أصدر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة تقريراً عن الموقف المتفجر في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتصاعد حالة الغليان الشعبي رداً على الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة ضد المقدسات واستمرار الاستيطان، حيث بات السؤال المطروح اليوم: هل نحن اما بوادر انتفاضة فلسطينية ثالثة؟
شهد العالم في الأشهر الأخيرة، زيادة اعتداءات المستوطنين تحت سمع قوات الاحتلال، وانتهاك حرمة المسجد الأقصى، رافقها إقرار حكومة نتنياهو رزمة من القوانين لمواجهة أي ردّ فعلٍ فلسطيني محتمل. وتضافرت مجموعة من الأسباب وراء هذه الحالة من الإحباط الشعبي وتصاعد مستوى المواجهات مع الاحتلال، في مقدمتها انسداد الأفق السياسي، في ظل انقسام فلسطيني بين حركتي "فتح" و"حماس"، مع محدودية الخيارات المتاحة أمام حكومة الوفاق برئاسة رامي الحمد الله، التي استمرت بالتزامها الاتفاقيات الموقعة مع "إسرائيل"، وعدم إيقاف التنسيق الأمني معها الذي صدر بشأنه قرار من المجلس المركزي لـ"فتح".
ويشير التقرير إلى أن السلطة الفلسطينية لم تكن راغبة بوقف التنسيق الأمني أصلاً، حيث لا تشكو "إسرائيل" من أي خلل في هذا الإطار. أما الفلسطينيون فقد عولوا على مواقف أكثر جدية في خطاب محمود عباس في الأمم المتحدة، لكنه جاء دون المتوقع، حيث أبدى موافقته بالمشروع الفرنسي بالعودة للمفاوضات، ما يحصر دور السلطة بمنع وقوع مواجهات بين المواطنين وقوّات الاحتلال في مناطق التماس، والحيلولة دون تطورها إلى مواجهة شاملة تفضي إلى انتفاضة ثالثة. بل إن وسائل إعلام إسرائيلية كشفت عن لقاء عباس بشخصية إسرائيلية كبيرة وعدها بوقوفه ضد "انتفاضة ثالثة".
انفلات المستوطنين
خلال ثمانية أشهر، تم رصد 282 اعتداءً من المستوطنين، شملت إحراق منازل وعمليات دهس، واعتداء على الممتلكات ورشق الحجارة على سيارات الفلسطينيين، وبعضها كان يتم تحت حماية الجيش الذي نفذ عمليات إعدام لفلسطينيين في الشارع لمجرد الشك. كما رعت حكومة نتنياهو اقتحام المستوطنين الحاخامات اليهود ووزراء للمسجد الأقصى وتحطيم أبوابه ونوافذه التاريخية للمسجد، مع فرض تقاسم المسجد الأقصى، زمانياً ومكانياً، بين اليهود والعرب كأمر واقع.
استمرار "المقاومة الفردية"
شكّلت "المقاومة الفردية" قفزةً في التعبير عن الغضب الشعبي المقاوم، في ظل حالة التردي الحزبي الذي تعيشه الأرض الفلسطينية. وأهم ما يميز هذه العمليات صعوبة رصدها، وأنها تجري خارج نطاق سيطرة السلطة التي لا ترغب بـ"انتفاضة شعبية" جديدة. وقد واجهتها "إسرائيل" بإجراءات عدة، مثل سحب حق الإقامة من سكان القدس الذين ينفذون العمليات، وسحب إقامة أهاليهم، وحرمانهم من حقوقهم الاجتماعية وهدم منازلهم.
تصاعد المقاومة واحتمالات تطورها
سارعت الحكومة الإسرائيلية إلى اتخاذ عدة إجراءات لمواجهة حالة الغليان في الضفة الغربية والقدس، أبرزها تسريع سياسة هدم منازل منفذي العمليات، والزج بقوات كبيرة إلى أحياء مدينة القدس. ويرى مركز الدراسات إن المشهد السياسي الفلسطيني أمام أحد احتمالين في ظل استمرار الاعتداءات على الفلسطينيين وأرضهم ومقدساتهم، وتصاعد مستوى الغضب الشعبي:
-أن تتوسّع حركة الاحتجاج الشعبية لتشكّل هبةً شاملةً تضم الأراضي الفلسطينية كافة، ما يوقع السلطة أمام خيارين، إما مواجهة هذه الحالة بقبضة أمنية شديدة وتنسيق أكبر مع "إسرائيل"، أو دعم السلطة للانتفاضة كما فعلت في العام 2000، وذلك لوضع "إسرائيل" أمام واقع فلسطيني جديد، ووضع العالم أمام مسئولياته. ويرى معدو التقرير أن ذلك يبدو مستبعداً حالياً لأنّ السلطة الحالية تعارض نهج ياسر عرفات في الانتفاضة الثانية وتعدّه كارثياً، كما أنّ عقيدة أجهزة الأمن ليست عقيدة مواجهة مع "إسرائيل" بل "مكافحة الإرهاب".
الاحتمال الثاني انحسار حركة الاحتجاج وتراجعها أمام القبضة الأمنية الشديدة للسلطة والاحتلال، لكنه خيارٌ لا ينهي الأزمة؛ فالشباب الفلسطيني الذين يقاومون حالياً وُلدوا بعد اتفاقية "أوسلو"، وهم يقاومون في أصعب الظروف.
ويبقى الاحتمال الآخر باستمرار شكل المقاومة الحالي واتساع نطاقه على شكل أعمال فردية وصدامات مع المستوطنين، حيث يحول وضع السلطة وانقسام الصف الفلسطيني، دون تطور هذه المواجهات إلى انتفاضة شعبية. والمعنى الأعمق أن مرور الوقت لا يحلّ القضية ولا يخمد المقاومة الفلسطينية، بل يدفع إلى أنماطٍ نضالية جديدة في ظروف نظام فصلٍ عنصري يولد المزيد من الأزمات.