أرجع إلى 16 عاماً خلت. ففي مثل هذا اليوم (12 أكتوبر/ تشرين الأول 1999م)، وعند الساعة 6:45 دقيقة مساءً، مُنِعَت طائرة الرحلة رقم بـ 805 من الهبوط في مطار كراتشي بل في أيّ مطار في باكستان بأمر من برج المراقبة. الطائرة ليست عسكرية بل تجارية وتتبع الخطوط الجوية الباكستانية، قادمة من رحلة في سريلانكا، وعلى متنها 198 راكباً، إلاَّ أن من ضمن الـ 198 شخصية مهمّة: إنه قائد الجيش الباكستاني ولجنة الأركان المشتركة ورئيسها الجنرال برويز مُشَرَّف.
لقد بدا أن المنع مرتبط به، وأن مَنْ أصدر الأوامر كان رئيس الوزراء. كان على الطيار أن يختار بين أن يهبط في مطار مسقط أو بندر عباس أو نيودلهي. ولأن التعليمات كانت تمر عبر ستة أشخاص كي تصل إلى قبطان الطائرة (كما يقول مُشَرَّف في سيرته) فقد تقلّصت الخيارات أمامه وهو يستنفد وقود الطائرة في الانتظار، بحيث لم يعد قادراً سوى أن يهبط في أحد المطارات الهندية، فتعقَّد الأمر أكثر لما يكتنف العلاقة بين البلدين (باكستان والهند) من توتر تاريخي على الحدود.
في نهاية الأمر سُمِحَ للطائرة بالهبوط، ولكن ليس بأمر مِمَّن منع هبوطها ولا بإرادته. لقد أحسَّ الجيش الباكستاني بأن الإدارة المدنية في البلاد قد أهانته بهذه الطريقة، عندما منعت طائرة رئيسه من الهبوط. وهو أمر كان قد استشعره عندما أجبِرَ قائد الجيش الباكستاني (الذي خلفه مُشَرَّف) الجنرال جيهانجير كرامت على التقاعد كما يصف مُشَرَّف ذلك في سيرته. ومن لحظة هبوط الطائرة وتوتر العلاقة بين رئيس الوزراء وقائد الجيش وقرار إقالة الأول للثاني انتهى الأمر بانقلاب عسكري ضد رئيس الوزراء نفذته مؤسسة الجيش في ثلاث ساعات ونصف الساعة.
الحقيقة، أن الانقلابات العسكرية في باكستان كانت حاضرة في المشهد السياسي لذلك البلد منذ خمسة عقود. فبعد استقلالها بأحد عشر عاماً فقط قام قائد الجيش آنذاك محمد أيوب خان بالانقلاب على رئيس الوزراء حينها «اسكندر ميرزا». ثم قام الجنرال ضياء الحق بالانقلاب على رئيس الوزراء حينها «ذو الفقار علي بوتو». ثم جاء انقلاب مُشَرَّف ضد رئيس الوزراء «نواز شريف».
وقبل ثلاثة أعوام كُشِفَ النقاب عن رسالة سرية بعث بها الرئيس الباكستاني السابق «آصف زرداري» إلى الإدارة الأميركية يطلب منها كبح جماح الجيش الباكستاني، حيث ادعى في تلك المذكرة أن الأخير يسعى للإطاحة بالإدارة المدنية في باكستان.
الحقيقة، وبغضِّ النظر عن مسألة الانقلابات وضرورة وجودة حكم مدني، يبقى الجيش الباكستاني قوة لا يُستَهان بها في الداخل وفي منطقة جنوب غرب آسيا. وربما كانت قوته بشكل أساس نابعة من كونه قد تَشَكَّل على خلفية انفصال هائل في الأرض لدواعٍ دينية، عندما استقلت باكستان عن الهند سنة 1947م بعد صراع مرير راح ضحيته مئات الآلاف من الناس. وقد أصبح هذا الجيش منذ تلك اللحظة خصماً للهند الذي دخل معها في ثلاث حروب مفتوحة (إضافة إلى أزمة كارجيل الشهيرة التابعة لولاية جامو وكشمير نهاية التسعينات).
وبالمناسبة فقد كشف بروس رايديل، أحد مسئولي مجلس الأمن القومي خلال رئاسة كلينتون لساسة باكستانيين كبار في مقال سابق أن واشنطن كانت لديها معلومات استخباراتية عن أن الجيش الباكستاني إبّان رئاسة برويز مُشَرَّف له كان «على وشك إطلاق صواريخ نووية العام 1999م» باتجاه الهند أثناء أزمة كارجيل، وأن «بعض التقديرات الدقيقة أشارت إلى أن ضرب باكستان لبومباي بقنبلة صغيرة يمكن أن يؤدي إلى موت 850 ألفاً من الضحايا» بحسب الخبر. ولو ردَّت الهند، فإن فاصل إصابة الهدف لن يزيد عن خمس دقائق فقط. وكان ذلك المشهد مخيفاً جداً، وهو ما سيُشكِّل (إضافة إلى الخسائر البشرية) إحراجاً لأصدقاء الطرفين في المنطقة والعالم.
لقد لعبت أسباب التدافع السياسي أدواراً مهمة في تعاظم حجم الجيش الباكستاني، وبالتحديد خلال فترة الحرب الباردة، حيث كانت إسلام آباد أحد أوثق حلفاء الولايات المتحدة الأميركية ضد الاتحاد السوفياتي، وهو ما جعلها تحصل على أقوى أنواع الأسلحة وأحدثها، الأمر الذي انعكس على قوة المؤسسة العسكرية. أما إقليمياً فقد برز دوره بصورة أكبر عندما ساهم في قتال القوات العراقية أبان حكم صدام حسين لتحرير الكويت في العام 1991م.
أما العوامل الداخلية، فقد ساعدته أيضاً كي يبني جيشاً شاباً. فشعب تُقدّر نفوسه بـ 190 مليوناً، بات قادراً على تجهيز 4 ملايين باكستاني ينطبق عليهم «مؤهلون للتجنيد» كل عام بحسب دراسات حديثة. كل هذه الأمور جعلت من مؤسسة الجيش رقماً محورياً في الداخل الباكستاني. لذلك أصبحت الإدارات المدنية والأحزاب السياسية في باكستان تحسب له ألف حساب، وفي الوقت نفسه تسعى إلى تحييده عن السياسة ما أمكن.
كل الوثائق التي صدرت عن قيادات عسكرية (وحتى غير عسكرية) باكستانية كـ أيوب خان وبي نظير بوتو وبرويز مُشَرَّف، وما تسرّب عن مذكرات حميد جل أكَّدت على حقائق من المهم أن يطلع عليها القارئ العربي. فهي تعطي صورة ولو (بالمسموح به) عن بلد يتوجب فهم تحالفاته وسياساته الداخلية والخارجية، وكيف يُدير أمنه القومي، وخصوصاً أن دول المنطقة العربية تحتفظ بعلاقات وثيقة مع أهم الأطراف في تلك المعادلة وهي الصين والهند وباكستان.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4783 - الأحد 11 أكتوبر 2015م الموافق 27 ذي الحجة 1436هـ
رغم قوة الباكستان لكنها من مشاكل سياسية واجتماعية وثقافية كبيرة
تعاني باكستان من انفصام في هوية العديد من مكوناتها العرقية نظرا لما واجهته هذه الدولة من انقسام ما بين الهند وبنغلاديش