العدد 4788 - الجمعة 16 أكتوبر 2015م الموافق 02 محرم 1437هـ

بين المالكية والزلاق: بقايا المعبد الدلموني المفقود

الأعمدة التي عثر عليها بالقرب من الزلاق عام 1957م     (Andersen 2003)
الأعمدة التي عثر عليها بالقرب من الزلاق عام 1957م (Andersen 2003)

المنامة - حسين محمد حسين 

تحديث: 12 مايو 2017

سبق أن تناولنا في سلسلة مقالات سابقة تطور «دولة دلمون»، التي بدأ تأسيسها في البحرين قرابة العام 2300 ق.م، ووصلت لمرحلة النضج قرابة العام 2050 ق. م؛ حيث تعتبر الحقبة ما بين 2050 - 1750 ق. م فترة الذروة لدولة دلمون. وفي بداية هذه الحقبة يرجح أن «دولة دلمون» خضعت لسلطة مركزية قامت بتشريع قوانين معينة؛ ففي قرابة العام 1950 ق. م بدأ ظهور أختام دلمون المتأخرة ذات النموذج الثابت، والتي أسماها البعض (أختام دلمون المعيارية). وظهور مثل هذه الأختام يعكس التطور في الهوية والتطور في السلطة المركزية التي أخذت تشرف بنفسها على صناعة الأختام، وليس هذا فحسب، بل توسعت سلطة هذه الحكومة المركزية لتشمل شرق الجزيرة العربية وجزيرة فيلكا التي عثر فيها على هذه الأختام المتأخرة ولم يعثر فيها على الأختام المبكرة (Laursen 2010).

في البحرين، نفسها، توسعت دولة دلمون، وتم إنشاء العديد من المستوطنات الدلمونية في العديد من المناطق. ويبدو أنه كان هناك نموذج معين لبناء تلك المستوطنات؛ فالسلطة المركزية التي وحدت معايير تصنيع الأختام الدلمونية، لابد وأنها شرعت قوانين أخرى خاصة ببناء المستوطنات والمعابد والطقوس الدينية. هذا، وتشير نتائج التنقيبات الآثارية في البحرين لوجود ثلاث مستوطنات وبالقرب من كل مستوطنة يوجد معبد، حيث يوجد في موقع قلعة البحرين مستوطنة دلمونية، وليس بعيداً عنها يوجد معابد باربار، وفي المنطقة ما بين الدراز وباربار توجد مستوطنة دلمونية أخرى وبالقرب منها معبد، عرف باسم معبد الدراز، وكذلك في سار توجد مستوطنة دلمونية ثالثة وبالقرب منها معبد سار الدلموني. والساحل الغربي للبحرين ليس استثناءً، فقد سبق أن ذكرنا أنه يوجد عدد من المستوطنات الدلمونية بطول هذا الساحل، إذاً، فلابد أن يكون هناك معبد دلموني واحد، على الأقل، على هذا الساحل.

بقايا المعبد الدلموني بالقرب من الزلاق

من خلال نتائج المسوحات الآثارية التي قامت بها البعثة الدنماركية في البحرين، يتضح وجود أكثر من موقع يعود للفترة ما بين 2000 - 1800 ق. م، وذلك على امتداد الساحل الغربي، وبالتحديد بين منطقتي المالكية والزلاق (Larsen 1983، appendix II). ومن بين تلك اللقى الآثارية التي رصدتها البعثة الدنماركية أثناء عملية المسح، عمودان أسطوانيان، عثر عليهما في العام 1957م، وذلك في مزرعة بالقرب من قرية الزلاق، وبالتحديد في منطقة كانت تبعد قرابة 3 كم شمال قرية الزلاق، وتبعد قرابة 1.5 كم من الساحل الغربي (Andersen 2003).

هذا، وقد عثر على أعمدة شبيهة بهذه الأعمدة وذلك في معابد باربار، وكذلك في المنطقة المحيطة بالمعبد. ويعتقد أن هذه الأعمدة جزء من الطقوس الدينية عند الدلمونيين؛ حيث يمثل العمود رمزاً للخصوبة (Andersen 2003).

الطقوس الدلمونية المجهولة

قليلة هي تلك الدراسات التي كتبت حول الطقوس الدينية التي كانت تمارس في المعابد الدلمونية، إلا أن العديد من الباحثين يرجحون وجود تشابه بين هذه الطقوس والطقوس التي كانت تمارس في معابد الحضارات التي قامت في وادي الرافدين، والشرق الأوسط بصورة عامة. وأول من تناول بالتفصيل تقديس الأعمدة الأسطوانية في دلمون هي During-Caspers والتي أشارت لوجود تشابه بين تقديس هذه الأعمدة في دلمون وطقوس تقديس أعمدة مشابهة لها في حضارة وادي السند (During-Caspers 1971). كذلك أشار Andersen لطقوس ارتبطت بهذه الأعمدة التي أسماها phallic cult-stones ولكن دون وجود تفاصيل (Andersen 2003).

يذكر أن تقديس الأعمدة، التي مثلت رمزاً للخصوبة، كان منتشراً بين العديد من الشعوب السامية التي سكنت الشرق الأوسط، كالأموريين، وهي طقوس استمرت ردحاً من الزمن، وانتشرت حتى في منطقة البحر المتوسط (Evans 1901)، وقد أشار محمد رضا معراج لوجود التشابه بين وجود العمود الإسطواني في باربار وتقديس الأعمدة عند الأموريين (المعراج 2001). هذا، والمرجح أن الذين سيطروا على السلطة السياسية في البحرين في الحقبة 2000 - 1800 ق. م هم الأموريون (Hojlund 1989).

المعابد الدلمونية والعيون الطبيعية

إن العثور على هذه الأعمدة في هذه المنطقة، أي بالقرب من الزلاق، لا يدل فقط على وجود طقوس دينية معينة تابعة لتقديس الموز الدالة على الخصوبة، بل إن وجود هذه الأعمدة يدل، أيضاً، على وجود معبد قريب من هذه المنطقة. لاسيما وأنه تم العثور على آثار لمستوطنة دلمونية، مستوطنة الناصرية، لا تبعد كثيراً عن هذا الموقع. كذلك، يكثر في هذه المنطقة العيون الطبيعية وهناك علاقة ما بين المعابد الدلمونية والعيون الطبيعية. وقد سبق أن ناقشنا في سلسلة المقالات حول باربار وجاراتها، وجود تأثيرات ثقافية لكل من حضارة سومر وحضارة وادي السند أثرت في ثقافة باربار، أو حضارة دلمون، التي نشأت في البحرين، وأن بناء معابد باربار يؤكد على هذه التأثيرات، حيث بنيت معابد باربار على مصادر المياه؛ حيث أن قنوات المياه التحت أرضية تمر من تحت المعبد. ويرجح أن المعبد، والكهنة التي تعمل فيه، يمثل منطقة تحكم، فيقوم بتوزيع المياه على الأراضي الزراعية المختلفة (Hojlund 1989).

النموذج ذاته لمعبد باربار تم استنساخه لبناء معبد آخر في الجنوب الغربي لهذا المعبد، إنه المعبد الذي عرف باسم «معبد الدراز»، والذي يرجح أنه بني على قناة مائية تتحكم أيضاً في توزيع الشبكة المائية التحت أرضية، حيث يرتبط بهذا المعبد عين تاريخية قديمة هي عين أم السجور. وقد سميت هذه العين بهذا الاسم وذلك لكثرة «السجور» أي القنوات الفرعية التي تخرج منها؛ فالسجر وجمعها سجور تعني اصطلاحاً السواقي المتفرعة من قناة العين الرئيسية وهي أصغر منها. وبالمثل معبد سار، حيث يرجح أنه كانت هناك عيون طبيعية وقنوات ماء تمر بالقرب أو من خلال المعبد (Glover 1997، p. 87).

كذلك، فإن المناطق المجاورة للمنطقة التي عثر بها على العمودين، بالقرب من الزلاق، ينتشر فيها العديد من القنوات التحت أرضية (نظام الثقب والأفلاج)، وهي متصلة بعيون ماء موجودة في القرى القريبة كصدد وشهركان، مما يعزز فرضية أن المعابد الدلمونية كانت تقام على مصادر المياه، كنوع من أنواع مراكز التحكم في توزيع المياه.

الخلاصة

يمكننا أن نستنتج مما سبق ذكره، أنه في الحقبة ما بين 2000 - 1800 ق. م تأسست سلطة سياسية مركزية لدلمون، والتي قامت بتوحيد التشريعات والقوانين، ومن ذلك توحيد طرق بناء المستوطنات والمعابد، حيث أن كل مستوطنة يوجد بالقرب منها معبد قريب من مصادر المياه. كذلك، فإن عدداً من الباحثين يرجحون وجود طقوس دينية موحدة كانت تمارس في هذه المعابد. ومازالت هناك مستوطنات دلمونية أخرى، توجد على امتداد الساحل الغربي، سوف نتناولها في الحلقات القادمة.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً