يذكر المؤرخ الأميركي روبرت بالمر أن «إلغاء الرِّق دون تعويض المستعبِدِين، كان التدمير الأكبر للممتلكات الخاصة في تاريخ العالم الغربي». نظرة تنطلق من الروح العنصرية التي تكون فيها حسابات الربح والخسارة هي على رأس الأولويات. لم يتحدث بالمر عن عذابات ملايين ممن تم شحنهم من إفريقيا، وتمت معاملتهم بأساليب لا ترقى إلى معاملة الحيوان. تلك مسألة تظل ثانوية وربما دون ذلك بكثير.
لاشيء أفضل وأكثر تحصيناً للذاكرة من الكتب والمتاحف. ذلك ما تسعى إليه مدينة ريتشموند عاصمة ولاية فرجينيا: إنشاء متحف يتتبَّع طريق الرقيق، بدءاً من بيوت المزادات، ومساكن الرقيق، والكنيسة التي كانت قلب مجتمع السود في ريتشموند قبل الحرب الأهلية.
تم إنشاء لجنة ريتشموند لغرض تتبّع المسالك والدورب التي مر بها الرقيق، ابتداء من الأحواض على طول نهر جيمس، وتتبُّع المسار الذي سلكوه وهم يرسفون في القيود بشكل جماعي، وما سببه ذلك من تعثرهم والإجراء الذي يعقب ذلك.
تعثر المشروع لسنوات، وبدأت فكرته منذ العام 2001، إلا أن مديونية المجلس المحلي للولاية، والضرائب المتراكمة، ومحاولة إعلان الإفلاس التي رفضت أخَّرت إنجازه.
تقرير في «واشنطن بوست»، كتبته سوزان سرلوغا، مضى عليه زمن، وتحديداً في 21 مارس/آذار 2014، وفي ظل أنباء عن معاودة تنشيط ملف المتحف، ننشر أهم ما ورد فيه.
الطريق... القصص
كان الهدف متواضعاً أول الأمر: إلقاء الضوء على فصل مظلم وخفي من تاريخ هذه العاصمة الكونفدرالية (فرجينيا)؛ إذ أعلنت لجنة في مجلس مدينة ريتشموند لتتبّع طريق الرقيق في حي بمنطقة شوكو، اكتشافها قصصاً وآثاراً لم تعرف من قبل، تعرضت لدور ريتشموند كمركز لتجارة العبيد في الولايات المتحدة: بيت المزاد. حبل المشنقة. السجن. وتدريجياً، نمت الفكرة بإنشاء موقع تاريخي، من قبل كل من الولاية والمدينة، واحتمال وجود فرص لتمويل جهود الساعين لإقامة المشروع؛ بل تجاوز الأمر ذلك، بالحديث عن بناء «متحف الرقيق».
لكن السؤال المحيِّر الذي يخيِّم على المشروع: هل يمكن لحاكم فرجينيا السابق ل. دوغلاس وايلدر، والذي انهار طموحه في أن يرى مقترحه بإنشاء متحف الرقيق وسط جدل الدَّين، أن ينضم إلى جهود اللجنة، أو يتنافس معها؟
وايلدر أشار مؤخراً إلى اهتمامه بالحدث من خلال كتابة مقال افتتاحي في «ريتشموند تايمز ديسباتش» تحت عنوان «حدِّدوا موقع متحف الرقيق في شوكو». مشاركة وايلدر ستمنح مكانة وطنية للحدث؛ علاوة على الاتصالات السياسية التي قَدْ تنشأ في مراحل العَمَل عليه: باعتباره أول أسْود تم انتخابه حاكماً للبلاد، إلى جانب الكاريزمية التي يتمتع بها، واعتياده التحدث بشكل واضح وصريح.
يُذكر أن شوكو، منطقة في ريتشموند، بولاية فرجينيا، وتقع إلى الشرق من وسط المدينة، بامتداد نهر جيمس، بين «هضبة شوكو» وكنيستها، وتتضمَّن الكثير من الأراضي المُدرجة في خطة المقدَّم «وليام مايو» في العام 1737 بريتشموند؛ ما يجعل المنطقة واحدة من أقدم أحياء المدينة.
بدأت تنمية المنطقة في أواخر القرن الثامن عشر، وذلك بعد بدء التنمية في عاصمة الولاية (ريتشموند)، وساعدت على بناء جسر مايو، عبر نهر جيمس. كما تعتبر موقعاً مهماً لبُنى صناعة التبغ الرئيسية، ومستودعاً عاماً، وجهة تصدر عنها المقاييس المطلوبة في مجال صناعة التبغ، وبها دار الجمارك الاتحادية.
كانت المنطقة خلال القرن التاسع عشر، مركز تجارة ريتشموند مع السفن التي يتم سحبها إلى الميناء من نهر جيمس. ويتم إيداع البضائع القادمة من تلك السفن في مخازن المنطقة، ومن ثم يتم تدولها في وادي شوكو.
وقال وايلدر في مقابلة سابقة، إن شوكو ستكون المكان المثالي للمشروع الذي حاول لأكثر من عقدين من الزمن استقطابه ليؤتي ثماره. وتم سؤاله في الآونة الأخيرة عن الدور الذي كان يسعى إلى القيام به، وقال بنبرة اعتراض في الافتتاحية المشار إليها، إن دوره يجب أن يتحدث عن نفسه.
وفي رسالة بالبريد الإلكتروني، قال المتحدث باسم عمدة ريتشموند، دوايت سي. جونز (من الحزب الديمقراطي)، والذي يرعى الجهود الرامية إلى إعادة تطوير شوكو عندما سئل عن وايلدر: «من السابق لأوانه القول ما هُو الدور الذي يمكن أن يلعبه. أي شخص سيكون له دور بطبيعة الحال. حاكم الولاية تيري ماكأوليف (من الحزب الديمقراطي) تجنَّب الخوض في المسألة، قائلاً من خلال المتحدث باسمه، وايلدر «كان قائداً بارزاً» في قضية تذكُّر بتاريخ الرّق في ولاية فرجينيا. يدعم ماكأوليف جهود وايلدر للحفاظ على تاريخ ريتشموند وتراثها؛ حيث تواصل المدينة نموها، وتدخل مرحلة جديدة من التنمية الاقتصادية». وقالت مندوبة الولاية، والتي تترأس لجنة تعقُّب درب الرقيق، ديلوريس إل ماكوين، بأنها لم تتحدَّث مع وايلدر بشأن منحه دوراً قيادياً في مشروع المتحف، ولكنها ترحِّب بمشاركته.
العقبات... الفرص
يسعى جونز إلى جمع 30 مليون دولار لـ «موقع تراث الرّق والحرية» كجزء من جهد يبذله القطاعان العام والخاص لجمع 200 مليون دولار، لإعادة تطوير الحي في منطقة شوكو، على امتداد نهر جيمس، وهو على بعد بضع مبان من مقر مجلس الولاية. وسيتضمن المشروع ملعباً للكرة وفنادق، وشققاً ومحلات تجارية وبنية تحتية مصممة لمساعدة المنطقة المعرضة للفيضانات.
حتى الآن، التزم مجلس مدينة ريتشموند بمبلغ خمسة ملايين دولار، إلى جانب 11 مليون دولار تم تضمينها الموازنة العامة للولاية، في انتظار موافقة الجمعية العامة، مع تعهُّد قادة الأعمال بضخ مبلغ إضافي يصل إلى 15 مليون دولار.
وفي الوقت نفسه، هنالك صفقة يجري العمل عليها لبيع أراضٍ في فريدريكسبيرغ تم التبرع بها لمشروع وايلدر قبل سنوات؛ ما يسمح للمجموعة العاملة على المشروع سداد ملايين من الدولارات هي عبارة عن ديون وضرائب.
هناك عقبات أيضاً، فالأراضي المقرر بيعها لن تكون إجراءاتها جاهزة حتى يونيو/ حزيران، وليس من الواضح ما إذا كانت الأموال التي تم جمعها، واللازمة لتدشين المتحف يمكن أن تزيد خلال الفترة المقبلة، ثم إن بعض جوانب المشروع في شوكو قوبل بمعارضة شديدة؛ لكن تظل فرص إنشائه قائمة.
بالنسبة إلى ماكوين ووايلدر، اللذين ترعرعا في ريتشموند، وينحدران من العبيد، تظل فكرة المتحف مسألة شخصية بشكل عميق؛ علاوة على مضمونها الوطني.
تذكرت ديلوريس ماكوين قصة كان والدها قد أخبرها بها عن والده (جدُّها)، والذي سعى من أجل الحصول على سجلات من مالك عبيد سابق، في محاولة منه للوقوف على جذور عائلته. وأخبر المالك السابق جدَّ ماكوين «إذا كنت تريد السجلات، فهي هنا». ثم أشعل ثقاباً، وأسلم الأوراق للنار.
وفي أسرة وايلدر، قصة ضمن مجموعة منها، تحكي عن الكيفية التي تم فيها بيع جدَّته لمزارع في مقاطعة هانوفر، وكان على جدِّه أن يقطع عشرين ميلاً سيراً على الأقدام لرؤيتها كلما وسعه ذلك.
وكتب وايلدر في مقاله الافتتاحي بـ «ريتشموند تايمز ديسباتش»: «إذا كان سكَّان هذه الولاية ليسوا على علم بما جرى من أهوال لحقت بالبشر على أرضنا، فكيف يمكن للأميركيين في أي مكان آخر أن يكونوا على بيِّنة من هذا الواقع؟».
درب الدموع
في منتصف القرن الثامن عشر، تم شراء مزيد من العبيد وبيعهم في ريتشموند، أكثر مما كان يتم في أي مدينة بالولايات المتحدة باستثناء نيو اورليانز.
وأشارت ماكوين إلى ما حدث في ظهيرة أحد الأيام، بمنطقة شوكو؛ حيث تم شنق عبد يُدعى غابرييل في العام 1800، بتهمة التخطيط لانتفاضة، في مكان ليس بعيداً من حدث آخر قبل ربع قرن من ذلك التاريخ، حين حث باتريك هنري، قوات فيرجينيا على الانضمام إلى الثورة الأميركية، وأطلق عبارته الشهيرة «أعطني الحرية أو أعطني الموت».
إلى ذلك، قال نائب مدير جامعة فرجينيا للشئون الأكاديمية، موري مسينيس: «وحتى تبدأ اللجنة دراسة كل هذه الأمور بتفاصيلها، تلك المتعلقة بمشروع المتحف... أراهن أن معظم الريتشمونديين ليس لديهم فكرة عن المشروع وأهدافه».
ضوء على المتحف
يُذكر أن المتحف الأميركي الوطني للرقيق، مؤسسة غير ربحية مقرها في مدينة فريدريكسبيرغ بولاية فيرجينيا. تم حشد وتنظيم حملات التبرع منذ العام 2001 لإنشائه. ويهدف المتحف إلى أن يكون له دور يتحدد في مهمة التعليم الابتدائي، وإعادة التعليم، ووضع السياسات المتعلقة بالعبودية في أميركا. ويعد حاكم ولاية فرجينيا السابق دوغلاس وايلدر هو المؤسس لفكرة المشروع. إلا أن المشروع - عملياً - انتهت المحاولات بشأنه في العام 2008؛ بسبب عدم القدرة على جمع الأموال الكافية لدفع الضرائب على الممتلكات؛ ناهيك عن بدء البناء. وفي 22 سبتمبر/أيلول 2011، رفعت المؤسسة دعوى طلب الحماية لدى محكمة الإفلاس في مدينة فريدريكسبرغ، وفقاً للفصل الحادي عشر؛ إلا أن الطلب تم رفضه من قبل المحكمة.
في العام 2005 حدَّد مجلس مدينة فريدريكسبيرغ موعداً نهائياً لبدء البناء قبل الأول من أغسطس 2008، من أجل أن يحتفظ المشروع بتصريح خاص يسمح للبناء أن يتجاوز شروط التخطيط في الارتفاع. وفي يونيو/حزيران 2008، ظهر دوغلاس وايلدر (وكان وقتها عمدة ريتشموند) مستبقاً مجلس المدينة طالباً إعفاء من دفع الضرائب العقارية (بأثر رجعي إلى 2002)، إلا أن طلبه رُفض في 24 يونيو 2008، من خلال عملية تصويت كانت نتيجتها 6 مقابل صوت واحد.
ضوء على الرِّق
يشار إلى أن الرِّق في الولايات المتحدة اتخذ صفة المأسسة، بموجب التشريعات. انتشر في أميركا الشمالية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، واستمر في الولايات الجنوبية حتى إقرار التعديل الثالث عشر لدستور الولايات المتحدة في العام 1865 نتيجة للحرب الأهلية. كان هذا الشكل من العبودية يتمثل في إخضاع العمال الذين يتم شراؤهم من تجار الرقيق في إفريقيا لاستخدامهم كخدم وعمال في مزارع المستعمرات. وكانت فرجينيا أول مستعمرة انجليزية استقدمت العبيد إلى أميركا الشمالية في العام 1619، بعد وصول سفينة تحمل 20 إفريقياً؛ إذ كانت بمثابة نقطة الانطلاق لانتشار الرق وصولاً إلى المستعمرات الإسبانية في أميركا الجنوبية.
في الفترة ما بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر تم نقل ما يقرب من 12 مليون إفريقي إلى الأميركتين، ونقل منهم ما يقارب من 664 ألفاً إلى الأقاليم التي ستكون جزءاً من الولايات المتحدة الأميركية. وفي العام 1860 بلغ تعداد العبيد في الولايات المتحدة نحو 4 ملايين عبد.
انتهت الحرب الأهلية في أبريل/نيسان 1865، وكان التأثير الأول لها أن «إعلان التحرر» للينكولن أمتد ليشمل جميع المقاطعات التي لم تحرر العبيد بعد. في بعض الأقاليم استمر الرق لبضعة أشهر حتى 19 يونيو عندما دخلت القوات الفيدرالية غالفيستون بتكساس، وفرضت التحرر بالقوة. ألغى التعديل الثالث عشر، الرق تماماً، وأقرَّه مجلس الشيوخ في أبريل 1864، ومجلس النواب في يناير 1865؛ ولكن لم يصبح هذا التعديل نافذ المفعول حتى صدَّقت عليه 3/4 الدول في 6 ديسمبر 1865 بتصديق جورجيا. من تلك اللحظة بالتحديد اصبح جميع العبيد أحراراً بشكل رسمي. مع سريان مفعول التعديل الثالث عشر، أطلق سراح ما لا يقل عن 40,000 عبد قانوناً في ولاية كنتاكي فقط.