تمثّل الأمثال الشعبية وعاءً لثقافة المجتمعات البشرية؛ إذْ تزخر هذه الأمثال بعصارة الفكر الجمعي وما تعارفت عليه مكونات المجتمع المتعددة من حقائق ومُسلّمات. وإذا تكلّم شخص وأراد أن يكون أكثر إقناعاً، تراه يستحضر المثل الشعبيّ ليكون له عوناً في حِجاجِه وبرهاناً ساطعاً في سجاله يقارع به من يناقشه. إذْ اكتسبت هذه الأمثال الشعبية صدقيّة حتى باتت من الحقائق التي لا يرقى إليها الشكّ إلا قليلاً. وقد جاء في الأمثال الشعبية العربيّة الشيء الكثير عن التسامح والعفو والتعايش، ومن ثَمَّ تكون الذاكرة الشعبية بما توفّرت عليه من أمثال في التسامح والعفو والسلام، ونظراً لقوتها التأثيريّة، إحدى شخصيّات «أعلام في التسامح والسلام».
طبعاً أول ما نذكر التسامح في الأمثال الشعبية يحضرنا المثل الشعبيّ (المسامح كريم)، هذا المثل الذي ذاع وانتشر ورددته الألسن ولاتزال، هذا المثل الشعبيّ يختصر جانباً مهماً من شخصية الإنسان العربي المسلم، حيث يرقى إلى صفة «الكريم»، وهي من أهمّ الشيم العربيّة، مَن اتخذ التسامح عقيدة وسلوكاً. ولا يحتاج هذا المثل إلى تذكير الكهول والراشدين بالوضعيّات التي يمكن أن يقال فيها، وإنّما يقتضي المقام والسياق الوطني والإقليمي إحياءه قولاً وفعلاً على أيامنا هذه، والعمل على ترسيخه وخاصة في أذهان الأطفال والشباب.
ويعضد هذا المثل أمثال شعبية أخرى كقولنا (صبّح ولا تُقبّح)، أو قولنا (السّماح رباح)، وفي نفس السياق قولنا (اللي بيغاضي ما بيراضي)، أو قولنا (إذا بغضت خلّي للصلح مطرح)، وكذلك (كثر العتاب بيفرّق الأحباب) والقائمة طويلة... وفي هذا وذاك دعوة صريحة إلى تبني قيم التسامح ونشر ثقافة العفو والاعتدال.
وللأسف في عالمنا العربي لايزال التسامح غير مقبول لدى أوساط واسعة، بل تعتبره بعض الاتجاهات الإقصائية فكراً مستورداً يرمي إلى التطبيع مع القيم الغربية «الهدامة»، والتنازل عن الهوية، والاستسلام للآخر المتفوق تكنولوجياً وعسكرياً، بل ومزيداً من تكريس التبعية. ولئن كانت الأمثال الشعبية التي سردناها جزءاً من الأدلّة على رسوخ قيم التسامح في الثقافة العربية الإسلامية، فإن بإمكان المشكك أن يعود إلى حلف الفضول ودستور المدينة وصلح الحديبية والعهدة العمرية ووثيقة فتح القسطنطينية، إضافة إلى القرآن والسنّة النبوية، ليجد الدليل تلو الدليل على تأصّل قيم التسامح في الثقافة الدينية، والممارسة السياسية العربية الإسلامية. لكن من يختار من التاريخ ما يكون فقط على مقاسه لا يمكن أن يرى بعينه الانتقائية إلا ما تحدثه به نفسه من مآرب وغايات مريبة.
صحيح أن مفهوم التسامح عرف تطوراً منذ القرن الثامن عشر حتى استقرّ في الوثائق الدولية وتحديداً في إعلان مبادئ التسامح الذي صدر عن اليونسكو بمعنى «الاحترام والقبول والتقدير للتنوّع الثريّ لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير وللصفات الإنسانية لدينا، ويتعزز هذا التسامح بالمعرفة والانفتاح والاتصال...» غير أنّ ذلك لا يمنع من بناء «مفهوم متسامح» للتسامح متأصل في جذوره العربية الإسلامية منفتح على تطور الفكر البشري.
وعليه فإن نشر ثقافة التسامح والاعتدال والعفو والعيش المشترك صارت مطلباً ملحاً لا يمكن أن تُبنى العلاقات المتينة دونه، وخاصة في الوطن الذي تتعايش فيها جماعات مختلفة ديناً وعرقاً ومذهباً... وإذا كان المثل الشعبي وعاءً لما استقر من قناعات لدى الأجيال المتعاقبة في ثقافة ما، وإذا كان انتشار هذا المثل على الألسن واقعاً اجتماعياً ملحوظاً، فإنّ الحاجة ملحة أكثر من أي وقت سبق، إلى مزيد العمل على تغذية محتويات المناهج المدرسية بقيم التسامح وثقافة الاعتدال، وهو ما أكّده الخطاب السامي الذي ألقاه حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى حفظه الله ورعاه، الأحد (11 أكتوبر/ تشرين الأول 2015) في افتتاح دور الانعقاد الثاني من الفصل التشريعي الرابع لمجلسي النواب والشورى حيث قال حفظه الله ورعاه: «... كما وجهنا الوزارة (وزارة التربية والتعليم) إلى ضرورة أن تُكثّف جهودها التعليمية والتربوية في تطوير ومتابعة مضمون المناهج الدراسية التي تعزز الولاء والانتماء الوطني، وتُثبّت قيم التسامح والاعتدال...»
ويؤكد هذا التوجيه السامي مرة أخرى وبما لا يدع مجالاً للشك دور المناهج التعليمية وخطورتها في الآن نفسه، ولا سيما مناهج اللغات والمواد الاجتماعية والإنسانية، وأهمية المسئولية الملقاة على عاتق التربويين، من مختلف مواقعهم، في بناء جيل معتدل متسامح يؤمّن مستقبلاً مشرقاً في البحرين ومجتمعاً أكثر انفتاحاً على مكوناته المتعددة بما في التعدّد من ثراء مخصب.
إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"العدد 4791 - الإثنين 19 أكتوبر 2015م الموافق 05 محرم 1437هـ
جميلة هي هذه الأمثال
ويعضد هذا المثل أمثال شعبية أخرى كقولنا (صبّح ولا تُقبّح)، أو قولنا (السّماح رباح)، وفي نفس السياق قولنا (اللي بيغاضي ما بيراضي)، أو قولنا (إذا بغضت خلّي للصلح مطرح)، وكذلك (كثر العتاب بيفرّق الأحباب) والقائمة طويلة... وفي هذا وذاك دعوة صريحة إلى تبني قيم التسامح ونشر ثقافة العفو والاعتدال.
أعلام في التسامح والسلام...
وقفة مع المثل الشعبيّ: المسامح كريم
فعلا المثل الشعبي في حاجة إلى قراءة عميقة
وتوظيف مخزونه الروحي في النهوض بهذه الأجيال
هل هو حلم أم حقيقة
بناء جيل معتدل متسامح يؤمّن مستقبلاً مشرقاً في البحرين ومجتمعاً أكثر انفتاحاً على مكوناته المتعددة بما في التعدّد من ثراء مخصب.