قيل الكثير عن أسباب استفحال ظاهرة التطرف في الوطن العربي، في السنوات الأخيرة. وتراوحت تفسيرات هذه الظاهرة، بين من قال إنها نتيجة تغول ظواهر الفساد والاستبداد وتجريف العمل السياسي، ومن قال إن انهيار الاقتصادات العربية، وتفشي البطالة والأمية، من الأسباب الرئيسية في انتشار ظاهرة التطرف. وهناك من قال إنها نتاج فشل الإيديولوجيات، وتراجع المد القومي العربي واليساري، لصالح حركات الصحوة الدينية، وحاجة الشباب المسلم إلى اليقين. وقد كان لنا تفسيرنا الخاص، لبروز هذه الظاهرة.
لا جدال، في أن الواقع العربي، مشحون بأزمات كثيرة وحادة، من شأنها أن تشعل الغضب في نفوس الشباب، وخاصة حين تتعلق هذه الأزمات بالأمور الحياتية، والمتطلبات الأساسية للعيش الكريم، لكن هذه الأزمات كانت موجودة باستمرار في محيطنا العربي، وإن كانت قوة حضورها بنسب مختلفة.
فطبيعة التشكيل الاجتماعي، والقدرات الاقتصادية، تختلف من قطر عربي إلى آخر، لأسباب موضوعية، ليس هنا مجال للبحث فيها. وقد تعززت هذه الاختلافات وترسخت مع غياب التنسيق والتكامل الاقتصادي العربي. وقد ظلت على الدوام مصدراً لتعزيز واقع التجزئة، وتراجع المشروع القومي العربي، وضعف المؤسسات الناظمة للعلاقات بين الأقطار العربية.
السؤال المنهجي الذي يطرحه هذا الحديث، هو: لماذا حدث تغول التطرف في زمن محدد، وليس قبله أو بعده. والغريب في الأمر، هو تزامنه مع ما عرف بـ «الربيع العربي»، حيث طرحت مبادئ الحرية والديمقراطية، وتداول السلطة والقضاء على الاستبداد والفساد.
كيف يستقيم تفسير الحركة الاحتجاجية، التي خرجت بالملايين في تونس ومصر وسورية واليمن، مطالبة بالحرية والعدل، وجميعها قيم ليبرالية، تحض على التسامح، وتقدس دور الدولة، إلى نقيض ذلك تماماً، إلى المطالبة بدولة الخلافة. والأنكى من ذلك، أن تكون الملايين التي خرجت إلى الميادين في المدن العربية، التي طالها ما عرف بـ «الربيع العربي»، غدت نفسها هي الحاضن للتطرف، والتي نتج عنه تفكيك الكيانات الوطنية، ووضع تلك المدن تحت سيطرة أمراء الحرب. توصلنا هذه المقدمة، إلى استقراء أسباب أخرى أعمق، لدواعي انطلاق الحركة الاحتجاجية بالأقطار العربية، غير تلك الأسباب التي جرى تناولها، بشكل مسهب ومطرد، في القراءات التي طرحت من قبل المفكرين والكتاب والمهتمين بالشأن العام. وهي وضع هذه الحركة في السياقين الدولي والإقليمي، وإسقاطاتهما على الواقع العربي.
استخدم تعبير «الربيع العربي»، كثيراً من قبل وسائل الإعلام الغربية، وجرى تلقف التسمية، من قبل أجهزة الإعلام العربية، بسرعة البرق. والقصد من ذلك، كما جرى تصويره، أنَّ الأمة العربية، تمرُّ بانعطاف تاريخي، من مرحلة الاستبداد، وغياب دولة العقد الاجتماعي، إلى نقيض ذلك، إلى الدولة الديمقراطية، والتعبير يشير إلى تشابه بين ما حدث في أوروبا الشرقية، في مطلع التسعينات من القرن الماضي، والتحولات التي أخذت مكانها في عدد من الأقطار العربية، بدءاً من أواخر العام 2010. لكن المقاربة هنا غير دقيقة إطلاقاً... فباستثناء اللافتات التي رفعت، لم يكن هناك تشابه بين الحدثين. فالحدث الأوروبي الشرقي كان فعلاً من صنع التاريخ. ولم يكن شك في أنه سيأخذ مكانه، بعد سقوط حائط برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي، الذي كان يمثل الحائط المنيع الذي تحتمي خلفه دول الكتلة الاشتراكية.
ما يعرف بـ «الربيع العربي»، بدا وكأنه إعصار مفاجئ، لم تكن له مقدمات. وكان من المستحيل التنبؤ به من أي محلل سياسي. لكن الأمر الجوهري الذي غاب عن صورة الحدث، هو الجامع المشترك بين الحدثين، وهو أن كلاهما أخذ مكانه في لحظة تحول تاريخي عالمي، انتهى بسقوط نظام، وبداية انبثاق آخر.
انفراط الثنائية القطبية، وانتهاء الحرب الباردة أفرزا ربيع أوروبا الشرقية. ونهاية سيطرة القطب الواحد، وبداية تشكل نظام على قاعدة التعددية القطبية، أوجدتا «الربيع العربي». وفي كلا الحدثين لم يكن هناك مجال للصدفة. وكان أهم ملمح للحدثين، هو تضعضع الدولة الوطنية، وغياب للأطر الناظمة للعلاقات الدولية. والنظام الدولي، يعني حضور الأطر التي تنظم العلاقات بين الدول. هذه الأطر في جانب منها حاجة إنسانية إلى سيادة السلم العالمي، وهي من جانب آخر، تعكس طبيعة ومستوى التوازنات، في القوة الدولية.
فإثر السقوط المدوي للاتحاد السوفياتي، تربع اليانكي الأميركي، على عرش الهيمنة الدولية، وكانت أولى نتائج ذلك سيادة الأحادية القطبية، وغياب التوافقات الدولية. بمعنى آخر، سقط نظام دولي، ولم يتشكل آخر، حتى يومنا هذا. وخلال أكثر من ثلاثة عقود، سقط في عدد من بقاع العالم، مفهوم السيادة، وضعف دور الدولة الوطنية. وقد أفرز غياب الأطر الناظمة للعلاقات الدولية، بروز تنظيمات التطرف، وعلى رأسها تنظيم «القاعدة».
اتخذ تغول التطرف في السنوات الخمس الأخيرة، أشكالاً مرعبة، ليس من تفسير لها سوى غياب جوهر المبادئ التي صيغت في عصبة الأمم، ولاحقاً في ميثاق هيئة الأمم المتحدة. ولن يكون ممكناً دحر التطرف إلا بتوافقات دولية، تعيد الاعتبار إلى المواثيق والمبادئ، التي سادت منذ نهاية الحرب الكونية الثانية، حتى مطالع التسعينات من القرن الماضي، وكان سقوطها من أسباب احتلال أفغانستان والعراق، والتشظي الدراماتيكي في الواقع العربي. فهل ستشهد الشهور والسنوات القليلة المقبلة، وعياً عالميّاً جديداً، بأهمية عودة التوافقات الدولية؟!
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 4780 - الخميس 08 أكتوبر 2015م الموافق 24 ذي الحجة 1436هـ