي مع مثل هذه الموضوعات الحسَّاسة التي متى ما تم إقرار ممارساتها، كانت الأمة أقرب إلى ضعفها وتفتُّتها وانكشاف جبهاتها الداخلية، مشيراً في هذا الشأن إلى أنه «طوال السنوات السابقة مع ما شهدته البلد من حوادث سياسية إلا أن الطائفية لم تُقحَم بهذا الشكل»، مُستعرضاً المغفور له العصفور في الخطبة نفسها، ما مرَّ به من تجارب في القرى والمدن البحرينية، من خلال المعايشة بين الطائفتين الكريمتين من السنة والشيعة في البحرين، قائلاً: «كان أبناء الطائفتين الكريمتين يعيشون في أماكن مُختلطة جنباً إلى جنب، السنّي إلى جانب الشيعي، والشيعي إلى جانب السنِّي، يأتمن بعضهم إلى بعض، ويأتمن الرجل السني عائلته لدى الشيعي والعكس، وكانوا يعيشون كأسرة واحدة لم يفرِّق بينهم شيء».
الذهاب في السيرة
في الذهاب إلى سيرة العلاَّمة العصفور الذي وُلد في دار كليب في العام 1345هـ، وقوف على محطات، جاب فيها الأمكنة. لم يستقر به مكان، ولم يستقر في مكان. تلك الانتقالات، ستُحدِث انتقالاتها أيضاً في شخصية الرجل، ورصيده المعرفي، وتجاربه المليئة بالغنى والثراء.
في تقليب أسماء الذين تلقى عنهم العلم والمعارف، نحن أمام قائمة من الأمم لا أمة واحدة، باستثناء من تلقَّى عنهم العلم في البحرين، ومن بينهم استثناء أيضاً: الشيخ عبدالحسين الحلِّي، ومن أهل محلَّته: الشيخ عبدالحسين آل طفل، الشيخ محمد علي آل حميدان، الشيخ عبدالله آل طعَّان، والشيخ إبراهيم المبارك، والذي صاحبه أول الأمر للالتحاق بحوزة النجف الأشرف، التي تركها بعد فترة.
في العراق كانت ذلك التنوُّع في الأستاذة والمراجع الذين تلقَّى عنهم العلوم، رافداً له في تنوُّع قدراته وإمكاناته ومواهبه، بين الخطابة والقضاء، والتصدِّي للفتوى؛ والأهم ذلك كله، قدرته على أن يكون وسطياً (بحسب ما يصفه مريدوه، والذين خالطوه، وحتى أولئك الذين يعرفون حنكته وحكمته وصبره وأناته في كثير من الأمور والقضايا). في النجف الأشرف تلقى العلوم عن كل من: الشيخ عبدالوهاب الكاشي، الشيخ باقر بوخمسين، الشيخ باقر شريف القرشي، السيد باقر الشخص، الشيخ علي زين الدِّين، السيد عبدالكريم الكشميري، الشيخ أسد حيدر، الشيخ جواد القسَّام، الشيخ عبدالكريم الفرج، الشيخ حسين الشيخ محمد خليفة، السيد محمد جمال الدِّين الهاشمي، السيد محمد علي الحجَّة الحمَّامي، الشيخ علي بن يحيى، الشيخ عباس المظفر؛ فيما حضر بحث الخارج لدى: السيد محسن الحكيم، والسيد أبوالقاسم الخوئي.
وبحسب جانب من السيرة التي وردت في كتيِّب «صدى الرحيل»، تعلَّم الشيخ العصفور الخطابة الحسينية لدى العلَّامة الشيخ محمد علي آل حميدان، وكان أول تعاقد معه لقراءة محرم وصفر في العام 1363هـ، بمأتم الحاج علي بن أحمد بفريق «الحيَّاك» بالمحرق، ثم أخذ نجمه يعلو في سماء الخطابة الحسينية في البحرين ودول الخليج والعراق والمحمَّرة والقصبة والبصرة وقم المقدَّسة وخراسان ولبنان، وقد قرأ في العراق وإيران نحو ثلاثين عاماً؛ مُشكِّلاً بذلك مدرسة خطابية فريدة ومتميزة، أخذت منحى الدرس في النعي، دون إهماله تنوُّع موضوعاته، مع تميُّزه بسهولة الطرح وبساطته التي تجمع حوله مختلف مستويات الوعي والمدارك.
على منصَّة القضاء
يأخذنا التنوع في إمكاناته وملكاته إلى تصدِّيه للقضاء الشرعي وصلاة الجمعة؛ إذ تولى القضاء في العام 1375هـ، معيَّة الشيخ عبدالحسين الحلِّي، المتوفى في العام 1375هـ، وكان وقتها رئيس القضاء الشرعي، ومؤسس الأوقاف الجعفرية، وكذلك العلاَّمة الشيخ باقر العصفور، المتوفى في العام 1399هـ (1979م)، والشيخ منصور الستري، المتوفى في العام 1421هـ. وتدرَّج في مناصب القضاء ليُعيَّن رئيساً للمحكمة الكبرى في العام 1392هـ، ثم قاضياً في محكمة الاستئناف الجعفرية العليا في العام 1397هـ، ثم وكيلاً لها فقائماً بأعمال رئيسها؛ وصولاً إلى درجة مستشار للمجلس الأعلى للقضاء في العام 1425هـ. تولَّى صلاة الجمعة بعد وفاة عمِّه (والد زوجته الأولى) الشيخ إبراهيم المبارك في العام 1399هـ (1979م).
نال العلامة الراحل عدداً من الإجازات من قبل كبار المراجع من بينهم: الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، الشيخ إبراهيم المبارك، الشيخ عباس المظفر، الشيخ محمد رضا الكلبيكاني، السيد علي الحسيني الفاني، السيد شهاب الدِّين المرعشي النجفي، السيد أبوالقاسم الموسوي الخوئي، الشيخ محمد طاهر آل شبيبر الخاقاني، الشيخ سلمان بن عبدالمحسن الخاقاني، الشيخ محمد على الأراكي، الشيخ محمد فاضل اللنكراني، السيد محمد الحسيني الوحيدي، والشيخ عباس طسوجي.
له عدد من الآثار المطبوعة: «مزاد الحرمين»، «بذل الجهود في ردْع أعدائنا واليهود»، «معركة المسلمين في التاريخ»، الذكرى الخالدة»، و «المسائل الدينية في حلقات».
رثاه عدد من علماء الدِّين والشعراء والخطباء من بينهم: الشيخ عبدالمحسن عطية الجمري، السيد علوي الغريفي، عبدالله أحمد آل رضي، عبدالله القرمزي، الشيخ علي المبارك، محمد هادي الحلواجي، وغيرهم؛ علاوة على عدد كبير من المقالات التي تناولت سيرته ودوره الوطني، وروحه الجامعة، والإنجازات التي قام بها في مختلف أوجه ومجالات الحياة في بلاده.
شهد يوم تشييعه، وإقامة مجالس العزاء حضوراً كبيراً من مختلف فئات المواطنين والمقيمين، بمن فيهم الوزراء والسفراء وكبار المسئولين.
ويظل عزاء الإنسان أنَّ الأثر باقٍ، وللرجل من الأثر الكثير الذي يحفظه في قلوب محبِّيه ومُريديه، وحتى أولئك الذين لم يلتقِ بهم، بنفح السيرة العطرة، والروح التي أفاضت الكثير على من حولها.
حتى الأماكن والزمن يشعر بمن كان يحتويه. المغفور له العلامة العصفور، كان ممن يملأ الأمكنة والأوقات التي يحضرها. بتلك الأريحية، والتواضع الجم، والحنو الذي لا حد له، والعلم الذي لا استعراض فيه أو إدِّعاء، وما جُبِل عليه من هدوء وسكينة يمكن رؤيتهما بالعين المجردة، والقلب في توجُّهه. في ظل رحمات الله هو مُقيم، وبفردوسه محاط.
العدد 4794 - الخميس 22 أكتوبر 2015م الموافق 08 محرم 1437هـ
رحل العميد ودمع العين كالمطر
قدس الله نفسه الزكيه
بوعلي
الله يرحمه بواسع رحمته ويسكنه الفسيح من جناته ويحشره مع آل البيت عليهم السلام
رحمك الله يا ايه الاب الحنون
رحمك الله ايها الاب الحنون
رحمك الله ياعميد المنبر الحسيني
نعم نفتقدك ايها الشيخ الجليل ويفتقد المنبر الحسيني ، كنت الناعي والمعزي والشاعر والباكي في آن واحد ، وكل هذا بلا تكلف ولا تقاخر ، بل كنت أقرب الناس في المجلس للإصغاء لما تقول ..... عجبي ما عرفنا قدرك فظلمك الجهال بإدعاءات واهية حبا في الدنيا ...... وسيكررون خطأهم مع غيرك لا محاله ..... ولكن إرتفعت بالحسين ذكرا ومجدا ونهاية ، رحمك الله وأسكنك مع الحسين ان شاء الله .