العدد 4776 - الأحد 04 أكتوبر 2015م الموافق 20 ذي الحجة 1436هـ

الحضارة الإفريقية المفقودة والنحت الذي يروي قصتها

15 عملاً في متحف متروبوليتان...

برز التكاتف بين الفنانين والكهنة لإخراج المملكة من أزماتها
برز التكاتف بين الفنانين والكهنة لإخراج المملكة من أزماتها

«حضارة إِفريقية مفقودة» أو يُراد لها أن تكون كذلك. لكن الفنون التي توزعت على عدد من متاحف العالم تروي قصة ممالك وحضارة مذهلة كانت مثار جدل وبحث في مراكز قرار ومتاحف وجامعات كبرى في العالم.

بلد يمتلك كل الثروات التي تتيح له أن يكون من القوى العظمى، ويسجل نسب ومعدلات فقر قياسية في الوقت نفسه. الكونغو، ممالك وحضارات سابقة، مثار نظر ودراسة ومراجعة، من قبل مراكز إشعاع ومعرفة وفنون في العالم. متحف متروبوليتان الأميركي ليس آخرها. ثمة حضور لفنون واعتقادات ذلك الجزء من العالم في عدد من متاحف أوروبا: المملكة المتحدة إحداها، من دون أن ننسى بلجيكا، البلد الذي استعمر الكونغو وغادرها وهو مطمئن أنه كرَّس سياسة عدم تجاوز تعليم أبنائها المرحلة الابتدائية، وغادرت البلد بتمكُّن 14 مواطناً من إنهاء تعليمهم الجامعي. دانييل مكديرمون يضيء سحر ذلك البلد والأعمال التي تضمَّنها معرض متحف متروبوليتان الأميركي، في تقرير كتبه في صحيفة «نيويورك تايمز» بتاريخ 30 سبتمبر/أيلول 2015، هنا أهم ما جاء فيه.

وجدت حضارة الكونغو نفسها، بازدهارها لعدة قرون على طول ساحل المحيط الأطلسي في وسط إفريقيا، محاصرة في القرن التاسع عشر من قبل القوى الأوروبية المعادية بشكل متزايد.

مع تأثيرها الذي هو قيْد البحث في هذه المراجعة، وثقافتها التي كانت تحت الحصار من قبل الآلة الجهنمية التي سرَّعت تمدد الاستعمار في تلك البلاد، كلف زعماء الكونغو بنوع جديد من العمل العام، والمعروف باسم مانغآكا، لتأكيد استقلاليتهم.

التكوينات (الأعمال) التي يمكن رؤيتها، من مجموعة متحف متروبوليتان للفنون، هي جزء من معرض جديد مذهل: «الكونغو: القوة والفخامة» في عدد من اللقاءات، أوضح خبراء في متحف متروبوليتان جوانب من أهميتها.

تفعيل

تكوينات المانغآكا في «متروبوليتان»، تنتصب ارتفاعاً إلى نحو أربعة أقدام، منحوتة من قطعة واحدة من الخشب، قام بها فنان تم اختياره من قبل الزعيم. بقي التكوين مجمداً وخاملاً حتى تم تفعيل أثره وطاقته من قبل الكاهن، والذي سيقوم بإدراج مواد مقدسة في تجاويف المنحوتة، داخل الجسم، وراء العينين، وفي الجوْف.

ثنائي الهدف

بمجرد تفعيل التكوين (العمل)، يخدم المانغآكا الغرض المدني (في جانبه المادي)؛ فضلاً عن الغرض الروحي. الكاهن الذي كرَّس المانغآكا سيقوم بوضع اللمسات الأخيرة للمعاهدات، وتسجيل المعاملات أو تسوية النزاعات. وسيتم تسجيل كل إجراءات وطقوس التدخلات تلك، مع إضافة قطعة من المعدن إلى التكوين (العمل).

يعرف فقط 20 تكويناً (عملاً) مما بقي في حالة سليمة في مجموعات المتحف. المعرض في المتروبوليتان يشتمل على 15 منها؛ فضلاً عن العديد من الأعمال المهمة، وغيرها من ثقافة الكونغو.

القدرة على التحمُّل

حضارة الكونغو، والتي شملت أجزاء مما هي عليه الآن شعوب جمهورية الكونغو وأنغولا، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، لم يُكتب لها البقاء طويلاً في القرن العشرين.

ومن المغري عرض الفضاء المتضائل لتكوينات المانغآكا؛ باعتباره علامة على هزيمة ثقافة؛ ولكن المنسق المسئول عن المعرض في المتروبوليتان، أليسا لاغاما، تقرأ إبداع هذه التكوينات باعتبارها عملاً لا يُصدق من التحدي.

وقالت: «أرى التكاتف معاً بين الفنانين والكهنة وهم يهبُّون للنجدة في زمن الأزمة، وهذا الجهد بطولي حقاً لإبراز الفن والروحانية للشعب في وقت هو في أمسِّ الحاجة إليهما».

وأضافت «الناس الذين لهم مثل هذا التراث، سعداء لمعرفة نمط وقيمة المقاومة التي أحدثها». موضحة «لم يكن الأمر يتعلق فقط بأنهم تعرضوا إلى اجتياح تسونامي فصاروا نهباً للغرق. المسألة لا تختزل ضمن ذلك الفهم».

مصدر القوة

داخل تجويف التكوين (العمل) في متحف متروبوليتان، هنالك تعزيز المواد التي يتم حشو العمل بها، فإضافة إلى الحديد والراتنج، الذي يدخل في مكوناته الورنيش والصمغ والبخور والعطور، يُمكنك رؤية أجزاء مقسمة؛ حيث تم وضع المواد المقدسة. في دراسة تكوينات من الأعمال المماثلة في المنطقة، وجد الباحثون فكي ثعبان، شرانق حشرات، وبلورات الكوارتز، من بين العديد من المواد الأخرى، كانت مخبأة في الجوْف؛ ويظل الغرض المحدد لها غير واضح.

اللحية

واحدة من الإضافات النهائية لشكل المانغآكا، تتحدد في اللحية الكثَّة، والتي كُوِّنتْ من خليط الراتنج ونُفِّذت على إطار من مسامير الحديد. أبقى «متروبوليتان» فقط التكوينات (الأعمال) المُدعَّمة بالحديد. خطوط دالَّة مرسومة على وجه التكوين (العمل) مع خضاب ثُبّت سابقاً على اللحية وهو واضح للعيان، وكذلك بقايا من الزخارف الملونة على الوجه نفسه.

زخرفة

بعد أن تم ملء التجاويف المخفية والانتهاء من اللحية، تم إلباس التكوينات (الأعمال) بأزياء مثل التنورة (العينة مفقودة من المتروبوليتان) ورسمت بالخضاب الأسود. كما تم استخدام الخضاب الأبيض والأحمر لتوفير بروز أكثر للأعمال.

نتوءات

هناك 380 قطعة من المعدن هي جزء لا يتجزأ من الشكل الخارجي لتكوينات المانغآكا في متروبوليتان. 45 منها على الأقل فقدت مع مرور الوقت. وتشمل المواد، المسامير والبراغي وشظايا من زناد بندقية آلية.

مصادرة

وفيما خاضت الدول الأوروبية للحصول على الموارد الطبيعية، وتقسيم مساحات واسعة من وسط إفريقيا وتحويلها إلى مستعمرات، تكثف الضغط الخارجي على قادة الكونغو المحليين. دفع الغرباء كلفة في محاولاتهم إخضاع المقاومة؛ ملاحظين في كثير من الأحيان أن الاستيلاء على القوة التي تتمتع بها تلك التكوينات (الأعمال): المانغآكا على سبيل المثال، كان بمثابة انتصار كبير في المعركة.

كان ذلك قرب نهاية القرن التاسع عشر، عندما عُرف معظم تكوينات (أعمال) المانغآكا مما بقي في حال لم يمسسه سوء، وتم أخذه من قبل الأوروبيين. بعضه انتهى في مجموعات فنية إلى الحكام الأوروبيين، أو إلى المتاحف. وتم الاحتفاظ بجزء آخر لدى الأفراد والجهات الخاصة.

التعطيل

أثبت الفحص بالمسح الضوئي أن معظم تكوينات (أعمال) المانغآكا المعروضة في متروبوليتان تمت إزالة الأشياء المقدسة داخلها. وتشير الدلائل إلى أن الإزالة جرت قبل التكالب على الكونغو من الغرباء في القرن التاسع عشر؛ ما يدفع إلى اعتقاد الباحثين بأن الكهنة كانوا غير مستعدين لتسليم تكوينات المانغآكا قبل إبطال مفعولها.

وقالت لاغاما: «بالنسبة إلى شعب الكونغو الذي ابتدع تلك الأعمال وقدمها إلى العالم، تظل المواد المقدسة المفقودة من القطع التي بحوزتنا، حافزاً قوياً».

وأضافت «تلك واحدة من الأعمال المفضلة في مجموعة متروبوليتان، ولكن نحن بحاجة أيضاً إلى فهم أن تلك الأعمال ليست مجرد مصادفة فارغة».

في مقال شونيا هاريس، نشره موقع (WWW.Khanacademy.org) تناولٌ للحماية الإلهية للأدوية المقدسة. والحماية الإلهية هي مركز لاعتقاد شعوب باكونغو (جمهورية الكونغو الديمقراطية). وتعتقد شعوب باكونغو أن الإله العظيم، ني كونغو، أنزل أول دواء مقدس (أو نْكيسي) من السماء في اناء خزف قائم على ثلاث أثافي.

نْكيسي (جمْعُهَا: مينكيسي) ترجمتها تتم بشكل فضفاض «الروح» حتى الآن تتمثل في كونها محتوى للمواد المقدسة التي يتم تفعيلها من قبل قوى خارقة للطبيعة التي يمكن استدعاؤها في العالم المادي. في المُتخيَّل، يمكن للمينكيسي (الآلهة) أن تكون بسيطة في هيئة فخار، أو أوعية تحتوي على الأعشاب الطبية، وغيرها من العناصر مصممة على أن تكون مفيدة في علاج مرض جسدي أو التخفيف من العلل الاجتماعية. وفي حالات أخرى يمكن للمينكيسي أن تكون ممثلة في حُزَم صغيرة، وتكوينات خشبية منحوتة. فالمينكيسي تمثل على حد سواء، القدرة على «احتواء» و «إطلاق» القوى الروحية التي يمكن أن تكون لها عواقب إيجابية وسلبية في الوقت نفسه على المجتمع.

نْكيسي نْكونديا مثال رائع لـ «نْكيسي» الذي يمكن العثور عليه في شخصية تمثل السلطة يطلق عليها نكيسي نْكوندي (شخصية ساحرة منحوتة على ما يبدو في شكل إنسان، تهدف إلى تسليط الضوء على وظيفتها في الشئون الإنسانية).

يمكن التعرُّف على نْكيسي نْكوندي إلى حد كبير من خلال الأوتاد المتراكمة، الشفرات، والمسامير أو غيرها من الأشياء الحادة التي يتم تثبيتها على سطحه. يتم تخزين التركيبات الدوائية التي يُطلق عليها بيلينغو أحيانا في رأس التكوين (العمل)؛ ولكن في كثير من الأحيان في جوْفه، والذي عادة ما يكون محمياً بواسطة قطعة من الزجاج، ومرآة أو سطح عاكس. يمثل الزجاج «العالم الآخر» من قبل أرواح الموتى الذين يمكن من خلاله رؤية الأعداء المحتملين.

مرصد للمكان وتحولاته

الكونغو بموقعها في وسط إفريقيا، واحدة من أهم الدول في القارة، بما تتمتع به من مساحة ممتدة إلى نحو 900 ألف كيلومتر مربَّع؛ علاوة على طاقات وإمكانات وثروات اقتصادية هائلة، إلى جانب تنوع سكاني، من دون أن نغفل مشكلتها الرئيسة التي كانت أحد العوامل في تقسيم القارة وتوزيعها على النفوذ الاستعماري الذي تعاقب عليها.

لعل أهم الفترات التي يمكن لأي مؤرخ الوقوف عليها، هي تلك التي تزامنت مع قيام بعض الممالك في الكونغو، وتحديداً في هضبة كاتنجا التي شهدت ازدهاراً، وبرزت وسط ذلك الازدهار مشكلة مملكة باكونجو، التي كانت تحتل الجزء الجنوبي من النهر في أراضي كل من الكونغو وأنغولا، وعرفت بعاصمتها «مبانزا كونغو».

بالاتصالات التي كانت إحدى الأسلحة للاحتواء، عمد الرحالة البرتغالي ديغو كام، إلى الاتصال بملكها بتفويض من ملكي إسبانيا والبرتغال، إضافة إلى البابا في روما، تكلَّلت باعتناق ملكها نزنجا المسيحية.

ديغو كام نفسه كان المُفتَتَح لاكتشاف البرتغاليين مصب نهر الكونغو في العام 1482م، وكانت المزاعم الرائجة وقتها من قبل البرتغاليين تتركَّز في أنهم لا يطمحون إلى تحقيق مكاسب في الإقليم الذي هيمنوا على أجزاء منه بقدر ما يطمحون إلى نشر الديانة المسيحية والحضارة الأوروبية.

مع مجيء البلجيكيين واستعمارهم للكونغو، حدثت فظاعات ربما لا تقل فظاعة عن المجازر التي ارتكبت، وفتح خطوط لبيع الرقيق في أرجاء القارة، أو نهب وطمس التراث الثقافي والحضاري للبلد، بل عمد البلجيكيون إلى منع الكونغوليين من تجاوز التعليم الابتدائي. وللذين لهم دراية بأوضاع البلد من خلال المصادر التاريخية المحايدة، يمكنهم الوقوف على حقيقة فقر وتدني نسبة تعليم الأفارقة، ويكفي معرفة أنه حين غادرت بلجيكا البلاد، كان عدد الذين حصلوا على شهادات جامعية، وصل فقط إلى 14 مواطناً كونغولياً.

وفي الممارسات والشواهد العنصرية التي اتبعتها بلجيكا، إلزام المواطنين الكونغوليين بحمل البطاقات الشخصية، والتي لابد أن تكون مرفقة بإيصالات الضرائب؛ عدا التحصُّل على إذن بالسفر من طرف السلطات.

الأهم من ذلك أن بلداً مثل الكونغو الذي يُعدُّ من أغني بلدان القارة السمراء بما يحتويه من البوتاس والنحاس والماس والذهب والنفط والقدرات الكهرومائية، وتصدير الأخشاب المدارية مثل الأبانوس والأكاجو؛ إلا أن ذلك لم يتح له مغادرة قائمة الدول التي تسجل فيها معدلات الفقر أرقاماً ملفتة، مقارنة بالثروات التي يتمتع بها، في الوقت الذي تركَّزت فيه استثمارات بلجيكا حتى اليوم في ذلك البلد، وفي المجال التعديني خصوصاً.

ضوء

يُذكر أن متحف المتروبوليتان للفنون، يقع في سنترال بارك في نيويورك. تأسَّس في العام 1870 ويعتبر من أشهر وأضخم متاحف العالم، ويحتوى على أثار من جميع الحضارات. يضم المتحف إلى جانب أجنحة تغطي قارات العالم، جناحاً خاصاً بالفن الإسلامي ترجع أعماله إلى القرن السابع الميلادي وحتى القرن التاسع عشر؛ بما فيها الخط العربي والمنمنمات والزخارف الإسلامية، والقطع الفنية التي تعكس تطور المعمار الإسلامي وصناعة النسيج وتطور فن السيراميك، في تغطية لأعمال من العالم الإسلامي القديم من الجزيرة العربية والأندلس ومصر وسورية والعراق والهند وفارس ومنغوليا الهندية.

وأما بقية الأجنحة فهي تتوزع ما بين الفن اليوناني والروماني القديم.

إضافة إلى جناح خاص بالفن الحديث الأوروبي والأميركي، يضم أعمالا فنية لأشهر فناني القرن العشرين مثل ماتيس وبيكاسو وكاندنسكي ومودلياني وفرناندو ليجير وجورج براك وخوان ميرو وآخرين. إضافة إلى أعمال أشهر فناني أميركا مثل جورجيا أوكيف ووليم ديكوني وجاكسون بولوك واندي وارهول وغيرهم.

العدد 4776 - الأحد 04 أكتوبر 2015م الموافق 20 ذي الحجة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً